المادة    
  1. جف القلم بما هو كائن

    قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:-
    [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [تقدم حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: {اعملوا فكل ميسر لما خُلق له}.
    وعن زهير عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: {جَاءَ سراقة بن مالك بن جعشم فقَالَ: يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قَالَ: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قَالَ: ففيم العمل؟ قال زهير: ثُمَّ تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقَالَ: اعملوا فكل ميسر} رواه مسلم.
    وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدوا للناس، وهو من أهل الجنة} خرجاه في الصحيحين.
    وزاد البُخَارِيّ {وإنما الأعمال بالخواتيم}.
    وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حدثنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الصادق المصدوق- {إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}.
    والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف قال أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد قد أكثر النَّاس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] اهـ.

    الشرح :
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [تقدم حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له}] وهذا الحديث قد تقدم شرحه.
    ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: {جَاءَ سراقة بن مالك بن جعشم فَقَالَ يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟}
    هذا الصحابي الجليل سراقة بن مالك بن جعشم يسأل عن هذا الموضوع المهم، موضوع القدر، الذي يرد كثيراً على أذهان جميع البشر مؤمنهم وكافرهم، لماذا جئنا؟
    ولماذا نعمل الشر؟
    ولماذا نعمل الخير؟
    وهل ما نعمله مكتوب أم مستأنف جديد؟
    وأمثال ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تتعلق بموضوع القضاء والقدر.
    فرأى الصحابي الجليل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن يسأل عن ذلك أعلم الخلق بالله وبأوامره وأقداره وهو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي علَّم الإِنسَانية جميعا طريق الهدى والخير، فسأله سؤال المستفهم المُلِح يا رَسُول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن؟ وكأننا لا نفهم من قبل شيئاً، فكأنه يريد أن يقول: افترض أنه لا علم لنا بإطلاق، وأنك ستعلمنا هذه الحقيقة لنفهمها ونؤمن بها ونعتقدها منذ هذه اللحظة.
    فكان السؤال: فيم العمل اليوم؟
    ثُمَّ فسر "ما " هذه بأحد احتمالين:
    قَالَ: {أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟}
    أي: هذا العمل الذي نعمله يومياً من الطاعات أو المعاصي، من الخير أو الشر، أهو فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أي: أمر كتب وقضي، وفرغ منه، أم هو فيما نستقبل؟
    أي: نعمله دون أن يكون قد كتب وجرت به المقادير، وجفت به الأقلام
    .
    فنحن نعمل أعمالاً بإرادتنا واختيارنا نعرف الخير منها ونعرف الشر، ففي أي الحالتين هذه الأعمال يا رَسُول الله؟ أهي فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ إذ نَحْنُ نفكر ونهم ثُمَّ نعزم ثُمَّ نختار ثُمَّ نفعل الأمر فحينئذ يكون أمراً جديداً حدثاً لم يكن قد قضي وقدّر من قبل.
    فأجاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: {لا؛ بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير} وهذا إثبات لمرتبتي العلم والكتابة، وإن قلنا: مرتبة الكتابة فصحيح، لأن مرتبة الكتابة تتضمن العلم
    .
    {قَالَ: ففيم العمل؟}
    وقد ورد هذا السؤال من قبل في حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المخّرج في الصحيحين لما كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بقيع الغرقد عند دفن تلك الجنازة فقيل له: {يا رَسُول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟}
    وهنا في هذا الحديث يقول سراقة: {يا رَسُول الله -مادام أن الأمر قد قضي وقدر، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير- ففيمّ العمل؟ قال زهير: ثُمَّ تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقَالَ: اعملوا فكل ميسر}.
    أي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعاد لـسراقة نفس القول الذي ذكره في حديث عَلِيّ وهو في حديث عَلِيّ أطول، إذ فيه يقول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات من سورة الليل وهي: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى))[الليل:5-7]}.
    أي: هذا الذي هو من أهل السعادة ميسر لعمل أهل السعادة، وهو أن يعطي ويتقي ويصدق، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى -وهذه صفات أهل الشقاوة- فميسر له عمل أهل الشقاوة
    .
