قال المصنف: [وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا، فقد قال تعالى: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ))[البقرة:205]] ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر))[الزمر:7].
إذاً الفساد غير محبوب لله كما نص عَلَى ذلك صريح القرآن، أنه لا يحب الفساد ولا يرضاه، والفساد واقع في العالم، ولكن لا يقع شيء بغير مشيئة الله، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه يشاء الفساد ولكن لا يحبه، كما قال تعالى: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر))[الزمر:7] وكذلك الكفر واقع في العالم.
إذاً.. هو واقع بمشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن لا يرضاه الله تعالى، فاجتمع فيه أنه بمشيئته، ومع ذلك فهو لا يرضاه، إذاً هو شاءه وقدره كوناً، ولكن نهى عنه وحذَّر منه شرعاً.
ثُمَّ يقول: [وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: ((كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)) [الإسراء:38].
فيلاحظ هذه الحكمة العظيمة التي عجزت الأمم، وعجز حكماء العالم وعقلاؤه أن يأتوا بأحكم منها، وكيف يأتون بأحكم منها وكلها مبنية عَلَى قاعدة التوحيد، فأعظم ما نهى الله تَعَالَى عنه وجعله من الحكمة في هذه السورة وفي غيرها هو الشرك.
فمن وحّد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وترك الشرك فهذا عَلَى قاعدة الحكمة، فإذا أتبع ذلك بالإحسان إِلَى الوالدين وبترك الفساد، وترك قتل الأنفس، وترك الكبر، وترك أكل أموال اليتامى، وكل ما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحذَّر منه، فإنه من أهل الحكمة، والمتمسكين بها، وهو حكيم، وإن كَانَ أمياً عامياً، لا يفقه شيئاً مما يسميه الحكماء حكمةً أو فلسفةً أو علماً أو أخلاقاً، أو ما أشبه ذلك، ولهذا عقّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذا فقَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ)) أي: كل ما تقدم النهي عنه في هذه الآيات ((كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)) [الإسراء:38].
فالله عَزَّ وَجَلَّ نهى عنه وهو يكرهه وإن كَانَ الله يشاء وقوعه.
ثُمَّ يقول: [وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال}].
هذا الحديث في الصحيحين، فقوله: {إن الله كره لكم ثلاثاً} أي: ثلاث خصال كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والمؤمن إذا علم أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كره شيئاً فإن عليه أن يجتنبه، لأن هذا الأمر هو مما لم يشرعه الله بل نهى عنه وشرع ضده.
وقوله: {كره لكم ثلاثاً: قيل وقال}، ولكن واقع أكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم أنهم مشتغلون بالقيل والقال من حق أو باطل، ويفسر ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وهل يكب النَّاس في النَّار عَلَى مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم}، فهذا هو القيل والقال.
{وكثرة السؤال} إن كَانَ السؤال المراد به السؤال في الدين أو في العلم، فما أكثره، وإن كَانَ النهي عن كثرة السؤال في طلب الناس، في أمرٍ من أمور الدنيا، فهذا أيضاً واقع.
{وإضاعة المال} وهذا أيضاً واقع، فما أكثر المبذرين، وما أكثر المضيعين للأموال فيما لا ينفعهم، فعلى أي حال من الأحوال فهذه التي كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى واقعة بين الناس، ومع ذلك فالله تَعَالَى يكرهها، وقد شاءها وقدرها كوناً، ولكنه يكرهها ولا يرضاها شرعاً، ثُمَّ ذكر الحديث الذي رواه الإمام
أَحْمَد في
المسند، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
{إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته}.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع الرخص، وشرع ترك المعاصي، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب أن تؤتى رخصه ويكره أن تؤتى معاصيه، فالمحبة والكره هما بالمعنى الشرعي، أي: شرع لنا أن نأخذ بالرخصة وشرع لنا أن نترك المعاصي، ومعلوم أنه يكره المعاصي.