المادة كاملة    
ما زال الحديث حول موضوع الرؤية، فقد جاء توضيح لمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا -في ليلة المعراج- ومن ثمّ استرسال في شرح آيات سورة النجم وغيرها وتوضيح دلالاتها؛ لتوضيح أن الرؤية كانت من النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، وهو ما أراد ابن أبي العز تقريره.
  1. رؤية الله في الدنيا

     المرفق    
    1. من سوى النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى الله في الدنيا بعينه بالاتفاق

      قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى :
      [واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومن بعدهم في رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكار عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أن يكون صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لـمسروق حين سألها: هل رأى مُحَمَّد ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثُمَّ قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
      ثُمَّ قَالَ: وقال جماعة بقول عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهو المشهور عن ابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ واختلف عنه وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينه.
      وروى عطاء عنه: رآه بقلبه ثُمَّ ذكر أقوالاً وفوائد ثُمَّ قَالَ: وأما وجوبه لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه عَلَى آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال لهما ممكن، وهذا القول الذي قاله القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنه إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عَلَيْهِ السَّلام؛ لكن لم يرد نص بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه بل ورد ما يدل عَلَى نفي الرؤية، وهو: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: {سألت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ فَقَالَ: نور أنَّى أراه} وفي رواية: {رأيت نورا}.
      وقد روى مسلم أيضاً عن أبى موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: {قام فينا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، فقَالَ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور} وفي رواية: {النَّار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فيكون -والله أعلم- معنى قوله لأبى ذر {رأيت نوراً} أنه رأى الحجاب ومعنى قوله: {نورٌ أنى أراه} النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟ أي: كيف أراه والنور حجاب بينى وبينه يمنعنى من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة عَلَى ذلك ونحن إِلَى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
      وقوله: بغير إحاطة ولا كيفية -هذا لكمال عظمته وبهائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يحاط به علما، قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)) [الأنعام:103] وقال تَعَالَى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طه:110] اهـ.

      الشرح:
      يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: [واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه] هذه قاعدة عظيمة وإجماع متواتر لا يشك فيه عالم بدين الله تعالى، ولا يماري فيه ولا يدعي خلافه إلا زنديق أو جاهل، وهو أنه لا يرى الله تَعَالَى أحد في هذه الدنيا جهرة، ولو كَانَ ذلك حاصلاً لأحد من الأولياء أو من العباد لكان كليم الله موسى أولى به، بل الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم الخلق عَلَى الله وأعظمهم ولاية وقربة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأرفعهم درجة وهو الذي وصل عنده في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى الغاية التي لم يصل إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومع ذلك فإنه لم ير ربه بعينه في الدنيا وعلى هذا يدل الحديث الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت}،
      ولم يخالف في ذلك أحد من أئمة الإسلام وعلمائه المعتبرين -والْحَمْدُ لِلَّهِ- وإنما وردت في كتب الصوفية الزنادقة -الذين يتمسحون بالتعبد والتأله والتزهد، وهم زنادقة فجرة- نقل عنهم أنهم يرون ربهم وأنهم يثبتون ذلك للأولياء أو الأقطاب، وقد أفتى العلماء ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، بأن من قَالَ: إن أحداً من الأقطاب أو الأولياء أو الأوتاد يرى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعينه في هذه الحياة الدنيا، فإنه يبين له الدليل، فإن تاب وإلا قتل، ويكفر إذا كَانَ يعتقد أن في ذلك تفضيلاً، فإذا بُين له أنك بهذا القول تفضل القطب أو الولي عَلَى أنبياء الله؛ لأن الله منع الرؤية عن موسى عَلَيْهِ السَّلام، فإذا اعتقد أن هذا الولي أو القطب أياً كَانَ أفضل من موسى عَلَيْهِ السَّلام، أي: حصل له ما لم يحصل للنبي، وكان ممن يعتقد تفضيل الأولياء عَلَى الأَنْبِيَاء كما كَانَ يقول ابن عربي وأمثاله، فعليه أن يرجع ويعود إِلَى حظيرة الإيمان ولا يعود إِلَى هذا القول، فإن أصر عَلَى هذا القول، فإنه يقتل كفراً وردة، وينطبق عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر منها: التارك لدينه المفارق للجماعة} فهذا ترك الدين وفارق الجماعة بعد قيام الحجة عليه، هذا بخصوص رؤية غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
    2. النزاع في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا

