المادة    
قال المصنف رحمه الله: [كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار] كيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا النهار سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟
وكيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا الليل سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟
الجواب: لا تصلح الحياة، لكن الله جعل الليل وجعل النهار، فاستقامت الحياة والمصالح، وانتظمت أمور العباد، وهذا دليل عَلَى حكمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى في خلق هذين الضدين، (الدواء والداء).
فلو كانت الدنيا كلها أدواء لما صلحت الحياة، ولو كانت كلها دواء، أو لا مرض فيها ولا داء، فإنها تفوت حكم عظيمة، لكن حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنها أدواء ومعها الدواء، ولذلك انتظمت مصالح ومعايش كثيرة لأناس كثيرون، فمرض هذا نفع لذلك، فإن كَانَ الذي مرض بالداء شريراً، استراح الخلق من شره.
وأما إذا كَانَ المريض طيباً، فيستفيد الأطباء من ذلك.
وأيضاً: مساعدة هذا المريض والإحسان إليه يحصل بسبب ذلك الأجر من الله.
ومثال آخر: الله يبتلي بعض عباده بالفقر مع أنه مكروه لذاته -فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكره أن يفقر عبده الصالح- لكن هناك حكم كثيرة وراء ذلك، فيبتليه ليرفع درجته، وكذلك الإحسان إليه يكون سبباً في تحصيل الأجر من الله.
وهكذا أمور كثيرة نجد أن لها حكماً عظيمة، يعجز العقل البشري عن حصرها، فتظهر بوجود هذه المتضادات المتقابلات، والله تَعَالَى هو العليم بكل شيء.
وقوله: [والحياة والموت] الموت له حكم عظيمة، فإما أن يموت شرير فيستريح الخلق من شره، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مستريح ومستراحٌ منه}.
فلو كَانَ فرعون وماركس وغيرهما -عياذاً بالله- أحياء لما وجد النَّاس راحة في حياتهم، فيكفي أن الأمم والشعوب عانت من شرهم مدة حياتهم، فلما ماتوا استراح النَّاس من شرهم، وكذلك موت الأخيار أيضاً فيه حكمة.
فأفضل خلق الله مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلله عَزَّ وَجَلَّ حكمة في موت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها: أنه بشر فلا يعبد من دون الله ولا يؤله.
ومنها: أن يقوم النَّاس من بعده بالدين، ويعلموا أن مسئولية هذا الدين عليهم.
ولهذا أعلنها الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: (من كَانَ يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كَانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت) وارتد من ارتد من العرب، وتبقى الصفوة المختارة المؤمنة لترد النَّاس إِلَى الدين، وهذه حكمة عظيمة جداً، عرفنا بها أنّ ديننا من مسئوليتنا وأن نشره يكون عَلَى أيدينا، فالله تَعَالَى لو شاء لجعل النَّاس أمة واحدة، لكن حكمة الله اقتضت أن نبذل الجهد، فكم خرج من الْمُسْلِمِينَ! وكم قتل منهم في معارك الفرس والروم! وكم فُتح من البلاد وأسلم بسبب ذلك أناس كثيرون؟!
فكان في ذلك كثير من الحكم والمصالح، ومع ذلك فإن موته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبة، فأعظم مصيبة حصلت في هذه الأمة فقده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعدلها أي مصيبة عَلَى الإطلاق، ومع ذلك فيها حكمة بل حِكم مما نعلم وما لا نعلم.. وهكذا.
قوله: [والحسن والقبيح] ففي الحسن حكمة وفي القبيح حكمة، فلو كانت المخلوقات كلها حسنة ما عرف أنها حسنة، فُحَسنُ الحسَنِ لا يعرف جلياً إلا بقبح القبيح، ولهذا فإن بعض النَّاس قد يستقبح شيئاً، فإذا رأى القبيح رجع لذلك، وجعل له قيمة عظيمة، ولهذا فشكر النعم يأتي من نظرنا إِلَى من هو دوننا.
فقد أمرنا النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننظر في أمور الدنيا إِلَى من هو دوننا وأقل منا.
قوله: [والخير والشر] فلا تصلح حياة النَّاس لو كانت كلها خيراً، فكيف نعرف الأخيار من الفجار؟
فلو كَانَ كل ما وجد في الدنيا خير ما ظهرت ميزة شيء عَلَى شيء، فهذه بهيمة الأنعام جعل الله الخير في ألبانها، وفي لحومها، وفي أصوافها، وفي أوبارها، فيستفاد من جميع أجزائها، حتى عظامها يُعمل منها صناعات معينة، فهذه كلها خير.
وفي المقابل: الكلاب والخنازير والحيوانات السامة، هي شر، فجعل هذا وهذا لنعرف نعمة الله علينا بتلك فنشكره، ونعرف نعمة الله أن عافانا من هذه، وكيف لو خلق هذه مثل تلك -عياذاً بالله-
.
فإذاً.. بهذا نعرف أن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة.
  1. خلق المتضادات تحقيق لحكمة الله وكمال تصرفاته

