المادة كاملة    
يتحدث هذا الدرس عن مسألة الرؤية وعلاقتها بالعلو، وعن المذاهب المختلفة في هذه المسألة، مع الرد على الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، كما يرد على القائلين بالمكاشفة، والذين يخوضون في مثل هذه المسائل من غير دليل ولا برهان، سوى العقول الناقصة المتشبعة بالبدع والترهات، وختم بفصل النزاع في مسألة رؤية الله في المحشر، مع نقل كلام شيخ الإسلام في ذلك.
  1. إثبات علو الله تبارك وتعالى

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة.
    وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي؛ بل لعجز الرائي، فإذا كَانَ في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته.
    ولهذا لما تجلى الله للجبل ((وَخَرَّ مُوسَى صعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(( [الأعراف:143] بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كَانَ البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا قال تَعَالَى:((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)) [الأنعام:8].
    قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكاً لجعلناه في صورة بشر وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
    وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم عَلَى أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في وجهه.
    ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أراد بها أمراً وجودياً كَانَ التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل عَلَى إثباتها بل هي باطله، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.
    وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده؛ بل نقلوا نظمة ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن، كما يتعلم الصبيان؛ بل يتعلمونه بمعانية ومن لا يسلك سبيلهم، فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله، ولم يتلقَ ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة، فهو مأجور وإن أخطأ؛ لكن إن أصاب يُضَاعفُ أجره] إهـ.
    .
    الشرح:
    موضوع إثبات الرؤية له علاقة بنفس الأحاديث بموضوع إثبات علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنكم سترون ربكم كما ترون هذا} في الحديث المتفق عليه أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يستدرك أن هذا الحديث لا يقتضي أن يشبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقمر ولا بالشمس، وإنما التشبيه تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي.
    ثُمَّ قَالَ: وفي ذلك دليل عَلَى علو الله عَلَى خلقه لأن كلام النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلا الحالتين -عندما أشار إِلَى الشمس أو أشار إِلَى القمر في الليلة التي كَانَ فيها القمر أو لما قَالَ: {هل ترون الشمس أو ترون القمر ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب} كان يشير إِلَى شيء أعلى وهو هذا المخلوق - الشمس أو القمر - وهو في جهة العلو، فدل ذلك عَلَى علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خلقه.

    وإثبات علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أعظم ما تدل عليه النصوص والفطر والعقول حتى أن الأدلة عَلَى العلو من القُرْآن والسنة وكلام السلف لا تعد بالمئات فقط، بل قد تكون بالآلاف فالعلو ثابت بالأدلة، وبالنصوص وبالعقول وبالفطر، وأما الاستواء فهو الذي ثبت بالنص فالنَّاس قبل إرسال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى العرب في الجاهلية وغيرهم أصحاب الفطرة كل من يؤمن بالله بفطرته يعلم أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فوق المخلوقات ويثبت له العلو، لكن الاستواء لا يثبته له تَعَالَى إلا من قرأ وسمع الوحي ينزل عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما يعلم عن طريق الوحي، وكلاهما يدل عَلَى الآخر.
    1. مذاهب الناس في الرؤية والعلو .