      النزاع في رؤية النبي لربه قديم من أيام الصحابة -رضوان الله عليهم- وبعض العلماء ينفى التنازع ويقول: إنه لم يحدث، ولم يقع خلاف بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رؤية الله عياناً بالبصر وكلهم متفقون عَلَى أنه لم يقع، وما نقل عن بعضهم كـابن عباس وابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، إما أنه لم يثبت وإما أن المقصود به الرؤيا بالقلب وليست بالعين، وهذا القول رجحه كثير من العلماء، وهو الذي رجحه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي وقَالَ: إن الصحابة اتفقوا عليه، وهو أيضاً القول الذي اختاره الحافظ ابن كثير في أول كلامه عَلَى سورة النجم وإن كَانَ بعد ذلك ذكر ما يشعر بخلافه، وكأنه -رَحِمَهُ اللَّهُ- اضطرب في ذلك، فالمقصود أن الذي عليه الأغلب والذي تجتمع به الأدلة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به لم ير ربه تَعَالَى بعينه فضلاً عما سوى ذلك.
      وإنما حصل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤية أخرى بالقلب، وهي التي ذكرت في حديث اختصام الملأ الأعلى {رأيت ربى في أحسن صورة}، وهو من رواية ابن عباس التى سندها سند البُخَارِيّ {لما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه في المنام في أحسن صورة فقَالَ: يا مُحَمَّد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقَالَ: لا، فقَالَ: في الكفارات والدرجات} وهو الحديث الذي ذكر طرقه ورواياته الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة (ص) عند قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ)) [صّ:69] وشرحه الحافظ ابن رجب في كتاب منفرد وهو (اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- اختصر ما جَاءَ في كتاب الشفا في أحوال المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقاضي عياض المالكي، وقد تحدث وأطال في موضوع الرؤيا، ولخص المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- كلامه، كما أطال في ذلك الشرح، وقد شرحه اثنان أحدهما شهاب الدين الخفاجي وسمي شرحه نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض والشرح الآخر للملا عَلَى القاري الحنفي وأصل الخلاف في موضوع رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هل حصلت بالعين أم لم تحصل- هو اختلاف العلماء من عهد الصحابة في تفسير سورة النجم في قوله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى))[النجم:1-17] وإذا تأملنا الآيات نجد أنها أثبتت رؤيتين لما قال: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) [النجم:13] هذه هي الأخرى، وكلمة (نَزْلَةً) اسم مرة، يعنى: مرة أخرى، والمرة الأولى كانت قبل ذلك، والفهم الذي يمكن أن نفهمه قبل أن ندخل ونخوض في الخلاف أن القول الصحيح الراجح يتبين من سياق الآيات نفسها، فإن الله تَعَالَى أقسم بالنجم إذا هوى بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بضال ولا غاوي عن الطريق كما يزعم أولئك، وأن ما يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو وحي يوحى علمه شديد القوى، وقد جَاءَ في القُرْآن في مواضع أخرى أن الذي علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآن والوحي هو جبريل الأمين كما قال تَعَالَى :((وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)) [التكوير:23] والمقصود بالرؤية هنا بلا شك هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
      وفي صحيح البُخَارِيّ وغيره أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقه الله تَعَالَى عليها، له ستمائة جناح قد سد الأفق وفي القُرْآن يقول الله: ((وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ))إذاً الآية والأحاديث الصحيحة تدل عَلَى أن المرئي هنا جبريل وعلى أن الذي يعلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو جبريل((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:5-8] فالأفق الذي ورد هنا ورد في الآية الأخرى وفي الأحاديث، ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:8] إذاً جبريل عَلَيْهِ السَّلام دنا فتدلى من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)) [النجم:9] أي: لا يزيد عن ذلك، فـ(أو) ليست للشك وإنما هي لنفي الزيادة، أي: تكون أقل من ذلك كما قال تَعَالَى ((وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)) [الصافات:147] فقوله (أو) ليست للشك؛ لكن المعنى أنهم لا ينقصون عن المائة ألف بل يزيدون.
      فالمقصود أن جبريل عَلَيْهِ السَّلام دنا فتدلى وهو بهيئته وخلقته العظمى التي خلقه الله تعالى عليها بعد أن كَانَ يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في صورة إنسان من البشر، كما أتى في صورة دحية الكلبي، فإن الله تَعَالَى أعطى الملائكة قوة التشكل والتصور كما يشاء تَعَالَى أن يأتوا، ولكن من حكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن رحمته، وليثبت نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذهب عنه الروع والخوف مما لقيه لما نزل عليه الملك بـحراء، وليطمئنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن هذا ليس بجني وليس بشيطان، وأن هذا حق وهو رسوله إِلَى رسله وأمينه الذي ائتمنه عَلَى وحيه، فجاءه جبريل في تلك الصورة فتأكد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستيقن