لو اجتمع أهل الأرض جميعاً، وأعملوا عقولهم عَلَى أن يأتوا بمثل هذا الإعجاز، ومثل هذه الذكرى ومثل هذا الشمول، واقتراب القاعدة لجميع الوقائع لعجزوا عن ذلك عجزاً بيناً، وفوق ذلك عجزهم عن كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو أعظم.
ثُمَّ إن
السلف الصالح كانوا كذلك، وكما سبق أن تحدثنا في مبحث الفرق، فـ
الخوارج و
القدرية و
الشيعة وجدوا في عهد
السلف الصالح، وكذا
المرجئة وجدوا أواخر عهد التابعين.
فرد عليهم علماء
السلف بكلمات قليلة ولكنها مفحمة غاية الإفحام، لكن المتأخرين لو أراد أحدهم أن يرد عَلَى
الخوارج فقد يؤلف مجلدات، فتقرأها ولا تكاد تحصد منها شيئاً، لكن تجد أن
ابن عباس ناظر
الخوارج، فرجع
ابن عباس ومعه الآلاف إِلَى معسكر
عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بهذه الكلمات.
وبهذا نعرف فضل علماء الصحابة و
السلف رضوان الله تَعَالَى عليهم، فكانت كلما تهم من الجوامع بالنسبة لمن جَاءَ بعدهم، فكانت قليلة العبارات كثيرة البركة، فعندما يناظرون
القدرية أو
الشيعة أو أية فرقة فإنهم يأتون بعبارة واحدة موجزة، أو عبارتين فتغني عما وراءها وتكفي وتشفي من أراد الشفاء بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما المتأخرون فتعمقوا وتنطعوا، ولما جَاءَ رجل إِلَى الإمام
مالك وقال له: كيف استوى؟ قال له عبارات ما زلنا نستخدمها إِلَى الآن في جميع الصفات، وإذا تحدثنا عن صفات الله عَزَّ وَجَلَّ فلو ألفنا كتباً ما خرج كلامنا عن هذه العبارات التي قالها الإمام
مالك وهي: {
الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة} سُبْحانَ اللَّه! كيف أعطاهم الله عَزَّ وَجَلَّ هذا الملكة لأنهم كانوا يتلون كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حق تلاوته، ويؤمنون بحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبالإيمان فجَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوبهم ينابيع الخير والتقوى والعلم النافع، وأعطاهم فراسة المؤمن وقوة النظر، فيأتون بهذه العبارات الجامعة الدقيقة، فمهما خضنا في الصفات فنحن لا نتكلم في أي صفةٍ إلا عَلَى ضوء هذه القواعد الأربع، لأن معانيها واضحة جلية لكل أحد أما أن كيفيتها مجهولة فلأننا نجهل ذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإذا جهلنا ذاته جهلنا صفاته، وأما أن السؤال عنها بدعة فكل الطوائف التي خالفت ما أخبر به الله ورسوله فهي طوائف بدعية، وهذا من الأدلة الكثيرة الدلالة عَلَى ما ذكره المُصنِّف رحمه الله تعالى من فضل
السلف.
ولذلك عندما نقول ويقول كل مؤمن بالله وبرسوله: إن علينا أن نتبع آثارهم وأن نقتفي خطاهم، وننظر فيما خاضوا فيه فنخوض في كل ما خاضوا، وما سكتوا عنه نسكت عنه، وما أجابوا عنه بجواب فإننا نجيب عليه بمثل ما أجابوا، حينئذٍ نعرف أن هذا هو الصواب، كما فعل
البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في باب الإيمان عندما رد على
المرجئة.
يقول
يزيد اليانق: سألت
أبا وائل شقيق بن سلمة وهو التابعي المشهور تلميذ
ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عن
المرجئة فقَالَ: حدثني عبد الله -وهو
ابن مسعود- أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
{سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} انتهت العبارة وانتهى الجواب وفهم السامع، ونستخرج من هذه العبارات أعظم رد عَلَى
المرجئة، وأمثلة كثيرة جداً، فانظر! كيف كَانَ رد هَؤُلاءِ العلماء، وكيف أوتوا هذه المقدرة العقلية الهائلة.
فالذين يقولون مثلاً في الفقه: إننا أفقه من الصحابة لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد، ولم يتفرغوا لاستنباط القواعد الفقهية ولم يعرفوا أصول علم الفقه، فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من طريقها معرفة الدليل، فهَؤُلاءِ في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم.
إن الاشتغال بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، وتتبع فقههم وآثارهم، تُنزل عَلَى صاحبها الحكمة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت الأمور تأتيهم عَلَى الفطرة، ويفهمون ما يقوله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الفطرة، فعرفوه علماً وجاهدوا عليه عملاً، ودعوا إليه ثُمَّ ماتوا وهم ثابتون عليه رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
فمن قال من أهل علم الكلام: إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم، فهذا ضال مضل، وقد أساء وظلم نفسه، ولم يرع ما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الثناء عَلَى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأئمة السلف، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هَؤُلاءِ
((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)) [التوبة:100].
ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [الحشر:10] وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ أعلم وأحكم.
و
أهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق الإِنسَان المسلم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما صح ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهو إنما خاطب به
خالد بن الوليد وأمثال
خالد، وهو صحابي أيضاً بالنسبة لمن آمن قبل الفتح، فـالخطاب في هذا الحديث إنما هو لأولئك الذين أسلموا بعد الفتح، أو ممن كَانَ من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم.
فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟! فكيف بمن أتى بعدهم من القرون المتأخرة بعد القرون الثلاثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا يتهوكون في البدع، {
وتتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه} -كما ورد في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!