      ولما ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ موضوع الرؤي والعلو ناسب أن يذكر الفرقتين اللتين لهما كلام فيه، وهاتان الفرقتان هما: المعتزلة والأشعرية.
      فـالمعتزلة: ينكرون الرؤية والعلو، والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو.
      فقال المعتزلة للأشعرية: مادام أنكم تنكرون العلو إذاً فلتنكروا الرؤية مثلنا.
      فـالأشعرية قالوا: لا، نَحْنُ نثبت الرؤية.
      فقال لهم المعتزلة: إذا أثبتم الرؤية فكيف يُرى أي شيء إلا في جهة، إذاً يلزمكم أن تثبتوا الجهة وأنتم لا تثبتون الجهة، حتى قالوا قولةً أصبحت شبيهة بالمثل،قالوا: (من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله) وهي التي نقلها المُصنِّف هنا فقَالَ: [من قَالَ: يُرى لا في جهة فليراجع عقله] ووجه ذلك أن الرائي -بغض النظر عن كون المرئي تثبت له الجهة أو لا تثبت- لا بد أنه ينظر من جهة ما، في مكان ما ينظر منه، ولا بد أن يكون المرئي في جهه ما مِنهُ، إما أمامه مباشرة، وإما فوقه، وإما عن يمينه، وإما عن شماله، المهم أنه لا بد أن هناك جهة، فالقول بأن الرؤية تقع وتكون بالعين حقيقة وبدون جهة هذا فيه مكابرة للعقل.
      وقال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: يلزمكم أيها الأشعرية وأنتم تثبتون الرؤية أن تثبتوا العلو، وقالت المعتزلة للأشعرية: يلزمكم وأنتم تنكرون العلو أن تنكروا الرؤية، فهذه ثلاثه مذاهب:أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يثبتون العلو ويثبتون الرؤية، وهذا هو الذي يتفق مع جميع النصوص، ومع العقل السليم والفطرة السليمة.
      والمعتزلة ينكرون العلو وينكرون الرؤية.
      والأشعرية يثبتون الرؤية ويقولون من غير جهة ولا مقابلة، فأصبحوا يتعاورهم الفريقان: أهل السنة يقولون: يلزمكم أن تثبتوا العلو مادمتم تثبتون الرؤية، وأما المعتزلة فقالوا لهم: ما دمتم مثلنا موافقون لنا في إنكار العلو فيلزمكم أن تنكروا الرؤية أيضاً، فينتهي حكاية كلام المعتزلة إِلَى عند قوله بغير جهة.
      يقول: [ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية] وقال كلمة [بالذات]؛ لأن الأشعرية يقولون: العلو بالقهر وبالغلبة وبالسلطان وبالتمكين((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه))[الأنعام: 18] يقولون: قاهر فوقهم مثل ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء)) [الملك:16] يعني سلطانه وقهره وقوته، فلا يثبتون علو الذات وإنما علو القهر والغلبة والملك والتمكين، فلهذا قَالَ: (الذات) لأن الرؤية محلها أو متعلقها الذات وهذا الكلام هو عن الذات وليس عن أي شيء أخر من متعلقات الذات فهو متعلق بالرؤية فَيَقُولُ: [ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات نفي الرؤية] أي يلزمه أن ينفي الرؤية، [وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية -بلا مقابلة- بغير جهة].
      والمصنف -رحمه الله تعالى- قال بعد ذلك: وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام -يعني المعتزلة ما ألزموا الأشعرية والماتريدية أيضاً وهم في ذلك تبع لهم- إلا لما وافقوهم عَلَى أنه تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، يعني لم يثبتوا له أية جهة من الجهات،
      ولكن يستدرك المُصنِّف فَيَقُولُ: [لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] يقول: مع هذا الإلزام القوي من المعتزلة للأشعرية إلا أن المعتزلة أبعد، فهم يثبتون ذاتاً عَلَى الحقيقة قائمة بنفسها، ومع ذلك ليست في جهة، ولا يمكن أن تُرى، وأما أُولَئِكَ فإنهم أنكروا الجهة وأثبتوا الرؤية فهم أخف منهم في هذا الجانب، وإن كَانَ من حيث العقل المجرد -بالنسبة للمعتزلة على الأقل ومن نحا نحوهم- يرون أن مذهب الأشعرية هو الذي أبعد عَلَى العقل، لكن المُصنِّف يرى أن الذي نفى الجهة ونفى الرؤية معاً أبعد في العقل من الذي أثبت أحدهما، وينتهي كلامه عن المعتزلة عند قوله: بلا مقابلة بغير جهة.
  2. عجز الأبصار عن رؤيته سبحانه في الدنيا

