المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن تأويل المعتزلة الذي هو تحريف لكلام الله جل وعلا، ثم بيّن بعض معاني التأويل والطرق التي يعرف بها مراد المتكلم, وتطرق إلى بيان قاعدة أهل السنة التي بها يعرف مدخل أهل البدع، وأتبع ذلك بذكر موضوع (التعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول) وأنه لا يكون، مع سرد الأدلة والأمثلة لدرء تعارض العقل والنقل.
  1. تأويل المعتزلة تحريف لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وتفسيره عَلَى ما أراد الله وعلمه].
    وهذا الموضوع وإن كَانَ جَاءَ به ضمن بحث الرؤية، إلا أنه مع ذلك من الموضوعات الأساسية في مباحث العقيدة، وهو معرفة حكم ألفاظ الشارع ومعانيها ودلالتها، وكيف فهمها أهل البدعة والرد عليهم في ذلك، فموضوع التأويل وأخذ الكلام عَلَى ظاهره من أساسيات موضوعات العقيدة ومباحث الصفات التي ينبني عليها: إما حق صراح وإما باطل محض، فعليها ركبت الضلالات والبدع عند أهل البدع، وعلى أساس فهمها الصحيح فهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات الله، وكان منهجهم في ذلك واضحاً جلياً، ووضعوا في ذلك قواعد عامة يهتدي بها طالب العلم لمعرفة ما يثبت لله تَعَالَى وما لا يثبت، وكيف يستدل عَلَى إثبات ذلك ولماذا لا يؤول؟ ولا يصرف اللفظ عن ظاهره؟
    فيقول أبو جعفر الطّّحاويّ:
    [وتفسيره عَلَى ما أراده الله تَعَالَى وعلمه، وكل ما جَاءَ في ذلك من الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كما قال، ومعناه عَلَى ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وحل ولرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد ما اشتبه عليه إِلَى عالمه].
    هذا العبارات تعطينا قاعدة عظيمة جداً من قواعد الأسماء والصفات وإثباتها: وهو أننا نثبت ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ونقول: تفسيره عَلَى ما أراده الله وعلمه، يعني: مع الإيمان بها وبمعناها الظاهر لنا
    ، فإننا نقول: إن الكيفية وحقائق هذه المعاني يعلمها الله، أما المعاني فنحن ندركها ونعلمها من كلام العرب. وكان السلف الصالح أعلم النَّاس بلغة العرب وقد فهموا الآيات والأحاديث في صفات الله من كلام الله ومن كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستفسروا عما كَانَ قد أشكل عليهم، وهم أعلم النَّاس في هذا الباب.
    أما حقائق الكيفيات التي لا يدركها الإِنسَان بعقله، ولا يمكن أن ينالها بنظره وفكره، فهذه نؤمن بها عَلَى ما أراد الله ولا ندخل في ذلك متأولين، كما أشار المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ- وبين في القاعدة العظيمة والأصل العظيم "أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فهذه القاعدة تشمل الأحكام، فلا نعترض عَلَى أحكام الله - عَزَّ وَجَلَّ- إذا أردنا أن يسلم لنا ديننا نسلم لله - عَزَّ وَجَلَّ- كل حكم يحكم به في الأحكام الشرعية، وحتى في الأحكام الكونية القدرية نسلم لله، ولا نعترض عَلَى أي قدر من أقدار الله في أنفسنا أو في الكون، ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] فإذا كَانَ هذا هو الواجب علينا في هذه الأحكام فكيف بما يخبرنا به - سبحانه- عن نفسه؟ بل هو أولى؛ لأنه من الغيب المحض الذي لا تناله العقول وتتقاصر دونه الأفهام، فنسلم به لله ولرسوله، وكل ما أتانا من الوحي نؤمن به ولا نعارضه أبداً.

    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
    [وقوله: وتفسيره عَلَى ما أراده الله وعلمه إِلَى أن قَالَ: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. أي: كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه.
    فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة والفاسد المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحفَّ بالكلام قرائن تدل عَلَى المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل عَلَى المعنى الذي يتبادر غيره إِلَى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم، لا إنشاء] إهـ.

    الشرح:
    الجهمية والمعتزلة الذين ينكرون صفات الله، أنكروا رؤية الله في الدنيا والآخرة، وكذلك من تبعهم من الخوارج ينكرون رؤية الله في الدنيا والآخرة، وكذلك الإمامية فإنهم أخذوا بعقيدة المعتزلة منذ القرن الرابع تقريباً فما بعد فكل هذه الفرق نفت وأنكرت الرؤية، ولم تعمل بما جَاءَ في كتاب الله وفي حديث رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق بإثبات رؤية الله وحرفوا معناها، ولهذا ذهب المُصنِّفُ تبعاً للطحاوي إِلَى أن التأويل باطل، وقوله هنا: [وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مواضعه] هذا هو التعريف الصحيح للتأويل الذي يدعيه ويزعمه المتأخرون، فهو في الحقيقة تحريف، ولكنهم سموه تأويلاً.
    1. من معاني التأويل

      1- أنه بمعنى التفسير: وهو أكثر ما كَانَ يستخدمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم مثل: تفسير الطبري فعند تفسيره للآية يقول: وتأويل قوله تَعَالَى :... وكان السلف إذا سأل أحدهم عن معنى آية يقول: ما تأويلها. هذا هو معنى التأويل في كلامهم.
      2- هو ما تؤول إليه حقيقة الشيء وقوعه، كقوله: ((هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ))[الأعراف:53] أي: يوم يقع هذا الذي ينكرون، وفي قصة يوسف ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ)) [يوسف:100] أي: وقت وقوع الرؤيا التي رآها وهو صغير وهي قوله:((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ))[يوسف:4].
      وبعد أربعين سنة جَاءَ أبوه وأمه وإخوانه الأحد عشر، ورفعوه عَلَى العرش وخروا له سجداً فقَالَ: ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ)) [يوسف:100] ولهذا فقوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] يجوز للقارئ أن يقف هنا، وهو قول طائفة من السلف. والمقصود أن كيفية وقوعه وتحققه لا يعلمها إلا الله.

      فجاء المتأخرون ووضعوا معنى جديداً وسموه تأويلاً وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إِلَى الاحتمال المرجوح، لأن اللفظ يحتمل معنيين فيصرفونه عن المعنى الظاهر الراجح إِلَى المعنى المرجوح يضعونه من عند أنفسهم وهذا هو التأويل المذموم، وهو الذي مشى عليه الذين أولوا صفات الله تَعَالَى، وهو من أعظم الأبواب التي هُدم الدين بها، ولهذا جعله ابن القيم في كتاب الصواعق المرسلة عَلَى الجهمية والمعطلة: طاغوتاً من الطواغيت الكبرى، ورد عليه وهدمه؛ لأنه باب دخل منه المؤولة، فنفوا صفات الله: فنفوا اليد والعين والنزول والرضا والغضب وغيرها، وهذا المدخل لما دخل منه نفاة الصفات، وأقروه قالوا: هذا هو دين الإسلام وحقيقته، ولا يجوز لأحد أن يعتقد ظاهر هذه النصوص.
      ثُمَّ جَاءَ أناس شر منهم وأخبث، ودخلوا من باب التأويل، وهدموا دين الإسلام بالكلية، وهم الباطنية فقالوا: لا يوجد قيامة ولا بعث، ولا نشور، فيُقال لهم: في القُرْآن والسنة أحاديث تدل عَلَى وجود قيامة وعلى نعيم الجنة، وعذاب القبر ونعيمه، فيقولوا: نؤوله مثلما أولتم آيات الصفات، فذهبوا إِلَى أبعد من ذلك، فأولوا الصلاة والزكاة والحج حتى الأشياء التي تناقلها النَّاس بالعمل.
      فالصلوات الخمس عند الباطنية عَلِيّ وحسن وحسين وفاطمة ومحسن هذه هي الصلوات، وعلى هذا لم يبق من الدنيا شيء يتمسك به، فهَؤُلاءِ القوم أولوا مثلما أول غيرهم، وكان السبب أُولَئِكَ الذين فتحوا باب التأويل وأقروه؛ لأن الإِنسَان عندما يقر مبدأ معيناً ويستخدمه، كيف يمنع خصمه أن يستخدمه، يقول الشاعر:
      فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها            وأول راضٍ سيرة من يسيرها
      أول من يرضى بها من سار بها، فلا تغضب إذا سار غيرك هذه السيرة، فكان هذا من أبواب الشر الكبرى التي فُتحت في دين الإسلام،
      ثُمَّ احتار النَّاس بعد ذلك ماذا يؤولون، وماذا لا يؤولون؟ ووقعت الأمة في خلاف عظيم كما في كتاب قواعد العقائد وقد طبع مستقلاً، وهو جزء من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فعند موضوع التأويل قَالَ: الخلاف في التأويل عظيم: فمن النَّاس من أول كل شيء حتى الصلوات، ومنهم من قَالَ: لا نؤول أي شيء، ومن ذلك الحنابلة، ثُمَّ احتاروا ولو أنهم ردوا الأمر عَلَى ما كَانَ عليه السلف لما كَانَ هناك حيرة.
      ثُمَّ هو بين انحلال الباطنية والقائلين بالكشف، أي: الذين يذكرون الله كثيراً حتى يأتيهم الكشف! ثُمَّ يلقي في قلب أحدهم أن هذه الآية أولها، وهذه الآية لا تؤولها، أو يكون في المنام فيأتيه شخص فَيَقُولُ: أنا رَسُول الله أو أبُو بَكْرٍ أو عُمَر أو الشيخ الفلاني وهذه الآية لا تؤولها، وهذه الآية أولها، إِلَى هذا الحد يصل ديننا، فنحتاج إِلَى مكاشفات ومنامات وخيالات حتى نعرف حقيقة ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
      هل أنزل الله القُرْآن هدى وبياناً وشفاءً لما في الصدور وجواباً قاطعاً لكل شبهة إِلَى قيام الساعة أم أنزله في وضع محير للعقول لا بد له من الكشف؟
      وكم هم من يستطيع أن ينال الكشف من الناس؟!
      وإلا تحتار العقول كيف تؤول؟
      والحل والمخرج الصحيح هو ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من غلق باب التأويل بالكلية .
      وقوله: [فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة والفاسد المخالف له]. يعني: أن التفسير الصحيح هو الذي يفسر الآيات أو أحاديث الصفات عَلَى ما يوافق السنة، أو عَلَى فهم الصحابة والتابعين النابع من فهمهم لكلام العرب.