    فهذا الحديث هو تأكيد وتحقيق لما سبق في حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلا مجال إذاً أن يقال: فيم العمل؟
    أو أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
    لأن الإِنسَان لا يخلو عن العمل فهو عامل إما أن يعمل بالطاعة أو يعمل بضدها فلا بد من العمل، والحل هو كما قال الصحابة رضى الله تَعَالَى عنهم في الرواية الأخرى {قالوا: إذاً نجتهد} فما دام الأمر متروكاً لنا {اعملوا فكل ميسر لما خلق له}.
    فالواجب علينا أن نجتهد، وأن نعمل الطاعات، ونجتهد في اجتناب المحرمات، وبذلك نكون قد سلكنا طريق أهل السعادة وابتعدنا عن طريق أهل الشقاوة، فهذا من فضل الله ومن حكمته ورحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعل الأمر بيد المخلوقين ولذلك يجازيهم عليه، لأنه جعل المسؤولية عليهم، فهم يسألون عن أمر قد علموا أنهم مسئولون عنه
    .
    ثُمَّ يؤكد ويؤيد رحمه الله تعالى هذين الحديثين بحديث ثالث وهو حديث سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة} هذا الحديث المتفق عليه وزاد البُخَارِيّ جملة مهمة وهي {وإنما الأعمال بالخواتيم}.
    والغرض من إيراد هذا الجزء هو إثبات الكتابة وإثبات العلم، ونأخذ ذلك من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس} هذا في العلم البشري {وهو من أهل النَّار} في علم الله وفي كتاب الله أنه مكتوب من أهل النار، وعكسه الرجل يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس في العلم البشري، لكنه في علم الله من أهل الجنة، فمكتوب عند الله في ديوان أهل الجنة.
    وسبب الحديث هو الرجل الذي كَانَ في جيش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل مع الصحابة الكرام، وكان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فَقَالَ الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم: {ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان} فيما يظهر لهم لأنه يبلي بلاءً شديدا ويقاتل، ويميل على الْمُشْرِكِينَ يمنة ويسرة يضربهم بالسيف حتى قال الراوي: {لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه}.
    فكان الصحابة الكرام يثنون عليه -هذا العلم البشري الظاهر- يثنون على بلائه وجهاده وشجاعته، وإذا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {أما إنه من أهل النَّار} فَكُبر ذلك على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشق عليهم حتى قال بعضهم: (كدت أن أفتتن) فالأمر إذاً خطير، كيف نرى إنساناً يعمل هذه الأعمال من الطاعات والقربات والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم وأمثال ذلك، ويكون من أهل النار؟ هذا شيء عجيب!
    ولو أن النَّاس اطلعوا على الغيب لربما ذهلوا من كثرة ما يقع من هذه الحالات، ولو أن الله عَزَّ وَجَلَّ يطلعنا على الغيب لوجدت أن فلاناً الذي تحبه وتثق فيه وتظن فيه الدين والخير والإيمان من أهل النار، وفلاناً الشرير الذي لا تطمع فيه بخير ولا تنظر إليه بعين من أهل الجنة، فتستغرب ذلك، وربما ضلت وزاغت عقول، ولربما فتنت قلوب، والمخرج من هذا وحتى لا يزعزع القلوب ولا يزلزلها أبداً هو عندما يؤمن الإِنسَان حقيقة بأن علمه قاصر، وأن نظرته محدودة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن الأمر ليس منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظلماً، أي: لا يجوز لنا أن نسيئ الظن بربنا، فنرى إنساناً عابداً تقياً زاهداً ثُمَّ يختم له بخاتمة سوء فنقول: ما دام أن هذا الرجل ختم له بالسوء فمن يأمن ربه تَعَالَى الله عن ذلك، لا نأمن أن يدخل الأولياء الصالحين العبُّاد النَّار، أو أن يدخل الفجار الأشرار الجنة.
    إذاً: المسألة مجرد احتمال، فيرجع الأمر إِلَى محض المشيئة، وهذا خطأ عظيم وقع فيه كثير من أرباب السلوك، المربون الذين يسمون بأهل السلوك من المتصوفة وغيرهم، الذين ظنوا أن الأمر راجع إِلَى محض المشيئة، فشاء لهذا فأدخله النار، وإن عمل ما عمل من الطاعات، وشاء لهذا فأدخله الجنة وإن عمل ما عمل من المعاصي لأن الأمر مشيئة فقط، والحق أن الأمر ليس متعلقاً بالمشيئة وحدها بل متعلق بغيرها، نعم المشيئة متعلقة بكل شيء، فلا يقع من شيء في الكون طاعة كَانَ أو معصية إلا بالمشيئة، هذا أمر مفروغ منه، لكن زيادة على المشيئة هنالك عدل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحكمته وأنه تَعَالَى لا يظلم أحداً أبداً.