أن هذا هو رَسُول الله وأمينه، وهو روح الله تعالى؛ لأن تلك الصورة العظمى لا يمكن ولا يتخيل أن يكون عليها أي مخلوق من المخلوقات، فإنها من العظمة بما تعجز عنه العقول، حتى قال في إحدى الروايات في المسند {فكان له ستمائة جناح يسقط منها التهاويل والدر والياقوت} يعنى: الجواهر والياقوت الملون العظيم تتساقط من ستمائة جناح قد سدت الأفق كله، وهذا دليل عَلَى عظم خلق جبريل عَلَيْهِ السَّلام التى خلقه الله عليها وإذا شاء الله عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ في صورة رجل كما جَاءَ في حديث جبريل المعروف، وجلس بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلسة المتعلم السائل وهو في الحقيقة المعلم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في قوله {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}.
      إذاً قوله تعالى: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى))[النجم:8-10] معناها: فأوحى جبريل إِلَى عبد الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جَاءَ هذا التعبير كما في قوله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه)) [الإسراء: 1] والعبودية هي أشرف وصف يوصف به المخلوق، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك ونص عليه وقَالَ: {لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله} فأشرف وصف يقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عبد الله ورسوله العبد الذي تحققت فيه كل معاني العبودية ففي مجال التكريم والتعظيم والتشريف يقول الله: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه))ويقول: ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)) [النجم:10] كأنه هو وحده العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد، ولكن اختصاصه بهذا لأنه بلغ الدرجة العليا في العبودية، وهو أيضاً عند الله بمنزلة عليا لا يشاركه فيها أحد.
      والتعبير فيه إشارة لطيفة جداً إِلَى أن الرؤيتان حصلتا لجبريل: رؤية في العالم السفلي حيث رآه في أجياد أو في الأبطح وهنالك ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] فهي ليست مجرد رؤية بالعين بل حقيقة استيقنها القلب، ورؤية حصلت في الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى وهناك ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] فلم يزغ البصر ولم يطغ مما رأى لأنه فوق طاقة البشر ((لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم:18] ومنها رؤية جبريل عَلَى خلقته فالرؤيتان كلاهما لجبريل فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خلقته التي خلقه الله عليها مرتين.
      إذاً: إذا تأملنا أوائل سورة النجم التي حصل فيها الخلاف لم نجد الظاهر والراجح إلا القول بأن الرؤية لجبريل عَلَيْهِ السَّلام، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس فيه إشارة إِلَى أنه رأى ربه، يعنى: لا يدل عَلَى ذلك، فالكلام كله في الوحي، وفي نزول جبريل عَلَيْهِ السَّلام بالوحي، وفي الرؤية التي حصلت ثُمَّ قال :((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) [النجم:13] فالمرأي في الأخرى هو المرأي في الأولى، وهناك إجماع عَلَى أن هذا المرأي في قوله: ((وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)) [التكوير:23] الضمير يعود عَلَى جبريل عَلَيْهِ السَّلام،.
      وكل ما ورد بخلاف ذلك فهو مرجوح، مثل ما ورد في رواية شريك بن عبد الله {ثُمَّ دنا الجبار فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} هذه رواية مرجوحة مضطربة كما سيأتي إن شاء الله الكلام عَلَى ضعفها واضطرابها بالتفصيل في مبحث الإسراء والمعراج.
      وكيف حصل النزاع؟ الذي يبدوا -كما أشرنا- أنه حصل لبس في فهم الرؤية وفي الضمير عَلَى من يعود في قوله تعالى: (((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))
      وليس فيما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وعن أَبِي هُرَيْرَةَ وإن كَانَ لا يثبت عنه، وعن ابن مسعود من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه؛ لأنه قد روى النَّسَائِيُّ وغيره عن ابن عباس قَالَ: {إن الله اختص موسى بالتكليم، واختص إبراهيم بالخلة، واختص مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرؤية} وأيضاً ما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))[الإسراء:60] قَالَ: {رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به}، فحصل اللبس في مثل هذا.
      إما أن يكون صح عن ابن عباس أنه قَالَ: إنه رآه بعينه ويكون اللبس حصل في فهمه -فلا يمنع ذلك- وهو الحبر العالم الجليل المشهور، ولكن العصمة إنما هي لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخطأ في مثل هذه الأمور وما عداه فالخطأ عليه وارد.
      وإما أن يكون الخطأ حصل من الرواة ومن بعد الصحابة كـعكرمة ومسروق