      ثُمَّ قال المصنف: [فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه] والمبين الهادي هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنزل الله إليه الذكر ليبين للناس ما نُزِّل إليهم، وهو الذي يشرح ويوضح كلام الله تعالى، فإذا جَاءَ معنى من المعاني فلا بد أن يكون إما ظاهراً واضحاً بنفسه لمن تأمله، وأما أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تعتقدوا ظاهر هذا النص وهذا المعنى الواضح، الذي إذا قرأتموه فهمتموه، فإذا كَانَ هذا الأخير، فإنه يجب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين هذا، فإذا كَانَ العرب يفهمون من استوى: استقر وعلا وارتفع وصعد وأمثال هذه المعاني الواضحة من لغة العرب، وفهمها السلف وفسروها بذلك، بينما يكون المعنى الصحيح هو استولى، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه هذا القُرْآن وقرأه بين أظهرهم، وأوجب الله عليه أن يبين لهم، كَانَ ينبغي عليه ولو مرة من المرات في جلسة من الجلسات أن يقول لهم: انتبهوا إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله أو قلت لكم حديثاً في الصفات، فلا تأخذوه عَلَى ظاهره؛ بل لا بد أن تؤولوه وتخرجوه عن كلام العرب، وهذا في الحقيقة لم يحصل ولا يمكن أن يحصل.
      ولهذا فالذين تراجعوا عن التأويل من المؤولين استدلوا بهذا الدليل الجلي الواضح كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية والتي رجع فيها عن مذهب التأويل مستدلاً بهذا الدليل فقَالَ: وجدنا السلف مطبقين مجمعين عَلَى عدم التأويل، وهم أعلم النَّاس بالدين وأشدهم فهماً وأحرصهم عليه، فلو كَانَ هذا التأويل، حقاً لسبقونا إليه فلما وجدنا إطباقهم جميعاً عَلَى عدمه علمنا أنه باطل، فهذا استدلال صحيح.
      لكن تأتينا قضية أخرى لا بد من بيانها: وهي كلمة الظاهر في آيات وأحاديث الصفات، وقولنا تفهم عَلَى ظاهرها فما هو ظاهرها؟ وكيف نفهم هذا الظاهر؟ وما هي أقوال النَّاس في ذلك؟ وهذه القضية من أخطر القضايا التي ضل فيها كثير من الناس، ولم يفهموها حق فهمها.
      فنجد في كتاب العقائد من علم الكلام يقولون: (ونؤمن بهذه الصفات ونقرها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد!) ويأتي بعضهم فَيَقُولُ: "اتفق السلف والخلف عَلَى أن ظاهر الآيات غير مراد ولكن افترقوا فريقين: فالسلف فوضوا والخلف أولوا وطريقة السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم، فعندما يقرأون قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) فالظاهر الذي فهموه من هذه الآية أن الاستواء هنا مثل استواء المخلوقين، ولهذا قالوا: إن السلف والخلف متفقون عَلَى أن الظاهر غير مراد، فنقول لهم: أخطأتم في إطلاق كلمة الظاهر هنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مراد! ومقولتكم هذه كانت بسبب ما تقرر لديكم ومن ثُمَّ أوجبتم تأويل ظاهر النصوص.

      فيذكر المُصنِّف هذه القاعدة فَيَقُولُ: فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه إذ لو قصده -يعني: الهادي المبين وهو الرَّسُول الذي يبين كلام الله وكلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قصده أو حتى القُرْآن لو قصد المعنى غير المتبادر إليه- لحف بالكلام قرائن تدل عَلَى المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ -لأنه إذا لم يبين ذلك وقع السامع في اللبس والخطأ- فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل عَلَى المعنى الذي يتبادر غيره إِلَى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدى فإذا كَانَ الله تَعَالَى يريد بهذه الكلمة معنى من المعاني، ولم يدل عليه ولم يجعل قرينة تدل عَلَى صرفه عن المعنى الذي يفهمه النَّاس منه، ولم يبين رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فعلى هذا لا يكون القُرْآن هدىً ولا بياناً بل يصبح ذا حيرة ومتاهة، وهذا لا يكون في كلام الله ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً.
      والسلف الصالح لم يكن يتبادر إِلَى أذهانهم عند قراءتهم لآيات الصفات أن الظاهر الذي يثبتونه لله هو ما يوافق وما يشابه صفات المخلوقين. فالخطأ عند المبتدعة كـأهل الكلام والمعطلة أنهم تصورا أن هذا هو الظاهر، ومن ثُمَّ أخذوا يأولون عَلَى ما تصوروا، لكن السلف الصالح فهموا قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) فكانت قاعدة مقررة لديهم وكل مسلم تُرك عَلَى فظرته السليمة، فإنه يوقن بذلك، فإذا قلت لأحدهم: هل علمك مثل علم الله وحياتك مثل حياة الله؟ فسيقول: أعوذ بالله، وهذا هو لسان العوام الذين لم يعلموا من الدين إلا ما عليه الفطرة السليمة، فكيف يظن بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف الصالح أنهم فهموا آيات الصفات أنها تعني مشابهة الله للمخلوقين، بل ظاهرها اللائق بجلال الله تَعَالَى وعظمته هو المعنى الظاهر عند السلف.
      وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ له رسالة مستقلة في موضوع الظاهر ومعناه، وأدلة السلف على أن ظاهر الصفات هو ما فهمه السلف الصالح وهو اللائق بجلال الله تعالى، وهذه الرسالة تسمى الرسالة المدنية طبعت مستقلة، وكذلك موجودة في الجزء السادس من مجموع الفتاوى والرسالة المدنية كتبها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إِلَى بعض أهل المدينة من أهل العلم يبين لهم حقيقة مذهب السلف الصالح في صفات الله، ورد فيها عَلَى القائلين بالتأويل والمجاز الزاعمين أنه خلاف الظاهر،
      ثُمَّ بين لهم ما معنى الظاهر وما حقيقته؟ ومن جملة ما بين لهم ما أخذ منه المُصنِّف هنا بعض المقتطفات:
    2. احتياج صرف النصوص عن ظاهرها إلى أمور أربعة

      قَالَ: [إن صرف النصوص والأحاديث في الصفات عن معانيها اللائقة بجلال الله إِلَى أي معنى أخر يحتاج فيه إِلَى أربعة أمور] وهذه الأمور لم تتحقق:
      الأمر الأول: لا يستطيع أحد أن يثبت أن هذا الظاهر أو أن هذا اللفظ الذي استعمله فيما يتعلق بالصفات استُخدم في القُرْآن وفي السنة بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي، وهذا الذي أشار إليه المُصنِّف هنا وهي قضية مهمة جداً.
      فيقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء] والفرق بين الإنشاء والخبر: أن الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، كقولك: جَاءَ مُحَمَّد فهو محتمل للصدق والكذب، والإنشاء ما لا يحتمل الكذب أو الصدق كقولك: هل جَاءَ زيد؟ فهذا لا يحتمل الصدق ولا الكذب
      فالذي يقرأ قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] ويقول: إن استوى بمعنى استولى ويقرأ قوله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) [البقرة:255] ويقول: العلو هنا علو القهر لا علو الذات يقال له: لقد قلت خبراً من عندك فهو إخبار بمراد المتكلم فكأنك تقول: إن ربكم تَعَالَى لما أنزل عليكم هذه الآية يقول لكم اعتقدوا أني عالٍ عليكم بقهري وغلبتي ولا تعتقدوا أني عالٍ عليكم بذاتي، وهذا كلام خطير جداً، هذه القضية الأولى أن يقول قائل: بأن المعنى الذي جَاءَ في الكتاب أو في السنة هو المعنى المجازي أو المعنى الذي يؤولونه به وليس غيره.
      القضية الثانية: أن يكون معه دليل يوجب صرف المعنى عن ظاهره، فيقول مثلاً: " العلي": تحتمل العلو بالذات، وتحتمل العلو بالقهر والغلبة؛ و" الاستواء " يحتمل الاستيلاء ويحتمل العلو والارتفاع، وأنا لدي دليل يوجب صرف المعنى الذي يقوله السلف وهو: الاستواء الحقيقي، بحيث لو قال أحد: إن الله علا عَلَى خلقه بذاته قَالَ: هذا مشبه ومجسم، والاعتقاد الصحيح والراجح الذي يجب عَلَى كل مسلم أن يعتقده أنه علو بالغلبة فقط! أو أنه الاستيلاء وليس الاستواء! فإذا جئت إِلَى الدليل الصارف الذي يصرف المعنى من هذا إِلَى ذلك قال لك: البراهين العقلية تثبت أن الله لا يتصف بعلو الذات أو الاستواء، أي: أنه لا يتصف بصفات المخلوقين، والرد عليهم من وجهين:
      الوجه الأول: أن الظاهر -كما سبق أن قلنا- لا يدل عَلَى المشابهة.
      والوجه الثاني: أن الذي ينفي هذه المعاني لو احتملها الخيال ليس القواطع أو البراهين العقلية، وإنما هو كتاب الله نفسه قال تَعَالَى :((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]
      ، فمنهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو إثبات ونفي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فما ننفي شيئاً إلا لأن الله نفاه، لا لأن العقول أو القواطع أو البراهين دلت عليه، وما نثبت شيئاً إلا لأن الله أثبته، هذا هو المنهج المتوازن، وليس فيه خلل ولله الحمد.
      وأما هم فالخلل كبير جداً عندما أتوا ووضعوا قانون التأويل هكذا يسمونه، وقالوا به نعرف ما الذي يؤول وما الذي لا يؤول، وبمعنى آخر ما هي المواضع التي تقدم فيها البراهين العقلية، وماهي المواضع التي يؤخذ بها بظواهر الآيات، ولقد تكلموا في ذلك وأطالوا، وممن تكلم في ذلك إمامهم فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير، وقد ذكر الرازي هذا المبدأ في التأويل ورجح أنه إذا تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي قدم الدليل العقلي، فرد عَلَى هَؤُلاءِ الذين يرون أنه يمكن أن يتعارض دليل عقلي مع دليل نقلي شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، في كتابه الكبير الذي لم يكتب في بابه مثله أبداً أي مؤلف لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة وهو كتاب درء تعارض العقل والنقل، ذكر في أوله القانون الكلي للتأويل ثُمَّ أخذ يرد عليه من وجوه طويلة جداً استغرقت هذه المجلدات الطويلة، فالحاصل أن دعواهم باطلة، وحجتهم داحضة، فليس هناك دليل يوجب صرف اللفظ عن المعنى الراجح وعن الظاهر المتبادر إِلَى الاحتمال المرجوح
      .
      القضية الثالثة: أن يسلم الدليل الصارف من المعارض، فنفرض وجود لفظ له احتمالات فأتى القوم بدليل يصرفه عن الاحتمال الراجح.
      فيقال لهم: هل تجزمون أن دليلكم هذا سالم من المعارض؟
      والجواب إن المعارض موجود وقوي في كل ما أولوه، هذه هي العقبة الثالثة التي لا يستطيعون أن يتجاوزوها.
      العقبة الرابعة: وهي أنه يجب عليهم أن يأتوا قبل أن يؤولوا ببيان عن رَسُول الله يبين أن الله أو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد من اللفظ خلاف الظاهر وهذا لا يمكن أن يقع، فالنصوص التي يريد فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى غير المعنى المتبادر، فإنه يوضحها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواءً أحاديث الصفات أو غيرها فمثلاً حديث: {مرضت ولم تعدني} لم يقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل جَاءَ بعده فَيَقُولُ: {أتمرض يا ربِّ! وأنت رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: مرض عبدي فلان ولم تعده}.
      فبين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المرض ليس من صفات الله، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد له أن يبين حتى في غير نصوص الصفات، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا يا رَسُول الله: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} والرَّسُول يريد معنى آخر بين لهم ذلك بقوله: {المفلس من يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بحسنات مثل جبال تهامة، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فتعطى لهم حتى إذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فوضع في النَّار} فلما كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد معنى غير المتبادر، وغير المفهوم عند النَّاس بين لهم. فالقصد أنه عندما نأتي إِلَى آيات وأحاديث الصفات، ولا نجد مرة واحدة قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تفهموها عَلَى ظاهرها، فليس العلو مثلاً علو الذات بل هو علو القهر، وليست اليدان حقيقة بل هي الحفظ والرعاية، وليس الرضى والغضب عَلَى الحقيقة بل هو إرادة الانتقام فإن ذلك كله يدل دلالة واضحة عَلَى أن مذهبهم في التأويل باطل ومذهبهم في صرف اللفظ عن ظاهره باطل ولا يعول عليه هذه عقبات أربع لا يمكن أن يتجاوزوها أبداً.
  2. الطرق التي يعرف بها مراد المتكلم