    وهنالك وجوب إحسان الظن بالله كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} فكيف يسيء العبد ظنه بربه إِلَى هذا الحد، ويجعل الأمر أمر مشيئة.
    إذاً فلماذا شرع الدين، وأنزلت الكتب؟
    ولماذا أرسل الرسل إذا كَانَ الأمر محض مشيئة؟
    لا يمكن ذلك أبداً.
    فلما أثر الحديث على الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم ولما شق عليهم الأمر وحال هذا الرجل: {قال أحدهم: أنا صاحبه} قَالَ: أنا سأتتبعه لأرى كيف يعمل بعمل أهل الجنة وهو من أهل النَّار قَالَ: {فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت}.
    أصابه جرح شديد بالغ فلم يتحمل الألم فاستعجل الموت {فوضع نصل سيفه من الأرض وذبابه بين ثدييه ثُمَّ تحامل عليه -واتكأ بنفسه على السيف- فقتل نفسه}.
    فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النَّار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة} فأيقن الصحابة الكرام رضى الله تَعَالَى عنهم لما رأوا واطلعوا على ذلك الحدث، والذين لم يروا الرجل من الصحابة عندما وقعت له هذه النهاية السيئة والخاتمة السيئة -نعوذوا بالله من سوء الخاتمة- وإنما رأوا أفعاله الحسنة وجهاده، ثُمَّ سمعوا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وقوله: {أما إنه من أهل النَّار}.
    فالواجب عليهم التسليم، ومع ذلك يجب عليهم حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى لا يخطر على العقول أنني قد أعمل الطاعات وأجتهد فيها، ثُمَّ لا أدري إلا وقد قُذف بي إِلَى النار، ليس الأمر كذلك، هذا الرجل عمل الطاعة فيما يبدو للناس، لكن لما كَانَ قلبه منطوياً على غير ذلك، ظهر أثر ذلك عندما عجّل نفسه إِلَى ربه.
    فالمجاهد المخلص يصبر على القتال، ويصبر على الجرح والألم، بل الإِنسَان حتى في غير الجهاد لا يجوز له أن يقتل نفسه، بل يجب أن يصبر على أي بلاء يبتلى به، فلما أن فعل الرجل ذلك انكشفت الحقيقة التي لم نكن نعلمها لولا أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بها من قبل، ثُمَّ شوهدت بالعين، وهي: أن عمل ذلك الرجل إنما كَانَ عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، في ظاهر علمنا البشري فقط، وإلا فخاتمته خاتمة سوء، ونهايته نهاية سوء، نسأل الله العفو والعافية.
  2. من الخطأ الاقتصار على جانب الترهيب في الموعظة

    قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{إنما الأعمال بالخواتيم} ولا بد أن نفهم هذه الحقيقة التي ضل فيها كثير من النَّاس، فقد كَانَ من المشهورين بالوعظ والتذكير والتربية عَلَى هذا الأمر الحارث المحاسبي واشتهر بذلك لأنه كَانَ يُعلِّم مريديه وتلاميذه المحاسبة، فيأمرهم أن يحاسبوا أنفسهم، ويعلم النَّاس في المساجد دقائق الأمور فَيَقُولُ: حاسب نفسك عَلَى المعصية فلا تقع في معصية، وإذا اجتهد الإِنسَان وأخلص وعمل الطاعة عَلَى الوجه الصحيح، وهو مخلص وصادق، أيضاً جاءوا إليه وأخذوا يكلمونه ويقولون: لا تدري ما نهايتك عند الله ربما تكون من أهل النار، وعمقوا هذا الكلام وربوا النَّاس عليه وأكثروا منه كانت النتيجة: أن قنط الأتباع، ولم يثقوا في عدل الله ولا في حكمته.