    في خلق الله لهذه المتضادات المتقابلات تبيين قدرة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أن يخلق ما يشاء، وله في ذلك الحكمة، يقول: [وذلك] أي: وجود هذه المتناقضات والمتضادات [من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالَّ تصرفه وتدبيره]، فيصرفها ويدبرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسلط إبليس عَلَى الكافرين، فيؤزهم أزاً، ويدفعهم إِلَى الشر، ويسلطه عَلَى المؤمنين فيرفضونه، ويعصونه، فترتفع درجاتهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ويسلط العقرب أو الحية، فتلدغ الفاجر فيكون ذلك عقوبةً ونكالاً وكفاً لشره عن الناس، ويسلطه عَلَى المؤمن، فيكون في ذلك رفعاً لدرجته وخيراً وطهوراً له من ذنوبه.. وهكذا، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها محالَّ تدبيره، يدبر الخير أو الشر كما يشاء عن طريق هذه المحالَّ.
    وعندنا أمران أمر بهما الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس":
    الأمر الأول: أن يسجد مع الملائكة، وذلك عند ما قال الله للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) [البقرة:34] وهذا الأمر يشمل إبليس أيضاً، فقوله: "اسْجُدُ" يقابله عندنا فعل آخر، وهو: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم)) [الإسراء:64] الآية فهنا "اسجد" وهنا "استفزز"، فالأمر بالسجود أمر شرعي، لكنه لما قال له: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ)) [الإسراء:64] فهذه الأوامر كونية، فالله تَعَالَى كوناً وقدراً قضى بذلك وقدَّره.
    [وليس أمراً بفعل ذلك] أي: أذن لك بذلك كوناً وقدراً، لكن النهاية أنت ومن اتبعك مصيركم إِلَى النار، وأما الأمر بالسجود الذي أمر الله تَعَالَى به المؤمنين وهو الأمر الشرعي، فيجب أن يطاع، لا أنه مجرد مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ولكن إذلال الشيطان لبني آدم هذا بمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ثُمَّ يقول: [فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير ملكه] فلو خلا الوجود عن بعض هذه بالكلية، كما لو خلا من الليل فكان كله نهاراً، أو خلا من الأدواء وكان الوجود كله شفاءً وعافيةً، أو خلا من الموت فكان الوجود كله حياةً، أو خلا من القبح فكان الوجود كله حُسْناً، أو خلا من الشر فكان كله خيراً؛ لكان في ذلك تعطيل لحكمته ولكمال تصرفه وتدبير ملكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن وجود هذه المتناقضات والمتضادات فيها تحقيق لحكمته ولكمال تصرفه، فلنتدبر ذلك ونتأمله.
  2. ظهورأسمائه القهرية

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلَّقها، ولو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] اهـ.
    الشـرح:
    إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أفعال تقتضي وجود وظهور آثاره، ومن أسمائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "القهار، شديد العقاب، سريع الحساب" فلو لم يكن هنالك من يُقهر، ويُحاسب، ويُعاقب، ما ظهر أثر هذا الاسم، وأيضاً "ذي البطش الشديد".
    فلو لم يوجد مجرم مذنب يكون أهلاً لوقوع البطش لما ظهر أثر هذه الصفة.
    وفي "الخافض" لو لم يوجد من يخفض ويستحق الخفض لما ظهر أثر هذا الاسم، وهو الخافض.
    وفي "المذل" لو لم يوجد من يستحق أن يذلَّ لما ظهر أثر هذا الاسم أو الفعل.
    فالقهار المنتقم يدل عَلَى أنه يوجد من يقهر، ويوجد من ينتقم عدلاً، ومن عومل بالعدل فقد هلك.
    "والضار" لأن الله تَعَالَى هو النافع الضار، فلو لم يوجد من يُضر بإذن الله سبحانه تعالى، وينزل به ضرر من الله، فأين سيظهر أثر هذا الاسم؟
    وهكذا كثير من أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأفعاله تقتضي وجود آثارها، وقد ذكر المُصنِّف آثار أسمائه المقابلة لهذه الأسماء المذكورة وهي المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته.
    قال المصنف: [فإن هذه الأسماء والأفعال] إذاً.. فبعضها أسماء، وبعضها أفعال، فهو لم يحب أن يدخلنا في قضية وهي: هل هذا اسم أم أنه ليس اسماً بل هو فعل؟ لكن كونها أفعال فلا شك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل الانتقام، فهو إذاً منتقم، فقد سمى نفسه ((عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)) وكونه "ضار" نَحْنُ لا نذكر هذا الاسم إلا مقروناً، فهو من الأسماء التي لا تذكر مفردة، لكن نقول: الله هو النافع الضار، والكلام الآن في جانب واحد وهو جانب الضرر، ويأتي بعد ذلك الجانب الآخر في الحكمة التالية التي تليها، فالكلام الآن عن جانب الضرر: القهر، الانتقام، الغضب، العقوبة.

    ويأتي بعد ذلك جانب العدل، والرحمة، والحلم، والعفو، والستر، والتجاوز، وكذلك أيضاً: الرافع والخافض، والمعز والمذل [فإن هذه الأسماء والأفعال كمال] وكل صفة كمال فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولى وأحق بها عَزَّ وَجَلَّ.
    يقول المصنف: [لا بد من وجود متعلقها] أي: لا بد أن يوجد متعلق هذا الاسم [لو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة] لو كانوا خيراً محضاً لما غضب، ولما انتقم، ولا أذل، ولا خفض، ولا بطش بأحد، لأنهم كلهم عَلَى طبيعة الملائكة، لكن لما كَانَ فيهم الأخيار وفيهم الفجار، والأخيار درجات، والفجار درجات.
    فمن هنا تظهر آثار هذه الأسماء، فجانب الأشرار والفجار يكون متعلق لهذه الأسماء والصفات، ولهذه الأسماء والأفعال، فينتقم ممن يستحق الانتقام منهم، ويبطش بهم، ويذلهم، ويخفضهم، وفي المقابل ما يتعلق بظهور آثار أسماءه المتضمنة لحلمه وعفوه.