المادة    
انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى دعاء النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور المعروف وهو قوله: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك}.
وقد علق رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هذا الحديث بتعليق قيم، وهذه العبارات التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هنا هي من نفائس الكلام، وقد ذكر بعضها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، وكذلك ابن القيم، وهذا مضمون ما ذكراه.
والحديث جدير بنا أن نتأمله وأن نتدبر معناه، كما قال رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الأخير: (فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته).
والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي جوامع الكلم، وهي من خصائصه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ميزاته العظيمة وشمائله الكبرى، فهو يعبر عن المعاني العظيمة المتضمنة للحكم والمصالح الكبيرة ولدرء المفاسد والمضار الكثيرة، بلفظٍ موجزٍ قليل، ومعجزته في ذلك من جهة الفصاحة والبلاغة، ومن حيث وقعه عَلَى السمع، ومن حيث معانيه، كل ذلك يجتمع في أوجز وأبلغ لفظ، وكثير من الأحاديث التي قالها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من باب جوامع الكلم التي تحوي العلوم الكثيرة، وهذا الحديث منها.
والذي يتأمله يجد أن فيه غاية التوحيد، فهو يتضمن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفيه بيان أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه المهرب وإليه الملجأ، فالخوف يكون من الله، والالتجاء يكون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك}
.
يقول رَحِمَهُ اللهُ: [فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة] لكن الأمر كما قَالَ: [الأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها] فأثر الرضا: المعافاة، وأثر السخط: العقوبة [فاستعاذ بالصفة من الصفة، ومن الفعل المرتب عَلَى هذه من الفعل المرتب عَلَى تلك، ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره] وذلك في قوله: {وأعوذ بك منك} قَالَ: [فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك].
  1. وأن إلى ربك المنتهى

    ذكرابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتاب الفوائد تعليقاً عزيزاً لطيفاً عَلَى قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] يقول في معنى كلامه: لا يوجد سبب من الأسباب مستقل بالتأثير، سواءً كَانَ السبب خيراً أو شراً، إلا أن يكون المؤثر والفاعل هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل سبب يستلزم وجود سبب آخر إِلَى أن تنتهي أسباب الخير وأسباب الشر، وكل ما يقع في الدنيا من خير أو شر، فالسبب وقوعه هو سبب آخر، والسبب الآخر سبب لآخر.. وهكذا تنتهي كلها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ولهذا إذا أردت أن تختصر الطريق كحال المؤمنين الموحدين المنيبين، فإنهم إن وقع لهم خير أو شر أيقنوا وعلموا أنه من الله، وأنه بقدر منه، أما الذين لا يؤمنون بالله ولا بالقدر فإنهم إذا وقع لهم هذا الشيء، قالوا: إنه بسبب آخر.
    فمثال ذلك: الغبار الموجود.
    قالوا: السبب في هذا الغبار الانخفاض الجوي.
    فإذا قيل: ما سبب الانخفاض الجوي؟
    قالوا: بداية فصل ونهاية فصل.
    فإذا قيل: فما السبب في هذا وذاك؟
    قالوا: دوران الأرض حول الشمس، أو ما أشبه ذلك.
    فإذا قيل: ولماذا تدور، ولماذا..؟ أسباب ثُمَّ أسباب.. وهكذا إِلَى ما لا نهاية، أما المؤمن فيختصر ذلك كله.
    ويقول: هذا من الله، دون أن ينكر تأثير الأسباب التي تنتهي إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي جعلها تؤثر وخلق فيها التأثير، ولهذا نجد أن ما يحسبه النَّاس أسباباً نهائية هو في الحقيقة من العلوم الدنيوية، وأن غاية ما يستطيع العلم البشري أن يفسره من الأحداث الكونية هو أن يبين كيف؟ لكن لماذا؟ هذا الذي تعجز عنه العقول وإن ادعوا، كيف يقع كذا فيمكن أن يعرف البشر كيف يقع؟ لكن لماذا يقع؟ هذا هو الذي يعجز النَّاس عن معرفته إلا المؤمنين.
    مثال ذلك: السحاب يتبخر من البحر، ثُمَّ يرتفع في طبقات الجو العليا، ثُمَّ يبرد، ثُمَّ يهطل عَلَى منطقة كذا من المناطق، فيمكن معرفة كيف وقع وذلك، بأن تتابع هذه العملية متابعة محسوسة حتى تنتهي، لكن لماذا وقع؟
    ولماذا في هذا اليوم بالذات؟
    ولماذا من هذا البحر بالذات؟
    ولماذا خرجت هذه السحابة في هذا الوقت وبهذه السرعة؟
    ولماذا سارت ألف ميل أو عشرة؟
    ولماذا أمطرت في هذا البلد بالذات؟
    ولماذا أمطرت في جزء منه دون جزء؟
    هذا الكلام لا يستطيع العلم البشري الإجابة عليه.
    إذاً.. نعرف بذلك (أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)، وأن نهاية الأمور كلها هي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه خالق الأسباب والمسببات.
    إذاً.. كل شيء راجع إليه وحده لا إِلَى غيره أبداً.
  2. استعاذة العبد داخلة تحت المشيئة