      ومن روى عنهم هذا القول، وقصة مسروق مع أم المؤمنين في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البُخَارِيّ تدل عَلَى أن اللبس في الفهم وقع من مسروق، كما في الحديث المتفق عليه، وهذا لفظ مسلم [[قال مسروق: كنت متكئاً عند عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فقالت: يا أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية]] ثلاثة أمور مهم جداً أن نعلم هذه الأمور، ولا سيما وأن أم المؤمنين قد قالتها وهي جازمة متأكدة، لنعلم أن احتمال الغلو في رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ من قديم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوقعونه إن لم يكن قد ظهر بوادره في أيامهم، وعالجوه بمثل ما عالجت به أم المؤمنين بقولها هذا: قالت لـمسروق أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم عَلَى الله بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية، أي: افترى عَلَى الله افتراءً عظيماً.
      [[قلت: ما هنَّ؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية، وكان مسروق متكئاً فجلس فـمسروق
      ]]، أحس أنها صدمته بقول كَانَ يظن ويعتقد خلافه.
      قَالَ: [[فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعذريني]] أي: يا أم المؤمنين سأقول كلاماً يخالف كلامك تبيني ما أقول ثُمَّ أجيبيني.
      [[قالت أم المؤمنين: نعم قَالَ: ألم يقل الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)) [التكوير:23] ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))]].
      أي: أن مسروقاً كَانَ لديه لبس وهو أن هذا المرئي بالأفق المبين وفي النزلة الأخرى هو الله.
      [[فقالت أم المؤمنين: أنا أول هذه الأمة سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما هو جبريل) أي أن الذي رأيته بالأفق المبين، والذي رأيته نزلة أخرى إنما هو جبريل، ولم أرَه عَلَى صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، ثُمَّ قالت أم المؤمنين: (ألم تسمع أن الله يقول: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الأنعام:103] ألم تسمع أن الله يقول: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51].
      ثُمَّ قالت أم المؤمنين [[ومن زعم أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم عَلَى الله الفرية]] إذاً فقد كَانَ يوجد في أيامها من يفهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ولهذا ردت عليه بالأولى، وكان في أيامها من يشيع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من العلم ولم يبينه للأمة، وقد وجد ذلك فكانت بداية الرفض في أيام عَائِِِشَةَ رضي الله عنها بل قبل أن يراها مسروق.
      وفي إمارة أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ الرافضة يشيعون بأن هناك علماً خاصاً أوحاه الله إِلَى محمد؛ ولكنه كتمه عن الأمة جميعاً، واختص به علياً وآل البيت، وهو علم الجفر الذي يزعمون أن علياً أخذه، وأخذ الأئمة من بعده يتداولونه سراً حتى وصل إِلَى الإمام الثاني عشر، فأخذه ودخل به السرداب، ولن يرى النَّاس هذا العلم المكتوم إلا إذا خرج من السرداب، فحينئذ ينشر شيئاً من علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لم يعلمه أحد من الأمة، وهذه الإشاعات كانت لها بدايات موجودة في أيام أمير المؤمنين عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
      ولهذا صح عنه في الصحيح وغيره لما سُئل {هل خصكم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم؟ وهذا دليل عَلَى أنه قد أشيع، وإلا فكيف يسئل عنه؟ قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة: ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم، إلا فهماً في كتاب الله يؤتيه من يشاء، وما في هذه الصحيفة، فلما أخرجها وإذا فيها الديات وفكاك الأسير، ولعن الله من آوى محدثاً وأن المدينة حرم} عَلَى اختلاف الروايات.
      وهذا الحديث وما فيه من الأحكام، كانت مكتوبة واحتفظ بها علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولم تكن خاصة لأنها قد رويت عن غير عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهي معلومة عند الأمة من طرق ومن أحاديث أخرى، فليس فيها اختصاص إلا أنها كانت مكتوبة، وكان أمير المؤمنين يضعها في قراب السيف ليحتفظ بها
      .
      والقضية الثالثة التي من قال بها فقد أعظم عَلَى الله الفرية تقول أم المؤمنين: [[ومن زعم أنه -أي: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم عَلَى الله الفرية]]، وفي رواية أيضاً صحيحة: [[ومن زعم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية]]، وهذا افتراء عظيم عَلَى الله، فقد كانت هناك أيضاً بوادر غلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الجارية تنشد (وفينا رَسُول الله يعلم ما في غد) فنهاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقول ذلك، وقد ظهر وانتشر في الأعصار المتأخرة حتى وجد من يقول: أنه عَلِمَ كل شيء حتى أنه علم متى تقوم الساعة -نعوذ بالله - أيُّ غلو وأي افتراء عَلَى الله وأي تكذيب لكتاب الله أعظم ممن يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم الغيب كله حتى أنه يعلم متى تقوم الساعة؟ فماذا بقي لله عَزَّ وَجَلَّ؟ بل قال قائلهم وهو البوصيري:
      ومن علومك علم اللوح والقلم
      الكتاب المبين الذي أحصى الله فيه كل شيء ما كَانَ وما سيكون يجعلونه جزاءً من علوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأي غلو وأي افتراء أعظم من ذلك؟! وهذا تكذبه الآيات من كتاب الله وتكذبه سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نطقت به أم المؤمنين وقد أعظموا عَلَى الله الفرية بقولهم هذا.