     المرفق    
    يذكر المُصنِّفُ أننا لم نر الله في الدنيا لعجز أبصارنا، يعني هذا من الأدلة العقلية والحجج والبراهين التي يقولها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أثبتوا الرؤية بالأدلة الشرعية وناقشوا أدلة المعتزلة فيها.
    ثُمَّ أخذوا أيضاً يكلمونهم بالعقل السليم الصريح، فيقولون: إنما لم نره في الدنيا لضعف أبصارنا، فإن قُوْىَ الإِنسَان وإدراكاته في الحياة الدنيا محدودة، فلا تستطيع أن ترى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وليس لأن الرؤية مستحيلة.
    وضرب لذلك مثالاً بهذا المخلوق الذي يبعث النور في الأرض وهو الشمس فإن الإِنسَان لا يستطيع أن ينظر إِلَى الشمس ويتأكد من حرها وحجمها؛ لأن شعاعها ونورها يُعشي عينه، فهو أقوى من أن يطيقه بصره وحاسته، وليس ذلك لأن الشمس ليس بالإمكان أن ترى لكن لضعف الحاسة، فإن قويت وتضاعفت فإنها تستطيع أن ترى الشمس عَلَى حقيقتها وجرمها كما تشاء.
    أما بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فنقول: إنه لا يرى في هذه الدار التي فيها هذا الضعف، وإنما يرى في الدار الآخرة حيث يكون الإِنسَان خلقاً آخر في قواه وفي إدراكاته، فذلك عالم آخر والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يمن عَلَى المؤمنين بأن يعطيهم القدرة عَلَى أن يروه جل شأنه كما يليق بجلاله وعظمته، فيطيقون ذلك يَوْمَ القِيَامَةِ مع أنهم لا يطيقون هذا في الدنيا، فيستدل المُصنِّفُ عَلَى ذلك بنفس الآية التي سبقت وهي آية الأعراف عندما طلب موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يرى ربه، فَيَقُولُ: ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قَالَ: ((سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:143] أي: يقول: وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا جمادٌ ولا يابس إلا تدهده، والجبل عَلَى عظمته لما حصل له التجلي، فإنه تدهده وتحول إِلَى حطام، وهذا لعجز الإِنسَان ولعجز حتى الجماد في هذه الحياة الدنيا عن تحمل تجلي الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    ثُمَّ يستدل عَلَى ذلك بشيء آخر فَيَقُولُ: ولهذا كَانَ البشر لا يطيقون أن يروا الملك عَلَى حقيقة الملائكة الذين هم من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن أجسامهم نورانية عظيمة، لا يستطيع الإِنسَان أن يتحملها وأن يراها في هذه الحياة الدنيا فكيف برؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا من أقدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رؤية الملك كما أقدر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقدره عَلَى أن يرى جبريل، وقد رآه مرتين عَلَى خلقته التي خلقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليها، له ستمائة جناح كل منها ملء الأفق، وهذا شيء لا يمكن للإنسان أن يتصوره ولا أن يستوعبه، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك -وهو من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (ما هَؤُلاءِ الذين يخوضون في الصفات؟! إن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن لجبريل ستمائة جناح، وإنما يعلم النَّاس أن للطائر جناحين فأين يكون الثالث) يعني: أن العقل البشري حينما يريد أن يتخيل طائراً فإنه يتخيله بجناحين هذا هو الذي يتخيله الإِنسَان، فأين يكون الثالث؟ فضلاً عَلَى الرابع، فضلاً عن الستمائة جناح، كيف تكون؟ هذا شيء لا يستطيع الإِنسَان أن يتخيله عَلَى حقيقته، فكيف ينكر فيما هو أعظم من جبريل ومن كل المخلوقات ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر: 67] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به العقول والأنظار.

