المادة    
قال المصنف رَحِمَهُ اللهُ:
[منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تَعَالَى عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته] إهـ.
الشرح:
إن هَؤُلاءِ القدرية الذين عطلوا حكمة الله، أو سألوا هذا السؤال: كيف يشاؤه وهو يكرهه؟ غافلون عن حكمة الله في خلق إبليس مثلاً، أو وجود الشر النافذ عنه.
  1. إظهار قدرة الله على خلق المتضادات

    من الحكم العظيمة في وجود الشر: أن يظهر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للعباد قدرته عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فالكون -كما ترون الآن- فيه متضادات، خير وشر، وصلاح وفساد، وتوحيد وشرك، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، وأولياء الله وأعداء الله، ومتقون وفجار.. وهكذا.
  2. جبريل مثال للخير وإبليس مثال للشر

    يقول المصنف رحمه الله: [فخلق الله هذه الذات] أي: ذات إبليس [التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير] فجبريل عَلَيْهِ السَّلام مادة كل خير من جهة أنه رَسُول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الملكي إِلَى رسله من البشر، ولهذا كَانَ التمثيل بجبريل عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن التمثيل بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل هو الذي بلغ الوحي إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك بلغه إِلَى موسى وإلى عيسى وإلى من قبله.
    حتى أن ورقة بن نوفل لما جاءته خديجة وأخبرته بشأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {هذا هو الناموس الذي كَانَ ينزل عَلَى موسى} ولهذا قال اليهود: إن عدوهم هو جبريل، قالوا: يا مُحَمَّد! من الذي يتنَزل عليك بالوحي؟
    قال: جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
    قالوا: ذاك عدونا من الملائكة -عياذاً بالله- ولهذا قال الله تَعَالَى فيهم في سورة البقرة:
    ((مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) [البقرة:98].
    فهذا يدل عَلَى أن اليهود من جنس إبليس عياذاً بالله، من نفس المادة -مادة الشر- بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سمى اليهود شياطين، كما سمى الشيطان شيطاناً، قال تعالى: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ))[البقرة:14] أي: إذا خلا المنافقون إِلَى اليهود قالوا: إنا معكم، فهم شياطينهم؛ لأن الشيطان يمد الإِنسَان بالشهوات والشبهات، واليهود أيضاً يمدون الإِنسَانية بالشهوات والشبهات، فانتشار القمار، والزنا، والربا في كل مكان وفي كل عصر عَلَى أيدي هَؤُلاءِ.
    فكانوا يأتون إِلَى المنافقين ويقولون: نبيكم مُحَمَّد فيه كذا وكذا؛ لأنهم يعتبرون أن عندهم علم من الكتاب وأولئك أميون، فالمنافقون إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إِلَى اليهود -أي: إلى شياطينهم- قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون .
    فالغرض من ذلك هو دقة تعبير المُصنِّف -رحمه الله تعالى- لماّ قَالَ: [التي هي من أشرف الذوات] فلم يقل جبريل أشرف الذوات حتى لا يُفهم أنه يقول: إن ذات جبريل أفضل من ذات مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العلماء اختلفوا، هل هذا أفضل أو هذا أو هما سواء؟ وليس هذا هو مراد المُصنِّف هنا، وإنما مراده أن يخرج من الخلاف.
    فيقول لك: إن أصل مادة الشر هو إبليس، وأصل مادة الخير هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام؛ لأن ما جَاءَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير والرسالة هو عن طريق جبريل، وكذلك كل ما أتى جميع الأَنْبِيَاء هو عن طريق جبريل عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: [فتبارك خالق هذا وهذا]، فتبارك الله الذي خلق أصل كل شر وخلق أصل كل خير، هكذا اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.