المادة    
[والشر ليس إليه] هذه اللفظة يفهمها أهل السنة فهماً مغايراً لفهم المعتزلة لها، يقول أهل البدع: إن معنى والشر ليس إلى الله أي: أنه لم يخلق أفعال العباد، فالعباد إذا عصوا وفعلوا الموبقات والمنكرات، يقولون: إن الله لم يخلقها، فإن قلنا: إن الله خلقها أو شاءها وقدرها، فنكون قد نسبنا الشر إِلَى الله، والشر ليس إليه.
أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيعنون بقول: [والشر ليس إليه] أي: ليس إليه شراً محضاً بوجه من الوجوه، أما إذا كَانَ الشيء قد يبدو شراً وفيه خير، أو هو شر بالنسبة إِلَى المخلوقين، ولكن فيه خيراً بالنسبة إِلَى حكمة الله، وإرادة الله، فإن هذا لا يسمى شراً، فتنزيه الله عن الشر أي: أنه تَعَالَى منزه أن يخلق أو يريد أو يشاء شراً، لا خير فيه بوجه من الوجوه، ويلاحظ الفرق بين المذهبين
.
ثُمَّ يقول: [بل كل ما إليه فخير] أي: كل ما إِلَى الله هو خير، حتى وإن كَانَ شراً في ذاته، فهو من جهة نسبته إِلَى الله خير، ويأتي الشر من جهة أخرى.
  1. أقدار الله خير ومعصية العبد شر

    قوله: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه] أي: أنه إذا كَانَ فيه جهتان: من جهة كونه من الله فإنه خير، ومن جهة كونه من غير الله أو فيه نسبة إِلَى غير الله فإنه شر، ثُمَّ يقول: (فلو كَانَ إليه لم يكن شراً فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً) يعني: إذا أحد عصى الله -كأن يزني مثلاً عياذاً بالله- فهذا من جهة أن الله قدره فهو خير، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقدر شيئاً إلا لحكمة، ولأمر قد نعلمه، وقد لا نعلمه، لكن من جهة أن العبد عصى الله وانتهك ما حرم الله، فهذا شر بلا شك، لكن إذا نظرنا إليه من جهة أنه مراد لله مقدر بقدر الله، فهو خير لله تَعَالَى فيه حكمة سواء علمناها أو لم نعلمها.
  2. اعتراض القدرية ورده

    أورد القدرية إشكالاً وهو قول المصنف: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة] أي: من حيث أن الله خلقه وشاءه وأوجده، لأن الله تَعَالَى خالق كل شيء، فلا يكون في الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته، فيقولون: إذاً هذا شر، فلم تنقطع نسبته إِلَى الله من جهة كونه خلقاً ومن جهة كونه مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ المُصنِّفُ راداً عليهم: [قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر] هذا الفعل من جهة الخلق، والمشيئة، ليس بشر [فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر] وجود الأشياء من حيث هي موجودة [كالنفوس الشريرة] وجودها وحركتها في ذاتها ليس بشر.
    ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه] هذا مثل ما ذكر المُصنِّف سابقاً حيث قَالَ: [فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تُرِكت تحركت بطبعها إِلَى خلافه] إذاً: الشر إنما جَاءَ من عدم إعانتها بالخير، أي من كونها وكلت إِلَى طبائعها، وإلى ذواتها، وهكذا، لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكلنا إِلَى أنفسنا لهلكنا، ولهذا كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، فالكفار خلى الله بينهم وبين أنفسهم فخذلوا خذلاناً بيناً، وليس ذلك لأن وجودهم شر، فإن الله سبحانه خلقهم، فخلقه ومشيئته في إيجادهم وخلقهم هو خير، وإنما جاءهم الشر من جهة أنهم خُذلوا، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يمدهم بأسباب الهداية، فتركوا لأنفسهم، فجاء الشر من أنفسهم، ومن شياطينهم، ومن أعمالهم التي ارتكبوها.
    يقول: [فالشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] أي أن العدم لا ينسب، لأنه شيء لا وجود له، والعدم ضد الوجود، فليس بشيء حتى ينسب، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] وقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ))[النحل:36].
    فبعث الله تَعَالَى الرسل، ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأقام الرسل حجة الله تَعَالَى عَلَى الخلق ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ)) أمده الله تَعَالَى بالهداية، وتفضل عليه بأسبابها، ووفقه لها((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) ومنهم من لم يمده الله تَعَالَى بتلك الأسباب ولا بالتوفيق، بل تركه إِلَى نفسه مع أنه رأى بعينه آيات الله البينات، ورأى معجزات الأَنْبِيَاء وغيرها، ولكنه لما وكل إِلَى نفسه خذلته فلم يؤمن، كما هو حال قوم فرعون، فإن الله ابتلاهم بالجراد والقمل والضفادع والدم، وكلما جاءتهم آية جاءوا إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام وَقَالُوا: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ))[الأعراف:134].
    فإذا كشف الله تَعَالَى عنا، فإننا سوف نؤمن بك، فلما كشف الله عنهم ذلك، لم يلبثوا إلا أن يعودوا إِلَى ما كانوا عليه، فهَؤُلاءِ النَّاس جاءهم الشر من عند أنفسهم، حيث إن الله لم يوفقهم بل خذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، ولما وكلوا إليها هلكوا، مع أن الله أعطاهم أسباب الهداية، فرأوا الآيات البينات والدلائل الواضحات، لكنه لم يمدهم في أنفسهم بما يجعلهم مهتدين، فعدم إمدادهم بذلك ليس شراً، لأنه عدم محض، وليس أمراً وجودياً حتى ينسب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه،والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير]
    .
    فحكمته عَزَّ وَجَلَّ أنه يختص برحمته من يشاء، فأعطى أقواماً ومنع آخرين، فلما منعوا جاءهم الشر، لأن نفوسهم مقطوعة عن خير الله وفضله، فتحركت بناءً عَلَى أن ما لديها هو الحق، ومع تزيين الشيطان لها ذلك وقعت في الشر الذي لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.