     المرفق    
    قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
    [ وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] و(إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} ] إهـ .
    الشرح:
    عندما يتكلم أي متكلم فالمطلوب منا إذا استمعنا له أن نفهم ماذا يريد بكلامه على ظاهره الذي يفهمه أي إنسان مخاطب به، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا كان إخباراً به عن المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، لأنك قد قلت كلاماً ما أراده عندما تكلم به.
    وهنا سؤال وهو كيف يعرف مراد المتكلم ؟
    هناك أوجه عقلية يعرف بها مراد المتكلم:
    الأولى: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، بحيث لو اشتبه المعنى على بعض الناس تجده يقول: والمعنى الذي قصدته كذا وكذا، أو لو كانت كلمته مجملة تحتمل عدة معاني فإنه يقول: أنا أردت هذا المعنى ولم أرد ذلك المعنى .
    الثاني: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهراً في الوضع الذي وضع له في اللغة ولا يأتي بقرينة تدل على صرفه: فمثلاً كلمة العين في لغة العرب تطلق على الذهب وعلى عين الماء وعلى العين العادية، فلو أن شخصاً قال -بدون أي قرينة-: أنا عندي عين فمن الممكن أن يقصد أن عنده هذه العين التي في رأسه، أو عنده ذهب، أو عنده ماء، لأنه لا يوجد قرينة تدل على أحد هذه الأشياء فلو قال: أنا عندي عين أنظر بها فيكون بهذا قد اتضح المراد فلا يمكن أن تقول بعد ذلك لعل قصده الذهب أو الماء ...لوجود القرينة التي تدل على أنه قصد العين التي في رأسه وهي قوله: "أنظر بها"، فإذا دل ظاهر الكلام على المراد ولم تأت قرينة تصرفه عن ذلك، فهذا هو الأصل وهو: أن يؤخذ بظاهر الكلام .
    ومن خالف فقد خالف ما هو معهود في كلام الناس فمثلاً يقول تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ))[البقرة:113] فاليهود عندما قالت: يد الله مغلولة، فهم يقصدون بذلك اليد المعروفة، ولما ردَّ اللهُ عليهم قال: ((غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)) [المائدة:64] وهي الأيدي المتصف بها اليهود المعروفة أيضاً في اللغة، ثم قال: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64] فهل هذا المعنى يحتمل التأويل؟
    الجواب: لا يحتمل التأويل؛ لأنه واضح ومحدد حتى في اللغة العربية.
    فإذا قال قائل معناها: نعمتاه مبسوطتان.
    قلنا له: هذا معنى بعيد جداً ولا يمكن أن يتصور في هذه الآية إذ المصدر لا يثنى، فلا يمكن أن يحمل قوله تعالى:((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64] إلا على المعنى الحقيقي، فكيف يصرف عن المعنى الظاهر والمتكلم قد جاء بالقرائن التي تدل على أنه يريد الظاهر الذي يفهمه كل إنسان من اللفظ.
    يقول المصنف رحمه الله: [فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتة وما وضع له كقوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] وقوله هذا لا يمكن أن يحتمل أن يكون مراده الكلام النفسي أو أنه خلق الكلام في الشجرة، والشجرة خاطبت موسى كما تقول الأشعرية وغيرهم من المؤولة.
    فعندما تقول: قابلت فلاناً مقابلةً فإنه لا يمكن أن يكون بالتلفون ولا بالبريد، فإنك قد أتيت بالفعل وأتيت بالمصدر لتؤيد ذلك وتؤكده وعليه تكون قد نفيت أي احتمال، كذلك نصوص الصفات، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنكم ترون ربكم عيانا ً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب}، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المراد منه: إنكم ترون نعمة الله، وفي الحديث الآخر: {كما ترون هذا القمر} فأشار بإشارة حسية إلى شيء معروف لدى جميع المخاطبين، حتى يفهم أقل الناس تفكيراً ونظراً وبهذا يتضح أنه لا يحتمل المعنى الذي ذهبت إليه الفرق التي تنفي رؤية الله سواء كانت المعتزلة او الجهمية أو الإباضية او أي فرقة من فرق الضلال .

    يقول المصنف -رحمه الله تعالى-:
    [ فهذا مما يقطع به السامع فيه بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة كان صادقاً في إخباره وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي وتوهم بالهوى ] إهـ.
    الشرح:
    ومعنى هذا الكلام أنك إذا قلت: إن الله تعالى أو إن رسوله صلى الله عليه وسلم يريد بالرؤية الرؤية الحقيقية البصرية، فأنت تخبر عن الله فلا بد أن تقول هذا بعلم، فإن كنت قلته بناء على أن هذه الآيات والأحاديث واضحة بهذا المعنى فإخبارك عن الله صادق، فمن قال: إن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} أننا نرى الله في الآخرة حقيقة بأبصارنا، فهو صادق في إخباره عن رسول الله أو عن الله تعالى، ولو أتى شخص وقال المراد بالرؤية النعمة، أو المراد انتظارها فإننا نقول: هذا كاذب في إخباره عن الله وعن رسول الله؛ لأنه ليس إنشاءاً بل خبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
  3. قاعدة أهل السنة التي عرفوا بها مدخل أهل البدع

     المرفق    
    يقول المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
    [وحقيقة الأمر: أن قول القائل نحمله عَلَى كذا، أو نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده، دفع معناه، وقَالَ: أحمله عَلَى خلاف ظاهره] إهـ.
    الشرح:
    هذه قاعدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ التي بها عرفوا مدخل أهل البدع، وأصل أهل البدع في جميع الصفات، ولماذا ينفونها؟ وهو أنهم لما قالوا في آيات الصفات نحملها عَلَى كذا ونحملها عَلَى كذا أرادوا أن ينفوا المعنى.
    فمثلاً علو الله تَعَالَى نفوه وعندما أتوا إِلَى الآيات التي تثبت العلو لم يقولوا: إن الله لم يقل في القُرْآن أنه العلي، أولم يقل في القرآن: ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك:16] لأنهم لو فعلوا ذلك لوقعوا في الكفر الصريح الواضح، فهم لا يريدون إثبات المعاني ويريدون أن تبقى الألفاظ، حتى لا يُقَالَ: إنهم أنكروا ألفاظ الكتاب والسنة، فَقَالُوا: لفظ العلو يحتمل معنيين معنى كذا ومعنى كذا، فنحن نصرفه عن المعنى هذا، ونأخذ المعنى الآخر، وهذا مدخل يريدون به أن يبقى اللفظ مجرد رسم وينفوا حقيقته التي أرادها الله تعالى، هذا هو حقيقة مذهبهم وهكذا فهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مرادهم، فهم لا يستطيعون أن ينفوا الآيات لكن يأتون بما يخلي الآية ويفرغها من مضمونها ومحتواها.

