المادة    
قال المصنف:
[وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))[السجدة:13] وقال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))[الإِنسَان:30] وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الأنعام:39] وقال تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125].
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة، والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثُمَّ اختلفوا:
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه، وقدره فيكون محبوباً مرضياً.
وقالت القدرية النفاه: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضيةله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] إهـ.

الشرح:
شرع المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة بعد أن ذكر مذهب القدرية وأتى بالوقائع الدالة عَلَى تهافت مذهبهم وتناقضهم حينما أخرجوا المعاصي والكفر وما يكرهه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن إرادة الله ومشيئته، وأن في ذلك تنزيهاً له -فيما زعموا- عن نسبة الشر إليه، أو أنه يريد المعاصي ثُمَّ يعاقب عليها فيكون ذلك ظلماً بزعمهم، والأدلة من الكتاب والسنة تدل عَلَى ما أشار إليه من مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو كما قَالَ: والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله خلق العباد وخلق أفعالهم.
  1. الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات المشيئة

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [أما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [السجدة:13] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))[الإنسان:30] هاتان الآيتان الأولى منهما في سورة السجدة والأخرى في سورة الإنسان، وقد كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما في فجر يوم الجمعة. ولقد قسم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأمم عَلَى قسمين:
    القسم الأول: أمم لا كتاب لها وهم المجوس والهندوس والبوذيون وكثير من أمم الشرك، فهذه الأمم لم تعرف يوم الجمعة العيد الأسبوعي، بل لا تعرف الأسابيع لأنها ليس لها أسبوع يبدأ ثُمَّ ينتهي، إنما تعلمت ذلك من الأمم الكتابية، فالمُشْرِكُونَ المنقطعون عن الاتصال بالأمم الكتابية -اليهود والنَّصَارَى والمسلمون- لا يعرفون ذلك.
    والقسم الثاني: الأمم الكتابية التي لديها أسبوع ضلت في معرفة هذا اليوم، فوقع اليهود على يوم السبت، والنَّصَارَى عَلَى يوم الأحد، وفضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذه الأمة بأن وقعت عَلَى اليوم الذي هو حقاً أفضل أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة
    . وهو مقدم عَلَى السبت والأحد فأصبحت الأمم تالية لهذه الأمة المباركة المصطفاة
    .
  2. وقفات مع سورتي السجدة والإنسان

    في هذا اليوم -يوم الجمعة- يُسنُّ أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر سورتي السجدة والإِنسَان ، ولو تأملنا ما في هاتين السورتين لوجدنا أنهما تشتملان عَلَى بداية خلق الكون، وبداية خلق الإِنسَان، وتشتملان عَلَى أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وتشتملان عَلَى القدر، وعَلَى إثبات مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه من أهم أصول العقيدة الإسلامية.
    فكأن العبد المسلم في كل أسبوع يأخذ من كلام ربه عَزَّ وَجَلَّ هذه الدروس والعبر في عقيدته، فيعلم أول ما يسمع سورة السجدة أن هذا القُرْآن حق غير مفترى كما يزعم الزاعمون، ويدعون ويتبجحون، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الكون وهو خالق كل شيء، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- استوى عَلَى العرش، وخلق كل شيء وأحسن خلقه، ثُمَّ يأتي بعد ذلك خلق الإِنسَان، ثُمَّ نهايته وإثبات البعث.
    والحديث عن المشيئة في هذه الآية: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) [السجدة:13] أما في سورة الإِنسَان فيبتدأ يقول: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإِنسَان:1] وهنالك في السجدة: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ))[السجدة:7] ففترة كونه طيناً هي التي لم يكن فيها شيئاً مذكورا، حتى سواه ونفخ فيه من روحه بعد أربعين سنة.
    ويقول في سورة الإِنسَان:((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] ويقول في سورة السجدة: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الإِنسَان وجعله مكلفاً مختاراً، فإن شاء اختار طريق الحق وإن شاء اختار طريق الضلال.
    ولكن اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن يكون في النَّاس أهل حق واستقامة وهدى، وأهل باطل وغواية وضلالة كما قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [هود:118-119] وهذا أمر فوق السؤال، فلا يقال: لماذا؟ فكلمة الله تمت بذلك، وقضى به ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) أي: ولو شئنا لوفقناها وآمنت واستقامت عَلَى الحق، أما قوله:((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)).
    فالمقصود هنا: هداية الدلالة والإرشاد، أي: دللناه وأرشدناه وبينا له معالم الطريق، وعليه أن يختار بعد ذلك ((إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) وهذا راجع إِلَى إرادته، أما الذين أعطاهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هداية التوفيق فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) أي: الأمر كله راجع إِلَى مشيئتنا، فلو شئنا لكان النَّاس أمة واحدة عَلَى الهدى والحق، ولكن حق القول مني، ((وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً))[الأنعام:115].
    فهذه الكلمات هي الكلمات الكونية، وليست الكلمات الشرعية، فالقرآن كلام الله عز وجل هو كلماته الدينية الشرعية، أما كلماته الكونية فهي أوامره التي خلق بها الأشياء
    .
    ويقول الله تَعَالَى في سورة يونس :((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99] فمن كفر فإنما كفر بمشيئة الله، ومن آمن فإنما آمن بمشيئة الله هذا وجه الدلالة، ولا إشكال فيه، وقوله تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) وموضع الآية هنا واضح إذا فهمنا مدلول الآية كلها.