المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصناً حصيناً { فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي} ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نُصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه.
فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه؟
فالجواب أن يقال:
أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يُغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم .
ويقال ثانياً: هنا أمران:
قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى .
ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما، تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به، مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به.
ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله، نَسخطه ولا نَرضى به] إهـ.

الشرح:
ختم المصنف -رحمه الله- مسألة القدر ببحث لقضية القائلين بأن الإنسان إذا شهد مقام الحقيقة الكونية -كما يزعمون- فإنه يكون قد وافق المشيئة، ويعتبر أن كل أعماله التي تجري وتصدر منه على وفق رضى الله وشرعه وإرادته نظراً لجريانها وفق مشيئته وإرادته الكونية، ورد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: إن هؤلاء أعمى الخلق وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فلو أن الأمر هو موافقة القدر والمشيئة، وليس موافقة الأمر الديني من الأمر والنهي لكان قوم نوح وهود وصالح وفرعون وقوم لوط وشعيب كلهم طائعون لله عز وجل لأنهم لم يخرجوا فيما ارتكبوا من ذنوب وقبائح وما واجهوا به أنبياءهم عن مشيئة الله وقضائه وقدره، فإذا كان كل ما قدره الله تعالى مرضياً له محبوباً عنده وغاية ما يريده من الخلق أن يوافقوا قدره الكوني، فإن هؤلاء من أرضى الناس وأعلمهم .
لا شك أن هناك فارقاً دقيقاً وحاجزاً بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، وإنما تختلف الأفهام والأنظار إلى الأمر الواحد، ويترتب على ذلك اختلاف الأعمال .
قال المصنف: [ لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه ] أي: إذا استحضر العبد عجزه وجعل عجز نفسه أمامه كأنه شاهد بعينه عجز نفسه وهذا من أخص خصائص الإنسان أنه عاجز بالذات، ففقره ذاتي، وعجزه ذاتي، كما أن الله سبحانه وتعالى غناه وقوته وعلمه لذاته سبحانه وتعالى من غير معين، ولا سبب خارجي، أما الإنسان ففقره ذاتي، فلا يستطيع أن يكون غنياً إلا لسبب يقدره الله سبحانه وتعالى، وإذا شهد عجز نفسه نفوذ الأقدار فيه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وكمال فقره إلى ربه كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] فالخلق محتاجون إلى الله فيما يطعمون وفيما يتمتعون به من فهمه كما قال الله تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) [هود:6] ((مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات:57، 58] فله تبارك وتعالى المنِّة على كل أحد وليس لأحد أبداً منِّة على الخالق العظيم سبحانه وتعالى.

قوله: [وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين] فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين } فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى، فلا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه، ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: "إني لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي"، فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى، فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت، لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله تبارك وتعالى،
والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه وما من قلب يرقى في درجات الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيه ورسوخ إيمانه ويقينه، فإذا شهد العبد ذلك واستشعره دائماً.
الجواب: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصناً حصيناً، ثم ذكر الحديث أو جزءاً منه مضمناً إياه الكلام [ فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ] فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة إذا استشعر فقره واستشعر مراقبة الله تبارك وتعالى له في كل وقت، وهي درجة الإحسان، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} .
فهو يرانا كل حين، فما نلفظ من قول، ولا نعمل من عمل ولا حركة ولا سكون، إلا والله تبارك وتعالى مطِّلع ورقيب علينا، ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) [غافر:19] .