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [فإن قيل: بل للحمل معنى آخر، لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً لا ابتداءً] إهـ..
    الشرح:
    رد أهل البدع والمتكلمون عَلَى ما قلناه فَقَالُوا: نَحْنُ لم نقصد ما قلتموه بل للحمل معنى آخر لم تذكروه ولم تنتبهوا له يا أهل السنة وهو: [أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد فحملناه عليه دلالة لا ابتداء].
    أي: أننا لم نرد من أول الأمر أن نغير النصوص ونفرغها من معانيها، ولكن عندما قرأنا هذه النصوص استحال بالعقل أن نقول إن الله فوق العالمين بذاته! هكذا قالوا! فاضطررنا أن نؤوله هذا حال المؤولين.
    1. من مداخل المؤولين والرد عليهم

      والرد عليهم واضح ومعلوم للجميع، أنه إذا كانت العقول تدرك ما يجب لله وما لا يجوز قبل أن تأتي النصوص، فما الحاجة إِلَى الوحي؟
      أما الآخرون فيقولون: نَحْنُ قرأنا الآيات والأحاديث لأننا نريد أن نفهم منها ما يجب لله وما لا يجوز، فلما قرأناها وجدنا أن فيها نصوصاً يستحيل إثباتها عقلاً، ولهذا أولناها، ووجدنا نصوصاً أخرى لا يحكم العقل باستحالتها فأثبتناها.
      وإذا قالوا: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل، فنرد عليهم بأن الله تَعَالَى أنزل في كتابه هذه الآيات الكثيرة وبلغها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر جملة من الصفات وفهمها هو والصحابة، والصحابة تعلموها وعلموها غيرهم، وما اضطروا إِلَى تأويلها حتى جئتم أنتم في القرن الخامس وفي القرن السابع والثامن، وقلتم: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل!!
      إذاً.. الخطأ في فهمكم أنتم عندما قلتم: يستحيل عقلاً إثباتها، ومعارضتكم للنص -أصلاً- خطأ ولو جعلتم عقولكم تابعة للكتاب والسنة ما وقع عندكم هذا، ولا اضطررتم إليه، وبعضهم يقول: نَحْنُ مضطرون إِلَى أن نؤول حتى لا يكون في كتاب الله تصادم وتناقض! سُبْحانَ اللَّه! ينزل الله في كتابه الهدى والبيان، وأنت أيها العبد الضعيف تأتي بعد قرون تؤول بعضه وتترك بعضه حتى لا يكون متناقضاً! كَانَ الأحرى بك عند توهمك التعارض أن تتهم عقلك وفهمك وأن تسأل أهل العلم كيف يجمعون بين الآيات وبين الأحاديث عند توهم التعارض. وبهذا يعلم أن القوم منهجهم التحريف في نصوص الكتاب والسنة ولا ضابط لهم إلا الهوى والتحكم بغير دليل، وهم فروا من التشبيه ووقعوا في شر منه وهم لا يشعرون.
    2. ذكر استدراك يستخدم في لغة العرب

      ولهذا أجاب المُصنِّف فَقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
      [قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده؛ بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعمية عَلَى السامع حيث يسوغ ذلك، ولكن المنُكَر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده، كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ويكرره غير مرة ويضرب له الأمثال] اهـ.
      الشرح :
      ذكر المُصنِّف أن الاستدراك الأخير جائز، وقد يقع في لغة العرب أو عند بعض النَّاس وذلك مثل الألغاز اللغوية أو الألغاز النحوية، وهو أن يأتي الشخص بكلامٍ ولا يقصد ظاهره ليعمي عَلَى النَّاس وحتى لا يعرف المعنى الذي قصده صاحب اللغز وهو يريد التعمية عليك، ويقع هذا -أيضاً- في المعاريض، فلو سألك شخص أين فلان؟ وهو عندك، وتخشى عليه من صاحب ظلم وشر يريد أن يبطش به، فتقول: ليس هنا! وتشير إِلَى إصبعك فهذا وأمثاله يسمى المعاريض، وهي جائزة في الشرع إذا كانت المصلحة راجحة، فتستخدم مثل هذه الأمور من أجل التعمية والتورية.
      لكن هل ينطبق هذا عَلَى الكتاب والسنة؟ بمعنى هل ينزل الله شيئاً في كتابه ويريد به التعمية علينا حتى لا نفقه ظاهره؟ أو أنه جَاءَ بأوضح البيان وقال الله فيه: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً)) [آل عمران:138]؟
      والجواب واضح وهو: أن هذا البيان والهدى والرحمة الذي أنزله الله تَعَالَى ما كَانَ يجعل فيه تعمية عَلَى العقول! بل حدى التأويل ببعض المؤولة إلى أن يؤولوا أحاديث الدجال فَقَالُوا: المقصود بالدجال الحضارة الغربية؛ لأنها حضارة عوراء فيها الجانب المادي وليس فيها الجانب العملي!
      والأحاديث التي فيها أنه رجل وأنه يخرج من المشرق ويمشي إِلَى المغرب ثُمَّ يقابله فتى يقول له كيت وكيت ومكتوب عَلَى جبهته كفر، قَالَ: هذه نؤولها! فيا ترى ما حال هَؤُلاءِ المؤولة عندما يظهر الدجال ويرونه بالوصف الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماهو موقفهم إذا تجلى الله لأهل الجنة ثُمَّ كشف الحجاب عن وجهه ورأوه؟ ماذا يكون موقف الذين ينكرون الرؤيا ذلك الوقت؟ فعلى الإِنسَان أن يحتاط لدينه.
  4. لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
    [وقوله: فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد علم ما اشتبه عليه إِلَى عالمه، أي: سلَّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو يقول: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل! فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط، لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثلَ ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً فذلك الذي يدَّعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك.
    وإن كَانَ النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيُقَالَ: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل عَلَى صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل عَلَى صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل، لزم ألا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل.
    فالواجب كمال التسليم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يعارضه بخيال باطل، نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً أو نقدم عليه أراء الرجال وزبالة أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِل بالعبادة، والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
    فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إِلَى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم، وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقَالَ: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال؛ بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه، كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به، حتى يعرضه عَلَى رأي فلان وكلامه ومذهبه؟ بل كَانَ الفرض المبادرة إِلَى امتثاله من غير التفات إِلَى ما سواه ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسه وتلغى نصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله عَلَى موافقة فلان دون فلان كائناً من كان] إهـ.

    الشرح:
    هذا كلام عظيم جداً ينبغي لنا دائماً أن نعرفه، وأن نتعلمه ونعلمه للناس بهذه الألفاظ أو بأي ألفاظ أخرى.
    إن ديننا هو دين اتباع وتسليم، ولو أننا كنا لا نؤمن إلا بما تقبله عقولنا لما دخلنا في دين الله تعالى. فعقل هذا لا يقبل عذاب القبر، وعقل هذا لا يقبل العلو، وعقل الثالث لا يتصور كيف ينزل الوحي من السماء، وعقل الرابع لا يتصور أن يكون الرَّسُول من بشر بل لا بد أن يكون عنده من الملائكة أو النور، وعقل هذا يريد أن تكون السنة كلها متواترة، وعقل الآخر يقول: لا داعي للسنة، والقرآن يكفي، كم عقول وكم أراء تواجه دين الله تعالى، فديننا اسمه (دين الإسلام) أي: أن نستسلم لله تَعَالَى بقلوبنا وعقولنا وجوارحنا، ونوحد الله تَعَالَى توحيد المرسل بعبادته والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتحاكم إِلَى دينه، والرغبة والرجاء وكل أنواع التوحيد المعروفة وكل أنواع العبادات تصرف له وحده، ونوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطاعة. وبالاتباع، فعنه نأخذ، وعنه نتلقى، ولا نعارض كلامه بكلام أي أحد من النَّاس كائناً من كان، ولا نوقف الإيمان بشيء جَاءَ في الكتاب أو في السنة حتى نرى ما قال فيه عقل أفلاطون أو ما قال فيه أصحاب الكلام أو ما ذكر الإمام أو المذهب فهذه معصية.
    إن من أعظم أسباب انحراف الْمُسْلِمِينَ وحلول الهزائم والمصائب بالأمة الإسلامية أنها أعرضت عن هذا الأصل، فإنك قد تقول لأحدهم: قال الله؛ قال رَسُول الله فيقول لك: أخر ذلك حتى نرى ما قالوا لعلهم أولوها!! سُبْحانَ اللَّه، أنزل الله كلاماً واضحاً ليتعبد به وليؤمن به، وهذا يحيل إِلَى معارض محتمل وإلى معارض متوهم ليعارض به ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو أساس المصائب والبلايا.
    والانحراف في الأسماء والصفات سببه كالانحراف في حياة الْمُسْلِمِينَ العامة، الانحراف في العبادات، فلو أنك ذهبت إِلَى بعض البلاد ونظرت إِلَى الصلاة التي يصلونها وما يكون من الأذكار البدعية قبل الصلاة وبعدها ماظننت أنها الصلاة التي يصليها الْمُسْلِمُونَ، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاءنا إلا بدين واحد، وما علم أصحابه إلا صلاة واحدة وما هذه النتيجة إلا لأنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع وبالطاعة وبالتحكيم، ويقدم كلامه عَلَى كلام أي أحد كائناً من كان، فضعنا في عباداتنا وفي أحكامنا وقضاءنا ومعاملاتنا واعتقادنا وفي كل شيء، وسبب الضياع هو عدم التسليم لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يخبر، وعدم الإذعان لأمره، وعدم الانقياد للوحي والإيمان بأنه لا خير ولا نور ولا هدى ولا حكمة إلا فيما أنزل عَلَى رَسُول الله، وما عداه إن عارضه فإننا نضرب به عرض الحائط ولا نبالي به، كما علمنا أئمة الإسلام الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    ومعنى ما ذكره المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ- يدور عَلَى موضوع تعارض العقل والنقل وهو من أكبر الأبحاث، وأعظم الموضوعات المهمة في أبواب العقيدة.
    بل إننا نقول الآن: إن مسألة المصدر الذي نتلقى منه الحق ونقيس به الأمور، فيعرف صحيحها من سقيمها والتي يجب عَلَى الإِنسَان أن يعرفها، هي أعظم المسائل التي خاضت فيها العقول البشرية والآراء والأفهام منذ القدم، فليس هناك من كتاب في الفلسفة أو التاريخ أو في أي فن من الفنون العلمية، إلا وهو يقول: إن ما نكتبه ونقوله هو الحق، ومعيارنا في ذلك هو الحق وكذلك ما من خطيب أو متكلم إلا ويقول: أنا الذي عَلَى الحق في هذا الرأي ودليلي ومعياري في هذا الحق هو كذا وكذا من الأدلة، ويأتيك بمصدره الذي استقى واستمد منه هذا الحق، ومن هنا نعرف أهمية مصدر الاستمداد والتلقي لكل إنسان.
  5. أي فكرة أو مذهب لا تخرج عن مصدرين