      ثُمَّ استشهدت أم المؤمنين الفقيهه عَلَى القضية الأولى بنفي الرؤية بآيتين، وقد سبق شرح الآيتين وجاءت الآية الثانية وهي البلاغ فقالت: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة: 67] فمن يقول إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من العلم فإنه يتهمه بأنه لم يبلغ الرسالة.
      واستدلت عَلَى القضية الثالثة وهي أنه لا يعلم الغيب أيضاً بآية من كتاب الله وهي قوله تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)) [الأنعام:58-59] وتقديم الضمير والظرف للاختصاص.

      والمراد أنه بهذه الأحاديث وبالحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر يتضح لنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرَ ربه وأن ما قيل عن رؤيته لربه يحمل عَلَى الرؤية القلبية. يعنى ما جَاءَ عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه قَالَ: [[رآه بفؤاده مرتين]] فنحمل المطلق عَلَى المقيد، ونقول: ما أثبته ابن عباس هو رؤيته لربه بفؤاده وقد يرد سؤال فيقول بعضهم: الرؤيا بالفؤاد ثابتة لجميع الأَنْبِيَاء والصالحين؟ ومن حقيقة هذا كلام يطلق ويقال ولو دقق فيه الإِنسَان لوجد أنه غير صحيح إذ كيف تحصل الرؤيا بالفؤاد لجميع المؤمنين؟!
      وإذا وجدنا أن ابن عباس نفسه قد جَاءَ عنه بالسند الصحيح الذي هو سند البُخَارِيّ حديث الرؤيا المنامية {رأيت ربى في أحسن صورة} فنعلم حينئذ أن ابن عباس لم يتناقض، وإنما يقصد أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بفؤاده ورآه في المنام ورؤيا الأَنْبِيَاء حق، فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى ربه في المنام مرتين بفؤاده، وليس مجرد العلم بالله أو بصفاته بالقلب بل رآه حقاً بفؤاده مرتين ورأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام بعينه بخلقته التي خلقه الله عليها مرتين، وبذلك تجتمع النصوص والأدلة.
      أما ما روي عن ابن مسعود وأبى هريرة، فإنه لا يصح كما يظهر من الروايات التي رويت عنهما ، وحديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه، وهذا يدل عَلَى أنه إن صح عن أبي ذر احتمال للرؤية، فإنه كَانَ قبل أن يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد أن سأل فلم يعد هنالك احتمال؛ لأن الحديث صحيح صريح {قَالَ: سألت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ فَقَالَ نور أنى أراه}، وفي رواية {رأيت نوراً} أي: لا أستطيع كيف أراه؟
      ورواية أبي موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صحيح مسلم تؤيد هذا، وهو قوله قام فينا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، أي: خمس كلمات عظيمة جداً، وهذا الحديث فيه {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام} -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته وذكرنا أنه ليس هناك نفي مطلق مجرد وإنما يأتي النفي المطلق لإثبات مقابله من الصفات الثبوتيه،((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم))[البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ))[فاطر: 44] أي لكمال قدرته، فكل نفي يأتي في القُرْآن لا يأتي مجرداً، إنما يأتي لإثبات الصفة الثبوتية التي يدل عليها ذلك النفي.
      وتمام الحديث {يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره}.