    إذا استعاذ المستعيذ المؤمن المنيب وقَالَ: (وأعوذ بك منك) فهو كما قال رحمه الله تعالى: (فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك) ولكن ما علاقة هذا بالمشيئة؟
    الجواب: أن ما أعوذ منه وأخاف منه وأخشاه فهو واقعٌ بمشيئة الله، وكذلك ما أعوذ به وهو رضا الله ومعافاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فهو أيضاً راجعٌ إِلَى مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ولهذا قَالَ: (بك منك) فمعناه: إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فهو كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمنعي وإعاذتي مما أكره هو بمشيئتك، كما أن هذا الواقع لو وقع فإنه بمشيئتك، أي: أن المحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
    إذاً: هذا كله تسليم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    ثُمَّ يقول: (فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) أي: أعوذ بحول الله وقوته مما يكون بحول الله وبقوته
    .
    لكن لما قَالَ: (ورحمتك) قابلها (بالعدل والحكمة) لأن الرحمة يقابلها العدل والحكمة، وهذه من الدقة في كلامه رَحِمَهُ اللَّهُ، فالعذاب لا يقع برحمة الله، ولكنه يقع بعدل الله وبحكمته وبقوته وبحوله وبقدرته، ولهذا قَالَ: (عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك).
    ولهذا من الأخطاء في الدعاء أن نقول: (اللهم أهلك الكفار والمنافقين والشيوعيين، برحمتك يا أرحم الراحمين) فلا يناسب أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفة الرحمة أن يهلك الكفار، لكن نقول: (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، واشف مرضانا برحمتك يا أرحم الراحمين)

    ثُمَّ يقول: (فلا أستعيذ بغيرك من غيرك) المستعاذ منه واقع بمشيئتك، والمستعاذ به هو صفاتك، إذاً.. لا أستعيذ بغيرك من غيرك (ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك) عندما أستعيذ بك يا ربِ من الشر، فأنا لا أستعيذ بك من شيء صادر من غير مشيئتك وإرادتك، بل هو مما شئته وقضيته وقدرته، فالمرجع كله إليك وإليك المنتهى.
  3. الراسخون في العلم أعرف الناس بالله

    كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] وصدق رَحِمَهُ اللَّهُ، فإن هذا يتضمن أن العبد لا حول له ولا قوة، إن وقع به خير أو وقع به شر فهو مسلِّم في ذلك كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولاً أو طولاً أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليست تابعة لمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا
    .
    ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحده، ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضاً، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب، فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك).
  4. السعادة في معرفة الله وعبوديته

    يذكر المُصنِّف هنا أن أصل معرفة العبودية أن تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ وَجَلَّ، فإن من لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة، كَانَ فيه من الشقاء والألم والنكد بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا نجد عصاة المؤمنين أحسن حالاً من الكفار، والكفار شر من ذلك.
    فكلما نقصت من قلب العبد المعرفة نقصت السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم إيماناً بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعاً ما أقلقتهم لحظةً واحدة.
    والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن له في ذلك الأجر مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعاً وجالباً للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
    وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر بنعم الله جميعاً من أجل بلية اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئاً قليلاً من نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان أن يستشعر أنه فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحقق العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
    .