     المرفق    
    كل فكرة ومذهب -في اعتقادنا- لا تخرج بأي حال من الأحوال عن مصدرين:
    المصدر الأول: الوحي، وهو الكتاب والسنة وما تفرع منهما واتبعهما، من الفهم والفطرة القويمة السليمة.
    والمصدر الآخر، باطل: وهو إما الجهل وإما الهوى أو وحي الشياطين، وإن سماه أهله فلسفة أو أموراً عقلية.

    وقد ذكر الله ذلك عن الأمم السابقة حين قَالَ: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83]، فكل نبي يأتي قومه فإنهم يجادلونه ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَق)) [غافر:5] فالملأ المستكبر في الأرض وأصحاب الديانات في الأمم السابقة. وفي كل مكان يجادلون بما عندهم من الباطل، وكما تقول الحضارة الغربية اليوم: (إن فلسفتنا، إن العلم البشري، إن التجارب، إن الأنظمة البشرية، إن علوم الاجتماع وعلوم النفس، تقول غيرما تقولون أنتم في كتاب الله أو في السنة، فالديمقراطية والاشتراكية تقول هذا وغيرها من الأفكار التي قُدست أو عظمت، وهي في الحقيقة أصنام ولكنها ليست أختاماً منحوتة كتلك التي نحتها قوم إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- فكسرها وحطمها، ولكنها أصنام من المبادئ والأفكار والشعارات المضللة، وكهانها يختلفون عن كهان الأصنام السابقة؛ لأنهم يلبسون ثياب العلم والحضارة والرقي والتمدن، وما أشبه ذلك.
    وهذان المصدران قائمان -منذ أن أمر الله الملائكة بالسجود ورفض إبليس ذلك وعصى وقَالَ: ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12]- إِلَى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأصحاب الوحي الشيطاني يقابلون الوحي والأمر الشرعي بالأدلة العقلية أو بالأقيسة، أو بالآراء المخالفة له، كما قال إمامهم في ذلك بعد الأمر الصريح من الله عَزَّ وَجَلَّ ((اسْجُدُوا لِآدَمَ))[البقرة:34] فامتنع إبليس، لماذا لا تسجد إذ أمرتك؟ قَالَ: أنا خير منه؛ لأنه تصور أن المسجود له هو أفضل من الساجد!.
    يقول تعالى:((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإِنسَان:1] بلى ولكن الله نفخ فيه من روحه فأصبح شيئاً عظيماً، وكرمه الله عَلَى مخلوقاته ولكن إبليس رجع إِلَى القياس ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) [الأعراف:12] وهي العناصر الأساسية.
    يقول هذا لشيطان: لو حللنا قضية الإِنسَان، وقضية الشيطان فرجعنا إِلَى العناصر الأساسية التي يتكون كل منهما، -فسنجد حسب القياس الشيطاني- أن النَّار عنصر أفضل من عنصر التراب..!.
    إذاً: أنا محق عندما أرفض أو أعترض عَلَى أمر الله!! ثُمَّ أخذت الأمم طريق إبليس فكل من كذب رسل الله قالوا: ما جَاءَ به الأَنْبِيَاء معارض للعقول أو للحقائق أو للعلم ((فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83] ولا غضاضة في أن يسمى علماً؛ لكن هل هو علم يوصل إِلَى الحق؟! والسحر يقال له علم ولكنه كفر ((وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر))[البقرة:102] فهو كفر وضلال بشهادة الأستاذين الذين هم أول من علم النَّاس ذلك فهذه المعارضة معارضة قديمة، وهي التي أشار إليها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.
    وقد سبق أن قلنا: إن الذين أنكروا صفات الله تَعَالَى وأولوا دين الله وحرفوا كتابه، إنما اعتمدوا في ذلك عَلَى ما يسمونه الأقيسة والآراء وسبق معنا هذا عند قول المصنف: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين -يعني التأويل والتحريف- وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية.
    يقول: [فهل قُتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى " ثلاثة وسبعين " فرقة، إلا بالتأويل الفاسد.؟!].
    بل إن عباد الأصنام، إنما عبدوها -أيضاً- بالتأويل الفاسد، والشبهات الباطلة.
    فالقضية ليست مجرد شبهات إنما هي: هل هذا وحي من عند الله، أو هو آراء وظنون، وتخرصات، سماها أصحابها آراء عقلية أو براهين أو قواطع عقلية؟!
    فالأصل الذي يجب أن نعلمه، ويعلمه كل مسلم، هو أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يتعارض دليل نقلي صحيح، ودليل عقلي صريح أبداً، فإذا رأينا أن ذلك قد وقع فلا بد أن ننظر، فإما أن يكون الدليل الذي ظنناه عقلياً غير صريح، وإما أن يكون الدليل النقلي غير صحيح، وبسبب الجهل بهذه القاعدة، وقع كثير من الاضطراب في هذه الأمة قديماً.
    مثلاً: أتى قوم من رواة الحديث المنتسبين إِلَى علم الحديث والسنة فرووا في باب صفات الله وغيره أحاديث مكذوبة عن ضعفاء، ومجاهيل، ووضاعين، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يستشهد بالحديث الضعيف فضلاً عن الواهيات والموضوعات في أبواب العقيدة، فما بالك إذا كَانَ في أخص الأمور -كصفات الله تعالى- التي هي من أمور الغيب؟! بل لا يجوز ذلك في الفروع -أي: الأحكام- فضلاً عن الأصول، لكن وقع من بعض المنتسبين إِلَى الحديث، والسنة أنهم ذكروا هذه الأحاديث ورووها، فجاء الذين في قلوبهم مرض من أهل الكلام والفلسفة والمنطق وأمثال ذلك.
    وقالوا: الوحي لا يؤخذ به في هذا الباب ولا نأخذ العقيدة بحال من الأحوال إذا عارضت القواطع العقلية، والبراهين النظرية التي ذكرها العلماء الثقات في المنطق والفلسفة، وسار عليها النَّاس في هذا المجال، وما هذا إلا لأنهم قرأوا هذه الموضوعات، فَقَالُوا: إذا تعارضت هذه الأحاديث مع ما عندنا من قواطع، ومقررات عقلية نرد النقل ونرد السنة، ولا نأخذ بالأحاديث، وهذا من جهلهم؛ لأن هذه الأحاديث غير صحيحة، أو مكذوبة.

