المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إِلَى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كَانَ إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
فإن قيل: لِمَ تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشَرِ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: (الإيجاد، والإعداد، والإمداد)، فإيجاد هذا خير، وهو إِلَى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] اهـ.

الشرح:
العقوبات مثال من الأمثلة التي تؤيد أن الأمر قد يكون شراً من جهة، وخيراً من جهة أخرى، فالرجل الذي يسرق، ثُمَّ تقطع يده، فإن هذا بالنسبة إليه شر، لكن من إِلَى جهة أخرى فإنها خير.
ثُمَّ يقول: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالّها خيراً في نفسها] فقوله: [الموضوعة في محالها] تخرج بذلك فيما لو عاقبت إنساناً بعقوبة، أو حدٍ وهو بريء، وإنما المقصود بقوله: [في محالّها] أي: المحل الذي وقعت في ذلك الرجل الذي عُوقب بهذه العقوبة، وذلك الحد، ثُمَّ يقول [لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له] فطبيعة ذلك الإِنسَان لا تريد الألم، وإنما تسعد وترغب في اللذة والراحة، لكن حصل لها الألم بذلك الحد، ثُمَّ يقول: [فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه] أي: أنه خير بالنسبة إِلَى الفاعل، وكذلك للمجتمع جميعاً، حيث وضعت العقوبة في موضعها.
  1. لا يوجد في خلق الله شر محض من جميع الوجوه

    ثُمَّ يقول: [فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات] وهذا هو وجه تنزيه الله عن كون الشر ليس إليه، [فإن حكمته تأبى ذلك] أي أن الله تَعَالَى حكيم، وحكمته تأبى أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق شراً وفيه جوانب من الخير، ويحقق به حكماً ومصالح، فَيَقُولُ: [فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال] أي: محال عن ذي العزة والجلال المتصف بصفات الكمال، أن يكون هذا من شأنه [فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه] وهذا معنى نفي الشر عن الله وتنزيه عنه [والشر ليس إليه].