    وأهُمِلَ الجانبُ الآخر جانب الرجاء والترغيب فيما عند الله، والتذكير بسعة رحمة الله، وأنها سبقت غضبه، وأن أمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متردد بين الفضل وبين العدل، ولا يخرج عن العدل بأي حال من الأحوال إلى الظلم، تُرك هذا الجانب بقصد أن يتزكى الناس، وأن يخلصوا أعمالهم، فلما سلك أُولَئِكَ الشيوخ هذا المسلك المخالف لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهدي القُرْآن الذى نراه بين أيدينا يأتي بأهل الجنة وبأوصافهم وأحوالهم، ثُمَّ يعرض لأهل النَّار وأوصافهم وأحوالهم، وإذا جاءت آيات في الترهيب جاءت آيات في الترغيب، فهذه هي التربية السليمة القويمة، لكن مجرد التركيز عَلَى جانب الترهيب فقط، فقد يؤدي إِلَى أن يقنط بعضهم وييأس.
    ولو أن التخويف كان عند أهل المعاصي، لكان أقرب، مع أنه حتى أهل المعاصي لا ينبغي ولا يصح أن نأخذهم بمجرد التخويف، أرأيتم لو أن أناساً ممن يشربون الخمر ويزنون ويفعلون، من المحرمات ما يفعلون وكان الواعظ يعظهم دائماً بالتخويف.
    فإنه سينتج عندهم -أو عند بعضهم- هذه الحالة، وهو أن ييأس فيقول له الشيطان: أنت إذاً من أهل النَّار فاستمر عَلَى عمل أهل النار، فيستمر ولا يتوب، لكن لو اقترن بعد الترهيب وبعد الوعظ الشديد والزجر والردع عن هذه المعاصي القول بأن الله غفور رحيم، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه تَعَالَى يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبدل السيئات حسنات لمن تاب، وأنه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ويقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها.
    فأنت في هذه الحالة بعد أن خوفتهم تماماً، أصبحوا يريدون أن يبحثوا عن المخرج، وأنت قد أعطيتهم المخرج، وهذا هو المخرج في أن يتوبوا إِلَى الله ويعودوا إليه ولن يردهم أبداً، بل يكفر عنهم ما أسلفوا من الخطايا ويقبلهم ويظهرهم منها، ويبدل تلك الخطايا والموبقات حسنات عظيمة، وهذا الترغيب مما يجعل التائب يقبل عَلَى الطاعة ويقلع عن المعصية، فهذا هو هدي القُرْآن وعليه ربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ كبار الصحابة المتمسكين الأوابين المخبتين، بالحساب عَلَى الدقائق، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعامل المذنبين والمخطئين والمقصرين المقبلين إليه بالرحمة، وبالقبول وبالسعة، ليؤوي أولئك، ويحتضنهم هَؤُلاءِ.
    أما أُولَئِكَ المقربون فليزدادوا رفعة، وليزدادوا في درجة الإحسان، فهذه التربية الحكيمة لا بد منها، أما ما يفهمه كثير من الناس، وكثير من الوعاظ من أمثال هذه الأحاديث أنها لمجرد التئييس والتقنيط الذي يصل بالنَّاس إِلَى أن يسيئوا ظنهم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ عَزَّ وَجَلَّ فهذا غير صحيح، وإن كَانَ لابد أن نتعظ ونعظ النَّاس بها لكن عَلَى الفهم الصحيح
    وقد وقع أهل الكلام في مثل هذا الفهم الخاطئ.
    فهذا مذهب الأشعرية القائلين بأن الأمر يرجع إِلَى المشيئة المحضة، فإن شاء جعل إبليس وجنوده في الجنة، وجعل أعظم الأولياء -ولا يقولون: محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تورعوا عن الكلمة، وإلا فهذا مرادهم- وجعل أعظم الأولياء والصالحين في النار
    .
    وهذا ليس مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الإيمان بالقدر، وإنما نؤمن بالقدر عَلَى أساس الإيمان معه بحكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإيمان معه بعدل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}. فهو الغني سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يظلمهم، وهو الغني عن طاعتهم، كما أنه لا تضره معصيتهم، إذاً فالأعمال بالخواتيم.