    وكان من أسباب وضعها الرافضة، وقدماء الصوفية الذين ذكروا أموراً تتعلق بصفات الله تَعَالَى لا أصل لها، فمثلاً ما يرويه هَؤُلاءِ الوضاعون من أن فلاناً من النَّاس رأى ربه فعانقه وبعضهم يقول: إنه صافحه، ومن هذا الكلام الذي جعل علماء الكلام يقولون: هَؤُلاءِ مجسمة، ومشبهة، وكأنهم هم أهل السنة وهم الذين يتكلمون باسم الإسلام، وهم غير ذلك في الحقيقة، وسبب ذلك هذه الأحاديث الموضوعة، التي قد توجد في بعض كتب أهل العلم الموثوقة كما في كتاب أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -مثلاً- وكذلك رد الدارمي عَلَى بشر المريسي، وغيرها من الكتب التي هي موثوقة في الجملة لكن فيها أحاديث ضعاف وقد يكون فيها - أحياناً- موضوعات، فـأهل الكلام رأوا تلك الأحاديث فردوا كل ما في هذه الكتب بناء عَلَى هذه الموضوعات الموجودة، وَقَالُوا: كيف تأخذون من التوحيد لـابن خزيمة أو من السنة لـعبد الله بن أحمد أو من اللالكائي أو غيره وقد رووا كذا وكذا؟!
    وفي الحقيقة هل عارضوا الدليل الصحيح أم عارضوا شيئاً مكذوباً؟!
    وفي المقابل هناك آخرون ممن لديهم علم، وحب للسنة وللعقيدة الصحيحة، وجدوا أن بعض ما يقوله المتكلمون.
    كقولهم: إنه لا يجوز أن نصفه تَعَالَى بالتغير، ولا بالحلول، ولا بالتركيب، ولا بالتمثيل، ولا بالتبعيض.
    فقالوا: هذه قواعد عقلية صحيحة وسليمة، وهذا حق وأقروا بها، فلما جاءوا ينظرون في بعض الأدلة مثل حديث النزول وهو حديث صحيح، وهم يعلمون أنه صحيح، قالوا: هذه براهين عقلية قطعية ثابتة وعليه فهذا الحديث لا بد أن نؤله.
    فالحقيقة أنهم عارضوا النقل الصحيح، وكان الأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح قطعي الدلالة أبداًَ، وقد حصل تعارض بين صحيح وغير صحيح أو بين صريح وغير صريح، أما إذا كَانَ الدليلان ظنيين فهذا قد يكون من أسباب الخلاف، وذلك أنه قد يوجد حديث يفهمه بعض النَّاس عَلَى أنه مخالف لما يظنه هو -كما مر معنا في حديث التربة- ويقول: أنا أفهم أن هذا الحديث يخالف ما عليه النظريات العلمية الكونية في نشأة الكون -مثلاً- وفهمه لهذا الحديث هو فهمٌ ظني، لأنه ليس هناك قطع بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام بالأيام التي نعرفها نَحْنُ اليوم، وهذا الإِنسَان عارض هذا الأمر بنظريات ظنية واحتمالات وتخمينات، فيكون بهذا تعارض ظني بظني، وتعارض ظني بظني أهون وأيسر، وما علينا إلا أن نفكر وأن نمحص، فمتى ترجح أحدهما وتحول إِلَى قطعي أو كَانَ ظناً راجحاً أرجح من الآخر عملنا به، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك، ولله الحمد.
    فيقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [أو بقوله: العقل يشهد بضد ما عليه النقل، والعقل أصل النقل فإذا عارضه قدمنا العقل] نقول: هذا لا يكون قط؛ لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثل ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً، فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك إذا كَانَ النقل صحيحاً لا يمكن أن يعارضه شيء من ذلك أبداً -فمثلاً- عندما يثبت عندنا حديث النزول وفيه: {أن الله تَعَالَى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل} ويثبت عندنا أيضاً الحديث الذي رواه مسلم وأَحْمَد وغيرهما أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سأل الجارية أين الله؟ قالت: في السماء}.
    فهل نقول: إن هذه الأحاديث تعارض قولهم: (إنه - عَزَّ وَجَلَّ - تَعَالَى أن تحيط به جهة، أو أن يكون في مكان، أو يدرك وصفه بعلو أو بغيره، بل نرفع النقيضين ونقول: لا داخل العالم ولا خارجه وهذا هو قاطع عقلي وبرهان عقلي!).
    لا يمكن أن يقال هذا؛ لأن هذا القول لا يصلح أن يكون معارضاً في أي حال من الأحوال لهذه الأحاديث الثابتة، أما إذا كَانَ النقل غير صحيح مثل الأحاديث الموضوعة أو الضعاف الواهيات التي ذكرها بعضهم في صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ- والتي كانت مطية لأن يتطاول علماء الكلام والفلسفة وأهل التأويل عَلَى أهل السنة ويقولون: أنتم تروون أمثال هذه الأحاديث. وتقولون: إننا نأخذ صفات الله من الحديث، ولا نأخذها من العقل، فلا تصلح للمعارضة البتة، فإنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح وعقل صريح أبداً.
    ثُمَّ بين المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - أننا نستطيع أن نرد عَلَى هذه القاعدة: وهي أنه إذا تعارض النقل والعقل قدمنا العقل فنعارض كلام هذا القائل بقاعدة عقلية نظير كلامه، بل هي أقوى: وهي أننا نقول إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم النقل؛ لأنه قد ثبت بالدليل العقلي والبرهان العقلي الصحيح أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا النقل؛ لأن العقل قد شهد بصحة النقل والجمع بين المدلولين بين مدلول هذا النقل الصحيح وبين مدلول المعارض العقلي جمع بين النقيضين ورفع النقيضين محال في العلوم العقلية، والنقيضان: هما اللذان لا يمكن أن يرفع أحدهما إلا بوجود الآخر، بخلاف الضديين مثل: الأسود والأبيض، فإذا سألك أحد ما لون هذا؟
    فلا تستطيع أن تقول: أسود وأبيض بل إما أن تقول أبيض أو تقول أسود فلا يمكن أن يجتمعا لكن يمكن أن يرتفعا بأن تقول لا أسود ولا أبيض بل هو أحمر أو أخضر.
    فالضدان ممكن أن يرتفعا، أما النقيضان إذا ارتفع أحدهما فبالضرورة أن يوجد الآخر.
    فإذا قلت لك: أزيد داخل البيت أم خارجه؟
    فبالضرورة إذا قلت داخله أنه ليس خارجه مطلقاً وهذا معلوم بالضرورة العقلية،
    وبهذا نعرف بطلان مذهب الأشاعرة، وغيرهم من المؤولين في العلو لأنهم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه فرفعوا النقيضين، ورفع النقيضين محال في العقول البشرية، فإنه لا بد أن يوجد الشيء داخل أو خارج، ولا بد أن يكون كذلك أسفل أو فوق.
    ومن أوضح الأمثلة عَلَى النقيضين أن نقول موجود أو غير موجود فإذا كَانَ موجوداً فلا يمكن أن تقول: إنه غير موجود أو العكس فـالباطنية وغلاة الجهمية لا يرفعون النقيضين في جميع الصفات فيقولون: لا نقول موجود ولا غير موجود وهذا مذهب الباطنية ومذهب غلاة الجهمية.
    والأشاعرة لا يقولون ذلك في جميع الصفات إنما يقولون ذلك في صفة العلو فهم يأخذون بشعبة من التجهم والباطنية
    والمقصود هنا، كيف نثبت هذه القضية؟
    يقولون: إن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم العقل ونحن عكسنا عليهم القضية وقلنا: العقل قد دل عَلَى صحة النقل، ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم النقل؛ لأننا إذا حكمنا العقل أبطلنا العقل والنقل معاً؛ لأن العقل هو الدليل، وهو الآلة التي عرفنا بها صحة النقل، فإذا قلنا: إن الدليل الذي دل عَلَى صحة شيء من الأشياء وكان هذا الشيء باطلاً، فإن الدليل الذي دل عليه باطل، فيكون النقل غير صحيح ويقدم عليه العقل، وكيف يدلنا عَلَى صحته وهو باطل؟
    وعليه فإن هذا العقل غير صحيح وفي هذه الحالة نكون قد أبطلنا النقل لأن العقل دل عَلَى بطلانه، وعطلنا العقل لأنه دلنا عَلَى شيء باطل إذاً فهو باطل، فيتبين بهذه القاعدة العقلية السليمة أن تقديم العقل عَلَى النقل إبطال للعقل وللنقل معاً
    . لكن تقديم النقل عَلَى العقل بخلاف ذلك؛ لأن الدليل العقلي دل عَلَى صحة النقل، فنقدم النقل؛ لأنه قد دلنا العقل عَلَى صحته قطعاً فإذا وجد في العقل ما يعارض فإننا نرد هذا القول بنفس القاعدة التي قررها هذا العقل وهي: أن النقل صحيح مقدم.
    ويضرب لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ مثلاً فَيَقُولُ: كمثل رجل جَاءَ إِلَى مدينة فيها عالم كبير حجة، يرجع إليه في العلم والدين، ووجد رجلاً سليماً صحيحاً معافىً يعرف أهل البلد فوجده وقال له: أريد عالماً أطلب عنده العلم فقَالَ: أنا أعرفه، وأخذ بيده وذهب به إِلَى ذلك العالم الكبير المشهور في البلد وقال له: هذا هو العالم ولما رأى ذلك الرجل هذا العالم واسع العلم، ووجد التعظيم له عند الناس، ووجد الكتب، ووجد النَّاس يرجعون إليه في الفتاوى تيقن صدقاً وقطعاً أن هذا فعلاً عالم، وأن الرجل الذي دله عليه كَانَ فعلاً صادق لم يكذب عليه فأخذ هذا الرجل العلم من العالم وتلقاه منه فلما فهم هذا الرجل مسألة من مسائل العلم الكبرى، وأخذ يبلغها ويدعو النَّاس إليها جَاءَ ذلك الرجل الذي دله وقال له: هذا الكلام غير صحيح، قَالَ: كيف يكون هذا الكلام غير صحيح وأنا أخذته من الشيخ الذي أنت دللتني عليه؟
    قَالَ: الذي دللتك عليه قال لك هذا؟!
    قَالَ: نعم.
    قَالَ: بما أنني أنا الذي دللتك عليه، فأنا أقول لك: لا تأخذ هذا الكلام، فإنه يتعارض مع كلامي ويجب أن تقدم كلامي؛ لأنني أنا الذي دللتك عليه!
    فماذا يكون الجواب الصحيح؟
    الجواب الصحيح أن يقول له: أنت أصبت عندما دللتني عليه، ولكنك أخطأت عندما عارضت ما عنده من العلم بكلامك، فكونك أصبت بالدلالة عليه لا يعني أنك تحكم في كل شيء يقوله الشيخ! وإلا لو كَانَ كذلك لم يجتمع النَّاس عَلَى الشيخ ولم يأخذوا العلم منه وأنت موجود، فلنرجع إليك ولنأخذ منك العلم ما دمت أنت واقف بالباب وكل من أتى بمسألة من عند الشيخ قلت له: اعرضها عليَّ فإن وافقت عليها وإلا ردها لأنني أنا الذي دللتكم عليه! وهذا كلام -بلا شك- فاسد.
    هذا أقرب وأوضح الأمثلة في مسألة التعارض الذي يزعمونه بين النقل وبين العقل.

    وقد عُرف صدق الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم بالفطرة السليمة، فكل ذي لب من خلق الله يرى نبياً ويسمع ما عنده من البينات يؤمن بأن هذا النبي صادق، وكل من كَانَ لديه عقل سليم من العرب -مثلاً- وسمع آيات من كتاب الله فإنه يوقن بأن هذا لا يمكن أن يقوله بشر بأي حال من الأحوال.
    إذاً.. بهذه الآلة التي أعطانا الله إياها وهي الفهم والعقل عرفنا صحة النقل، وميزنا بين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله ورسوله وبين
    مسيلمة الكذاب والأسود العنسي حتى عندما قيل للرجل: لماذا تتبعون مسيلمة وتعلمون أنه عَلَى الكذب؟
    قَالَ: كذاب اليمامة خير من صادق مضر! فقد شهد النَّاس بصحة نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة الدين الذي جَاءَ به، ولكن للأهواء أو الحظوظ الدنيوية أو لأي أمرٍ من الأمور لم ينقادوا.