      والصحابة مجمعون عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه بأم عينه، وقد تقدم الكلام عَلَى المراد بآيات سورة النجم.
      قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: [وأما وجوبه -وجوب الرؤيا- لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول بأنه رآه بعينه] المقصود بالوجوب في كلام القاضي عياض أي الوقوع فالمعنى: وأما وقوعه كما قال تعالى: ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا))[الحج: 36].
      لكن الذين يقولون: إنها قد وقعت فإنه يجب الإيمان بها، لأن ما صح في الحديث يجب أن نؤمن به، فإن الوجوب فرع عن الثبوت.

      والشاهد من قول القاضي عياض "فليس فيه قاطع ولا نص إذا المعول فيه عَلَى آيتي النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك" قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى تعليقاً عليه: [وهذا القول الذي قاله القاضي عياض هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عَلَيْهِ السَّلام] فالأنبياء لا يجهلون ما ينبغي في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى حد أن يسألوا الرؤية وهي مستحيلة، وإنما هي ممكنة، ولكنها في هذه الدنيا لم تقع ولم يوقعها الله له، وإنما تقع في الآخرة.
    3. تقرير رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام

      يقول المصنف: [ونحن إِلَى تقرير رؤيته - أي: رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة].
      معنى كلامه نَحْنُ أحوج إِلَى أن نثبت ونقرر رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل، ولا شك أن رؤية الله أعظم من ذلك، ولكن لا تتوقف النبوة عَلَى إثبات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه، إذ من المعلوم لدى جميع الأمم التي تؤمن أن الله يرسل رسلاً وأولئك الرسل لم يقل أحد منهم إني رأيت ربي.

      فمعلوم عند بني الإِنسَان أن رؤية الله تَعَالَى ليست شرطاً في النبوة، لكن نَحْنُ أحوج إِلَى تقرير أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل، وهذا تقريره عظيم ومهم؛ لأن فيه علاقة بإثبات النبوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من النَّاس من قالوا: إن الشياطين تنزلت بالقرآن فنفى الله ذلك((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)) [الشعراء:210-211]. ((قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ))[النحل:24] ولم يكن المُشْرِكُونَ ينفون الوحي من ربه، وأنه لم يرى ربه؛ بل كانوا يقولون إن هذا الوحي ليس عن طريق ملك، وإنما هو شيطان يلقي إليه هذا القول.
      فإذا أثبتنا وقررنا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام في خلقته الحقيقة الكاملة له التي خلقه الله عليها، فهذا رد واضح عَلَى مزاعم أُولَئِكَ الكفار الذين يزعمون أنه تلقاه عن الشياطين وقد أثبت الله تَعَالَى أنه قول رَسُول كريم نزل به الروح الأمين وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام، ولهذا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى جبريل في صورته التي خلقه الله عليها اطمئن وتيقن أن هذا ملك مرسل من عند الله عَزَّ وَجَلَّ وخاصة بعد أن نزل الوحي، ولم يكن لديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شك أصلاً، ولكن بلغ ذروة اليقين بأن هذا ملك من عند الله، وهذا هو الملك الذي لا يمكن أن تتخيل صورته بأي مخلوق آخر من المخلوقات، فحينئذ وصل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطمأنينة الكاملة.
      وقوله ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)) ورد أن الذي أوحى به إليه هو ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ))، أو الضحى وبنزول هذه الآيات عليه زادته اطمئنانا، خاصة بعد أن زعم الكفار أن شيطانه قد كذبه فَقَالَ الله: ((مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)) [الضحى:3] إذاً فنحن إِلَى تقرير رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى.

      أما قوله [بغير إحاطة ولا كيفية] فقد سبق شرحها، وقلنا: إنه إذا جَاءَ في الكتاب أو السنة نفي مجرد فإن الله لا يوصف به؛ بل لإثبات كمال ضده [بغير إحاطة ولا كيفية] لكمال عظمته فالله تَعَالَى يُرى بغير إحاطة ولا كيفية؛ أي معلومة من جنس الكيفيات التي يرى بها المخلوقون.
      ثُمَّ قال فيما سبق أيضاًً: [وهذا لكمال عظمته وبهائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يُحاط به علماً] فهو كذلك يُرى، ولا تدركه الأبصار ثُمَّ قَالَ: قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الأنعام:103] وقَالَ: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) وهذا مما سبق شرحه وإيضاحه.