المادة    
وأما الحديث عن القدر فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدَّر وقضى كوناً: أن النَّاس عَلَى طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وقال تَعَالَى:((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير:29] فهنا يثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المشيئة للعبد، فلا شك أن العبد ما دام أنه حي فهو بطبيعته فاعل متحرك، وهو عامل لأنه حارث وهمام.
فبطبيعته يعمل ويتحرك، وهذه الحركة لا تكون إلا عن اختيار ومشيئة، إذاً فمشيئة العبد لا شك فيها، وأنها ليست موضع نقاش ولا جدال، أما قول: الجبرية فهو أمر خارج عن العقل والفطرة والشرع، وليس لهم شبهة في الحقيقة.
أما نفي القدر فله شبهة التبست ووقع فيها بعض النَّاس، ولقد رد القُرْآن والأحاديث الصحيحة وأهل العلم عَلَى هذه الشبهة، فالله يقول: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) فلستم مستقلين بأعمالكم ولا بإرادتكم، وإنما هي وفق مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء كَانَ وما لم يشأ لم يكن، كما قال الشاعر:-
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ            وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
  1. مشيئة العبد تابعة لمشيئة الخالق

    المشيئة المطلقة هي لله عَزَّ وَجَلَّ والعبد له مشيئة، لكن قد يشاء العبد أمراً فلا يكون إلا ما شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا فـالقدرية الذين يجعلون العبد مستقلاً بمشيئته، وقد وقع لهم عدد من النماذج، وقد روى اللالكائي -رَحِمَهُ اللَّهُ- من ذلك قصتين منها:
    أن رجلاً من القدرية كان جالساً مع بعض أهل السنة وكان في يده بيضة فقَالَ: يقولون: إن الإِنسَان لا يفعل ما يشاء فها أنا أشاء أن آكل هذه البيضة من الذي يمنعني فوضعها في فمه، وكان موجوداً عنده بعض من أهل السنة فلما وضعها في فمه طرحوه عَلَى الأرض واستخرجوها من فمه وألقوها، وقالوا له: أين مشيئتك؟
    فالإِنسَان قد يشاء الأمر ويهيئ كل أسبابه وفي آخر لحظة تذهب تلك المشيئة وتلك الأسباب؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يشأ؛ ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى كما في سورة الإِنسَان: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإِنسَان:30] وهذه مثل التي قبلها، فبعد أن بين في أول السورة: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] لئلا يقَالَ: أنا اخترت طريق الخير بنفسي، مستقلاً عن إرادة ربي ومشيئته، أو اخترت طريق الشر، مستقلاً عن مشيئة الله وإرادته، لذا قال في آخر السورة ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) ففي أول الآية إثبات لمسئولية الإِنسَان وحريته في الاختيار، وآخرها فيه إثبات لمشيئة الله الشاملة العامة المطلقة التي لا يحدها ولا يقيدها شيء
    ، وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام:39] هنا أيضاً هذه الآية والتي بعدها: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125].
    هاتان الآيتان تدلان عَلَى أن الهداية والإضلال من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء عَزَّ وَجَلَّ لكننا نجد في سورة النحل قوله تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36] وقوله: ((فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)) [الأعراف:30].
    فالضلالة منسوبة إِلَى الإِنسَان، وحقت عليه، فلم يقل: فمنهم من هدى ومنهم من أضل، ولا تعارض بين الآيات. بل في ذلك حكمة، لاسيما وأن آية النحل قد جاءت بعد أن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى احتجاج الْمُشْرِكِينَ بالقدر عَلَى نفي الشرع، لأنهم يقولون: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35] يحتجون بمشيئة الله، كأنهم يقولون: إن الله هو الذي شاء أن نضل، فلن نهتدي.
    ولو كَانَ المقصود: أن الله شاء أن نضل، بمعنى أنه كتب الضلالة عَلَى من ضل، وهو أيضاً أمرنا وشرع لنا أن نهتدي؛ لأن مجرد إثبات أن الإضلال لا يقع إلا من الله، فليس في ذلك من بأس؛ لأن الله نسب ذلك إِلَى نفسه كما في هاتين الآيتين، لكنهم يريدون أن يجعلوا المشيئة بمعنى المحبة والرضى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّه)).
    إذاً: الهداية من الله ((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) فليس كما تزعمون أن الأمر جبر لا اختيار فيه ولا مشيئة لكم فالضلال جَاءَ استحقاقاً وعدلاً، والهداية جاءت توفيقاً وفضلاً من الله تعالى. كما قال تَعَالَى :((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] لكن مشيئة الضلال والإضلال لا تعني أنه عَزَّ وَجَلَّ يحبه ويرضاه أو أنه شرعه وأمر به
    .
    ولذلك عقب المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى ذلك بقوله: [ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضى فسوى بينهما الجبرية والقدرية أولاً ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه].
    وكلام المُصنِّف هنا غير دقيق، لأن الإرادة تأتي بمعنى المحبة كما قال تعالى: ((فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً))[الكهف:81] فـ"أراد" هنا: بمعنى أحبْ، فالإرادة تأتي بمعنى المحبة، والأصل أن نجعل المشيئة شيئاً، والمحبة والرضى شيئاً آخر مقابلاً لها، أما الإرادة فتأتي للمعنين.
  2. الإرادة الكونية تستلزم المشيئة والشرعية تستلزم الرضا والمحبة

    الإرادة الواردة في الكتاب والسنة لها إرادة كونية بمعنى المشيئة، وشرعية بمعنى الرضى والمحبة، فإذا أراد الله أن يُصلي العبد فمعنى ذلك أنه شرعه وأحبه ورضيه، فهذه إرادة شرعية، وإذاً أراد الله أن لا يصلي فمعناه أنه شاء أن لا يصلي، إذاً فالإرادة تأتي بمعنى المشيئة، وتأتي بمعني المحبة والرضى، ولهذا لا يحسن أن يبقى الكلام عَلَى إجماله، فيُقَالُ: منشأ الضلال من التسوية بين المشيئة، وبين المحبة والرضى، لأن الإرادة قد تكون شرعية وقد تكون كونية.
    فالإرادة الشرعية مثل قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]، والإرادة الكونية تكون بمعنى المشيئة مثل: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ))[الأنعام:125] وقد سبق شرح هذا الكلام عند قول الإمام الطّّحاويّ: [ولا يكون إلا ما يريد].