    وبهذا يتضح أن هذه الآلة التي أعطانا الله إياها بعد أن أثبتت صحة الدليل النقلي - الوحي من القُرْآن والسنة -لم يبق إلا أن نسلم لما في الوحي.
    ولو أتى أحد وقَالَ: نَحْنُ لا نسلم بالأدلة النقلية إلا إذا عرضناها عَلَى الأدلة العقلية! قلنا: معنى ذلك: أن ترك النَّاس بلا دين وبلا وحي خير وأنفع لهم في دنياهم وأخراهم من أن ينزل عليهم هذا الكتاب ما دام أننا كلما قرأنا آية من هذا الكتاب عرضناها عَلَى العقل، فإذا قرأنا قوله تعالى:
    ((وَجَاءَ رَبُّك)) [الفجر:22] قلنا: يا عقل! أصحيح أنه يجيء؟!
    وقل ذلك في قوله:((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)) [المائدة:64] وغيرها من الآيات.
    في كل ذلك يقول العقل: لا، فيا ترى ما الفائدة من هذه النصوص التي نحفظها ونكتبها ونرويها بالسند ونتعب فيها ونحن لا ندري خطأها من صوابها! إذاً: لا داعي لها، وتعال يا عقل فأخبرنا عن الله مباشرة هذا هو لازم هذه المقالة.
    بل لازم ذلك: أن هَؤُلاءِ النَّاس لا يؤمنون بصدق نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولبيان ذلك: لنفترض كما ذكر الشيخ هنا -وهذا الكلام منقول من درء التعارض وكلام ابن القيم في مدارج السالكين- لنفترض أن ثلاثة رجال جاءوا إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي بين ظهرانيهم فأخبرهم بأمر من الأمور، وقَالَ: أنا رَسُول من عند الله، كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة يأتيه الوفد من العرب فيأمرهم وينهاهم ويخبرهم عن الإيمان وعن المغيبات وأمثال ذلك -فقال الأول منهم: هذا الذي قلته يا محمد! لن أؤمن به ولن أصدقك حتى أرجع إِلَى بلادي وأسأل شيخ القبيلة! والآخر قَالَ: أنا أصدق أنك رسول، لكن ما قلته لا أؤمن به حتى أعرضه عَلَى عقلي! والشخص الثالث قَالَ: يا محمد! هذا الكلام الذي قلته مع تصديقي بنبوتك وبرسالتك لا أستطيع أن أؤمن به حتى أتأكد أن ليس له معارض، فأنا أتوقف فيه، فقد يكون هناك شيء معارض له! فهل يُقال في دين الإسلام: إن أحداً من هَؤُلاءِ الثلاثة مؤمن مسلم؟
    لا ليسوا بالمؤمنين ولا بالْمُسْلِمِينَ أبداً. ولهذا قال رَحِمَهُ اللهُ: [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] فهذا أبو طالب ما منعه من أن يسلم وهو في آخر لحظة عند الموت- إلا بسبب المعارض الذي أتى له: وهو ملة عبد المطلب، مع أنه مصدق للنبوة ومقر بأن هذا رسول، لكن المعارض الذي يعارض الإذعان والاستسلام هو ملة عبد المطلب، وهكذا فهَؤُلاءِ لا يسمون مسلمين بأي حال من الأحوال ولا يدخلون في دين الإسلام.
    فيا أيها المؤولون والمعطلون، والذين تقدمون عَلَى شريعة رَسُول الله شيئاً غيره كيف تدعون الإيمان بدينه ثُمَّ تقولون: صح الحديث ورواه البُخَارِيّ؟!.
    وإذا سألت أحدهم هل تؤمن بهذا الحديث؟
    قَالَ: اتركني أتأكد هل قال علماء المذهب به؟
    وماذا قال شيخ الطريقة؟!
    هذا هو مثال حال الرجل الأول الذي قرأت له حديثاً صحيحاً عن رَسُول الله وقَالَ: هذا غير معقول فدعني أتأكد فلعل له معارض من العقول أو من العلوم أو من كلام البشر!ثُمَّ يقول بعد هذا: أنا مؤمن برَسُول الله!
    نقول له: لو آمنت أنه رَسُول من عند الله لقبلت ما جَاءَ به، أما لو تبين للشخص فيما بعد أن هناك دليل شرعي أقوى فهذا شيء آخر، لكن هذا رده أول ما سمعه زاعماً أنه قد يكون له معارضاً.
    والآخر الذي يقول: لا أستطيع أن أقول بهذا حتى أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي.
    فيُقَالُ له: أنت إِلَى الآن في مرحلة الشك لم تؤمن برَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من النماذج عَلَى هذا حتى في عصرنا الحاضر، ولكن بطرق ملتوية.
    ومن ذلك حديث الذباب وهو حديث صحيح وفيه: {إن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء}.
    قالوا: كيف نغمسه وكيف نعتقد أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟
    فنقول لهم: هل عندكم ما يطعن في إسناده أو في متنه؟
    الجواب: لا. وهم ليسوا بعلماء حديث.
    فَقَالُوا: نرى ما تقول معامل الكيمياء ومعامل الأحياء فأوقفنا الإيمان والعمل بحديث صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تؤكد لنا الكيمياء صحة ذلك؟!.
    فلماذا التعب والحفظ للسند والمتن؟
    فهذا ليس إسلاماً بل الإسلام لا يثبت إلا عَلَى قدم التسليم والاستسلام، وأكثر النَّاس تسليماً واستسلاماً هم أكثر النَّاس وأقواهم إيماناً بما جَاءَ عن رَسُول الله، ولهذا لما قيل للصديق -رضي الله عنه-: إن صاحبك زعم البارحة شيئاً عجيباً أنه ذهب إِلَى بيت المقدس ثُمَّ عرج به إِلَى السماء -قالته قريش لـأبِي بَكْرٍ- فقَالَ: إن كَانَ قال ذلك فقد صدق، مع أنه قال شيئاً لا تصدقه العقول لكنه صادق ولا يمكن أن يعارض.
    وفي يوم الحديبية لما لم تكن القلوب قد بلغت السكينة منها مبلغها أخذ الفاروق عُمَر -رضي الله عنه- يصيح ويقول ألست رَسُول الله؟!
    ألسنا عَلَى الحق؟!
    ألسنا الْمُسْلِمِينَ أليسوا بمشركين؟!
    فلم نرضى بالدنية في ديننا؟
    فكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول يا عُمَر ! "إنه رَسُول الله"، يعلم أنه مادام رَسُول الله فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعارض قوله بما يخيل إلينا أنه مصلحة، فنلغي العقل ونلغي المصلحة إذا كَانَ في مقابل النص ومقابل قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهنا تكون حقيقة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فإذا كنا قد أبطلنا دلالة العقل فإنه لا يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه عَلَى القاعدة العكسية التي قلناها، يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [تقديم العقل يوجب عدم تقديمه.. إلى أن قَالَ: [لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يقدم فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل] بل هو كما قلنا قدح في العقل والنقل معاً وبهذا نخلص إِلَى أنه لا بد من تقديم النقل ولا بد من تجريد المتابعة ولهذا عقب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى هذا الكلام بالنص الذي هو منقول في أصله؛ وقريب من حروفه من مدارج السالكين لـابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
  6. وجوب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أو كلما جاءنا رجل ألحن بحجته من الآخر أخذنا بقوله وتركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذا جعلنا الدين مرتهناً بالجدل والآراء والحجج والبراهين العقلية، فإنه لا بد أنه كلما أتانا رجل ألحن بالحجة ممن قبله، نترك ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونأخذ بكلام هذا أو ذاك، فإذا كَانَ لدينا المنهج الواضح، فلنتمسك به، وندع تلك الآراء، وتلك الجدليات جميعاً.
    وابن القيم رَحِمَهُ اللهُ لمَّا ذكر هذا الكلام قَالَ: وأنا سألت أحد هَؤُلاءِ الذين يقدمون عقولهم أو آراء مشايخهم عَلَى النص الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: أنشدك بالله لو أن رَسُول الله حي اليوم بين ظهرانينا، وقال لك: افعل كذا. أيجوز لك ويحق لك أن تقول: انتظر حتى أعرض هذا القول عَلَى قول الشيخ أو الإمام أو المذهب؟
    قَالَ: لا ودهش.
    قَالَ: فقلت: أو إن كَانَ قد غاب بشخصه، وسنته باقية توقف القول والاعتقاد وما كانت عليه سنته حتى تعرضها عَلَى الإمام أو الشيخ أو المذهب؟!
    ما الفرق بين كونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشخصه يأمرنا وبين كون سنته تأمرنا؟
    أما هو صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد لحق بالرفيق الأعلى لكن دينه وسنته وشرعه باق فإذا بلغنا الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالواجب المبادرة للامتثال والطاعة بدون أي تردد هذا هو الذي يجب عَلَى كل مسلم.