  3. العبرة المأخوذة من حديث الصادق المصدوق

    والحديث الآخر حديث الصادق المصدوق الذي نفهم منه العبرة التي أشرنا إليها فيما مضى وهي تتكون من أمرين :
    الأمر الأول: هو اتهام النفس، فلا يتهم ربه، وإنما يتهم الإِنسَان نفسه بالتقصير، ويعاملها بالاتهام ليدفع عنها الغرور والعجب، دون أن يخرجه ذلك إِلَى حد سوء الظن بالله، أو اليأس من رحمته؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا ييأس الإِنسَان من روح الله ولا يقنط من رحمته، لكن ليجتهد في الطاعات، ومع ذلك يتهم نفسه وعمله ولا يدري أَقُبِلَ عمله أم لم يُقبل؟ مع ثقته في أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يضيع عمل عامل من المؤمنين أبداً
    .
    الأمر الثاني: عدم القطع لمعين بجنة أو نار؛ لأننا لا ندري، فقد نرى الإِنسَان يعمل عمل أهل الجنة فيما يظهر لنا، أو نراه يعمل بعمل أهل النَّار فيما يظهر لنا، والحال أنه يكون بخلاف ذلك عند الله، وهل يعني هذا أن نشك في أهل الخير والصلاح ولا نثق بهم؛ لأنه يمكن أن يكونوا من أهل النار، وأن نتودد أو نحسن الظن بالمجرمين، لأنهم يمكن أن يكونوا من أهل الجنة كما يفهم بعض النَّاس وكما فهم ذلك المتكلمون والأشعرية وغيرهم.
    بل المقصود أنك إذا رأيت عبداً في طاعة وتقوى وإخلاص وعلم وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وكل أعمال الجنة التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسباباً توصل إِلَى رضاه وإلى جنته، فإنك تحبه وتواليه وترجو له الجنة ولا تقطع؛ لأنك لا تدري عن الحقيقة، فعدم علمك بالحقيقة لا يجعلك تيأس أو تسيء الظن به، بل يجعلك لا تجزم له فقط، وترجو له الثواب.
    .
    فإذا مات نرجو أن يكون من أهل الجنة فنقول: ما علمناه إلا صالحاً، وما علمنا عليه إلا الخير، هكذا نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي عَلَى الله أحداً، كما علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الآخر صاحب الفجور والظلم والمعاصي والقبائح والموبقات، فإنك تخاف عليه من النار؛ لأنه يعمل بعمل أهل النَّار هذا الذي يظهر لك، وتخاف عليه منها، ولكن هل تجزم له بذلك، لا؛ لأنك لا تدري، ربما يكون له حسنة لا تعلمها، وإلا فإن شهادة المؤمنين معتبرة، كما في الحديث الصحيح {أنه مر عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنازة فسأل الصحابة فأثنوا خيراً، فقال: وجبت، ثُمَّ مُر عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنازة أخرى فسألهم فأثنوا شراً، فقال: وجبت، ثُمَّ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم شهداء الله في الأرض}والصحابة الكرام لم يقولوا: هذا من أهل النَّار يا رَسُول الله! ولا قالوا: هذا من أهل الجنة يا رَسُول الله، وإنما أثنوا عَلَى صاحب الخير خيراً، وذكروا صاحب الشر أيضاً بالشر.
    إذاً: إذا رأيت إنساناً مات ووجدت أهل الخير يثنون عليه خيراً، فإنك ترجو له الجنة وتزكيه، ولا تزكي عَلَى الله أحداً، ولكن ترجو له الخير والثواب؛ لأن هَؤُلاءِ هم شهداء الله في الأرض، لكنك لا تجزم؛ لأنك لا تعلم الغيب، وعكسه لو ذكر إنسان بالشر، وسمعت أهل الخير والإيمان والصلاح يذمونه، فإنك أيضاً تظن فيه الشر والسوء، وتخاف عليه من العذاب، تتوقع له ذلك لكن لا تجزم؛ لأنك حينئذ تقع في الخطأ والخلل، ويجب أن نوفق بين كون المؤمنين شهداء الله في الأرض، وبناءً عَلَى شهادتهم تجري الأحكام الظاهرة، أما علم الغيب الأحكام الباطنة فهي عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين إيماننا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عدل، بأنه حكم قسط، وأنه حكيم، وبين إيماننا أيضاً بأن مشيئته تنفذ، وأن من كتبت له الشقاوة فهو من أهلها، وأيضاً من كتبت له السعادة فهو من أهلها، هذا الذي يجب وينبغي لعباد الله حيال ذلك
    .