والمصنف رحمه الله تعالى يريد أن يثبت لنا في هذا الحديث مرتبة العلم والكتابة، ولهذا ذكر ذلك فقَالَ:
{إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...} إِلَى أن قال:
{ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله..}.
فالمقصود إذاً هو الكتابة، وهي كتابة فردية لنفس الفرد، والكتابة الكونية: هي أول ما خلق الله القلم فَقَالَ له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء وعرشه عَلَى الماء، فالكتابة الكونية كتابة تتعلق بالكون كله، وأما الكتابة في هذا الحديث فهي الفردية، والكتابة الكونية تتضمن الفردية لا العكس، ففي ذلك اللوح كتب شأن كل إنسان.
ولهذا قال من قال من السلف في قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون))[الجاثـية:29] قَالَ: [وهل يكون النسخ إلا من أصل] أي: الملائكة تطابق عَلَى ما في اللوح المحفوظ، فتستنسخ ذلك، وما تنسخه من اللوح المحفوظ هو ما يفعله العباد تماماً، وما محي من ذلك فليس في الأصل، وهو أم الكتاب ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39].
فالكتابة الكونية هي الكتابة التي كتبها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أول ما خلق القلم، ولم يكن حينئذ من المخلوقات المعروفة لنا إلا العرش والماء -كما سيأتي- ثُمَّ خلق القلم قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأمره أن يكتب كل ما هو كائن هذا نوع من الكتابة.
والنوع الثاني: الكتابة النوعية: أي التي تشمل النوع الإِنسَاني كله، وهي ما أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الميثاق لما استخرجهم من ظهر آدم، وكتب أن هَؤُلاءِ في الجنة وهَؤُلاءِ في النَّار، ثُمَّ الكتابة الفردية التي تتعلق بكل فرد في ذاته، وذلك عندما يأتيه الملك لينفخ فيه الروح ويكتب ما يتعلق بهذا الفرد في ذاته، من رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
ثُمَّ الكتابة الحولية: وهي ما يكون في ليلة القدر، أي: التقدير الحولي الذي يقدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في ليلة القدر من هذه الليلة إِلَى مثلها من العام القادم، ثُمَّ بعد ذلك التقدير اليومي وهو: الإيجاد والخلق والتدبير، يدبر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذا الكون، ويخلق ويوجد فيه ما قدره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29]، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك}.
النطفة: تطلق في لغة العرب عَلَى القليل من الماء، والمقصود بذلك هو الماء الذي يخلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليقذف في الأرحام، ثُمَّ يكون علقة، والعلقة: هي الدم المتختر المتجمع، وهذه العلقة هي الحيوان المعروف في المياه، والمضغة هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإِنسَان.
والمقصود أن هذه الثلاث المراحل معروفة وجاءت في الكتاب الحكيم، ثُمَّ جاءت في هذا الحديث تصديقاً لذلك {
ثُمَّ يرسل إليه الملك} ثُمَّ هذه الأخيرة متى؟ بعد الثلاث المراحل أو بعد مرحلة منها.