    أما أهل الضلال فيأتيهم الحديث عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول القائل: وهذا الحديث مع صحته قد ثبت لدى أرباب الكشف خلافه، عجيب!! ومن أرباب الكشف؟
    يقول هَؤُلاءِ الذين خوطبوا وكوشفوا بالعلم اللدني!
    والآخر يقول: وهذا الحديث وإن رواه الشيخان أو غيرهما إلا أن القواطع العقلية قد قامت عَلَى رده!
    بل ذكر بعضهم أن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر -عافانا الله وإياكم- يريد دون أن يعرضها عَلَى ما يدعونه من البراهين العقلية، إذاً فهَؤُلاءِ ليسوا موحدين في الحقيقة لأنهم عارضوا ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما بخيال -يسمونه كشفاً وهو في الحقيقة خيال وضلال- أو بأوهام وظنون وتخرصات ويظنون أنها آراء عقلية وقواطع وبراهين نظرية.
    يقول المصنف: [فنوحده بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان] أي: نوحد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان كما نوحد الله تَعَالَى بالعبادة والخضوع والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما قال جل شأنه:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه)) [النساء:64] وقال:((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] فهذا هو الواجب في حقه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يحاكم إِلَى غيره ابتداء ولا يرضى بحكم غيره -إذا بلغه حكمه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كَانَ عالماً من أهل الاجتهاد من الصحابة أو ممن دونهم، لانقدم قول أحد منهم عَلَى قول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعم، له أجر الاجتهاد ولكن ليس له أجر الصواب؛ لأنه أخطأ عندما قال قولاً يخالف قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كَانَ لهذا المعارض مصدراً آخر غير الدين وغير الاجتهاد كَانَ يكون كشفاً أو عقلاً أو فلسفةً أو منطقاً أو علوماً من العلوم التي قال الله عنها: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83] علم النفس، أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو أي شيء قيل عنه: إنه علم فإننا نكذبه ونرده.
    ثُمَّ يقول المصنف: [ولا يوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه] فإن أصحاب الطرق يقولون هذا الحديث لا بد أن نعرضه عَلَى شيخ الطريقة، ويقولون: كن بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، فما لك أمر ولا نهي حتى تأتي بالحديث تعرضه عَلَى الشيخ، إذاً فالمرجع هنا الشيخ وأصحاب المذهب يقول فيهم المصنف: [إن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره] يقول: نَحْنُ نريد الحق وهَؤُلاءِ الأئمة الأربعة لا يأخذون إلا من الكتاب والسنة فنحن نفوض الأمر إليهم ونتبعهم، أو يقول أنا مفوض أمري إِلَى شيخ الطريقة وهذا الحديث لابد أنه بلغ صاحب المذهب أو شيخ الطريقة وهو أعرف مني، فما قاله الشيخ أنا أقول به! وكأن المُصنِّفُ يصف ويشرح حالهم قديماً وحديثاً هذا إن طلب السلامة وأكثر من ذلك وأشد ما قاله الرازي: وإلا اشتغلنا بتأويلها عَلَى سبيل التبرع، يعنى: عند ذكر حديث النزول وغيره من أحاديث الصفات فإنه سوف يردها مباشرة لأنها ستعارض القواطع العقلية فيكون ردها جملة بناءً عَلَى القانون الذي ذكره -أي الرازي- أو يقول: عَلَى سبيل التبرع يأخذ هذه الأحاديث واحداً واحداً ويؤولها! وفي هذا غاية الاحتقار للوحي وللنص.

    يقول: [وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً] فقَالَ: نؤوله ونحمله [فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحالة] بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه صح عنه وثبت، كأنه يقول له: افعل كذا، ولا يؤخر العمل به إن كَانَ مما يعمل به، أو يعتقده اعتقاداً جازماً إن كَانَ خبراً، فلا يؤخر العمل حتى يعرضه عَلَى الشيخ أو المذهب والأصحاب، ولا عَلَى العقل ولا عَلَى أي رأي من الآراء [ولا يستشكل قوله لمخالفة رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله] فيستشكل كيف خالف فلان الحديث وإن كَانَ عالماً؟ فلا نقول: وهذا الحديث يشكل لأنه خالف ما عليه المذهب، أو القياس! كما يقولون في حديث المصراة وهو أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الإِنسَان إذا اشترى ناقة أو بقرة أو شاة صريت أن يردها مع صاع من تمر) حديث صحيح لا شك في صحته، فَقَالَ أصحاب القياس: هذا الحديث مشكل؛ لأنه يخالف القياس وحاولوا أن يردوه أو يؤولوه! وأمثال ذلك من الأحاديث التي تجدونها في أبواب الفقه ابتداء من الطهارة وانتهاء بالشهادات والإقرار، وكثير جداً من يقدم محض القياس -كما يسمونه- عَلَى الحديث الصحيح الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فَيَقُولُ: [ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتتلقى نصوصه] إذا كَانَ هذا في الفقه فما الظن في أمور الاعتقاد وأمور الغيب، حتى في الفقه لا شك أن النص يجب أن يقدم وذلك ضرورة عَلَى القياس؛ لأن القياس يقوم عَلَى النص ولهذا فضل شَيْخ الإِسْلامِ في رسالته تفضيل مذهب آراء أهل المدينة عَلَى أهل العراق لأن الأول: مبني عَلَى الحديث والنص، والثاني: عَلَى الرأي والقياس، ويدل عَلَى ذلك المناظرة التي جرت بين أبي يوسف الحنفي، والشَّافِعِيّ وكان شيخه مالك في الحديث وهو معلوم أنه كَانَ متبع للسنة ويعمل بعمل أهل المدينة، وأبو يوسف من تلاميذ الإمام أبي حنيفة على مذهب أهل العراق الذين يأخذون بالرأي.
    فَقَالَ الشَّافِعِيّ أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالقرآن أم صاحبكم؟‍
    قَالَ: بل صاحبكم.
    قَالَ: أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة أم صاحبكم؟
    قَالَ: بل صاحبكم.
    قَالَ: فعلى أي شيء يكون القياس إذا كنا أخذنا القاعدة من الكتاب والسنة، وكان هذا أعلم بالكتاب والسنة؛ فيقدم مذهبه؛ لأن القياس فرع لا يصار إليه إلا عند فقدان الأصل، كما لا يُصار إِلَى التيمم إلا عند فقدان الماء
    ، وكان علماء السلف كالإمام أَحْمَد وإسحاق بن راهويه وأمثالهم من العلماء كـابن المبارك، وابن عيينة ممن كانوا عَلَى الأثر، والحديث يعدون أهل الرأي من جملة أهل البدع الذين يردون الحديث بآرائهم، مع أن هذه مسألة أصولية اجتهادية.
    فما بالكم بالذين جاؤوا من بعدهم وردوا الدين والغيبيات وأحوال اليوم الآخر وصفات الله بالأقيسة والعقول لا شك أن هَؤُلاءِ أشد بدعة وضلالاً من أُولَئِكَ فالتسليم للوحي هو الأصل الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم.
    ولا يحاكم إِلَى غير رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بالأمور الخبرية ولا بالأمور الغيبية الشرعية، فهذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت لدينا أنه حكم عَلَى الزاني الثيب بالرجم فيقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن حقيقة، وإن لم يذكر في القُرْآن ولكن لأدلة تفصيليه كثيرة، فالذي يعارض ذلك بالقوانين الوضعية المنقولة عن الأمم المتحضرة، التي ترى أن علاقات الحب علاقات سليمة لا غبار عليها، وأن الرجم لرجل وامرأة زنيا بالتراضي بينهما وحشية وكيف يرجما؟‍! هذا هو الكفر الصراح.
    وقد كفر العلماء من قال بذلك، وفي القديم جيء إِلَى نصير الكفر الذي يسمونه نصير الدين الطوسي -الذي كَانَ وزيراً للتتار- وقد جيء إِلَى السلطان الوالي برجلين فعلا فاحشة -اللواط- فَقَالَ: لا بد أن يقام عليهما الحد.
    فقَالَ: الفاعل منهما إنما فعلت ذلك برضى ذلك المفعول.
    فَقَالَ نصير الكفر الذي أظهر الله كفره في ذلك المجلس، قَالَ: نعم، وماذا نصنع بشريعة نبي العرب؟!
    نعوذ بالله فكفره العلماء بذلك فكل من يعلم -من أهل السنة- بحقيقة نصير الكفر الطوسي فإنه يحكم بكفره؛ لأنه مع كفره وزندقته كَانَ رافضياً وعلى دين الفلاسفة الذين يرون هذه الآراء وأصبح هذا الأمر هو القاعدة المعمول بها حتى في ديار الإسلام يزعمون الإيمان بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم لا يقيمون حدود الله التي أمر بها وأقامها بحجة أنهما ماداما متراضيين فلا حرج، وشارب الخمر لا حرج من شربه لها ما لم يحدث حادثا -أي: حادثاً مرورياً- أو اعتداء عَلَى أي شخص، فلا حرج في ذلك أبداً.
    فتحكيم أو قبول كلام هَؤُلاءِ وتحكيم أي قانون من هذه القوانين هو محض الكفر والردة عن دين الله تعالى، وتكذيب لمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا قال علماؤنا فيمن يقدم القياس -وهو اجتهاد من الشرع- عَلَى النص ما قد سبق أن نقلناه فكيف بمن يقدم قوانين الكفار؟! كما يقَالَ: أثبت علماء النفس أن الاختلاط يهذب الجنسين، فهل نُقدم كلام علماء النفس أم نُقدم كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
    لذا قال المصنف: [فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عقاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحاكم إِلَى غيره ولا نرضى بحكم غيره].
    فمثلاً: الاختلاط شر ومعصية حتى لو كَانَ بين الأطفال المميزين الذين قد لا يرتكبون هذا الفاحشة، وحتى ولو من المثقفين الكبار، لا كما يقولون: من الممكن أن تكون الفاحشة بسبب الأمية أو الجهل إذا اختلت المرأة بالرجل، لكن فتاة مثقفة في الطب أو في الجامعة في المراحل النهائية تقع في الفاحشة مع رجل مثقف لا يمكن! وهذه معارضة لقول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما خلا رجل بامرأة} أيا كَانَ هذا الرجل مثقفاً أو غير مثقف وأياً كانت هذه المرأة مثقفة أو غير مثقة {إلا كَانَ الشيطان ثالثهما} بل هذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ ماشياً ومعه أم المؤمنين ورآه الأنصاريان قَالَ: {على رسلكما إنها صفية} وهذا لكي يعلمنا الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأمور بالغة الدقة والحساسية ويجب عَلَى الإِنسَان أن يبتعد عن أي شبهة في هذا المجال، فكل من قدم، أو قال قولاً أو رأى رأياً، أو دعى إِلَى رأي، وهو يعلم مخالفته لما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتحكيم والمتابعة، وهذا هو الذي ينطبق عليه قوله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة جداً.
    ومجمل القول وصفوته هو كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما صح عنه عملنا به وما قاله من خبر آمنا به وصدقناه واعتقدناه عَلَى الغيب فهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون كما قال في أول سورة بعد الفاتحة ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3] ثُمَّ قَالَ: ((وَيُقِيمُونَ الصَلاةَ))[البقرة:3].