    يقول المُصنِّفُ في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)) [الأنعام:8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته.
    إنَّ من العلل الواهية التي تعلل بها المكذبون للأنبياء أنهم قالوا: ((مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))[الشعراء:154]، ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) [إبراهيم:10] فكيف نؤمن بأنكم أنبياء من عند الله؟ نريد أن يكون النبي ملكاً من الملائكة، فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم في مواضع منها هذا الموضع في سورة الأنعام ((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)) [الأنعام:8] يُحتمل المعنى: أنه لو أنزلنا ملكاً لم يستطيعوا أن يروه فيموتوا، ويحتمل: أنه لو أنزلنا ملكاً أن يروه كَفَرُوا به لاستحقوا العقوبة العاجلة بخلاف ما إذا كَانَ المخاطب لهم من أنفسهم؛ لأن الملك هذا من عالم الغيب، فأصبح في عالم الشهادة، يكلمهم ويخاطبهم، فحينئذ لا ينفع التكذيب ولا الرد ولا الجدال ولا يقبل عَلَى الإطلاق، إما أن يؤمنوا ويذعنوا فوراً وإما إن يحيق بهم العذاب من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن عندما يأتي بشر مثلهم فيدعوهم إِلَى الله فَيَقُولُ: إنه يوحى إليّ من الله، إذا أمنوا بنبوته فإنهم يؤمنون فعلاً عَلَى الغيب لا عَلَى الشهادة، فإذاً لم تأتهم الآية وإذا أتت الآية ورأوها عياناً فما بعدها إلا العذاب كما رأى قوم صالح الناقة مبصرة، فماذا حصل لهم لما عقروها؟ أهلكوا.
    أصحاب المائدة توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه بعد أن ينزلها عليهم ((فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ))[المائدة:115] لأنهم يرون الغيب شهادة، فكذلك بالنسبة للأنبياء فمن رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنه أرسل الرسل من البشر ليكون هناك مجال للأخذ وللجدال وللنقاش، ولا يأتي العذاب المفاجئ، هذا أمر.
    والأمر الآخر وهو أظهر وأوضح في الحكمة أن النبي إذا كَانَ من الملائكة، وقال لهم: اتقوا الله لا تسرقوا ولا تزنوا ولا تخونوا الأمانة ولا تفعلوا كذا وكذا، ورأوه يلتزم بعمل ذلك لأنه بطبيعة الحال لابد أن النبي يلتزم ويعمل بما يدعو إليه، قالوا: هذا ملك ولكن نَحْنُ بشر مركب فينا الشهوة، والضعف، والذنب، إذاً لا تناسب.
    فمن حكمة الله ورحمته ولطفه أنه جعل الأَنْبِيَاء أيضاً من البشر، فليس هناك مجال للاعتذار، صحيح أنه لن يبلغ أحد من غير الأَنْبِيَاء مبلغ الأنبياء، ولكن مع ذلك تظل القدرة، وتظل إمكانية المتابعة والتأسي، ويبرز في الأمم التي بعث فيها الأَنْبِيَاء صديقون يقربون من درجة النبوة، كالأئمة العشرة المبشرين بالجنة ومن قاربهم من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمة، فهَؤُلاءِ أقرب النَّاس إِلَى مرتبة النبوة لأنهم كانوا في أخلاق وإحسان وتقوى الأَنْبِيَاء وتأسوا بخاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاربوهم في هذه الدرجة -درجة البشرية- فيكون الاقتداء وارداً وممكناً بخلاف ما إذا كَانَ هذا النبي من جنس آخر، ومن الحيوان المخلوق من لا يستطيع الإِنسَان رؤيته فضلاً عن الملك، أي أن الإِنسَان قدرته ونظرته محدودة وهذا لا يناسب موضوع الرؤية هنا، وقد قال ابن قتيبة -رَحِمَهُ اللهُ-: إن من الحيات نوع يموت الإِنسَان بمجرد أن يراه نوع مفزع مخيف وفي عينه شعاع خاص بمجرد أن يراه الإِنسَان يموت من عدم تحمل رؤية هذا الحيوان.
  3. " الجهة " والمقصود منها

     المرفق    
    يقول المصنف: [ويُقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- وهم المعتزلة: أتريدون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟]
    ما المقصود بالجهة؟
    إما أن تكون أمراً وجودياً أي: شيئاً موجوداً اسمه الجهة، أو حيزاً معيناً يُقال له الجهة من ضمن الموجود في هذا الكون، هذا شيء، وإما أن تكون الجهة أمراً عدمياً، يعني شيئاً مثلياً إضافياً، لا شيئاً موجوداً بذاته أو مميزاً بذاته.
    لا يخلو مرادهم بالجهة من هذين الاعتبارين، وعلى ذلك نقول لهم: إن كَانَ المقصود بالجهة الحيز والشيء الوجودي، فنحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا نثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجهة بهذا الاعتبار؛ لأننا في الأصل لا نقول كلمة "الجهة" كما سبق، وإنما نقول: العلو، فنثبت له العلو، لأن الكلمات التي فيها لبس والتي تُحتمل معنيين لا نثبتها ولا نذكرها إلا مبينين أو مفسرين لِمَا نريد أن نقول.

    فـ"الجهة" هنا ليس أمراً وجودياً، يعني ليس ظرفاً أو حيزاً معيناً، فالأرض جميعاً قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ والسماوات مطويات بيمينه، والكون كله في يده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالخردلة في يد أحدكم، إذاً ليس هناك شيء يسمى جهةً أو ظرفاً وجودياً بمعنى أنه يحويه ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس هذا مرادنا، فلا حجة علينا بقولكم لنا: إنكم تثبتون الجهة فيلزم منها كذا ويلزم منها كذا... إلخ لا حجة لكم علينا لأنا لا نثبت ذلك، ومع ذلك فإن كون الجهة أمراً وجودياً كما ذكر المُصنِّفُ هنا لا يعني النفي.
    لأنه يقول: تقدير دليلكم أن تقولوا: كل ما ليس في شيء موجود لا يُرى، يعني كأنهم يقولون: أي شيء ليس في شيءٍ موجودٍ لا يرى، فَيَقُولُ: هذا ليس بلازم، لا يلزم أنه لا يرى بمجرد أنه ليس في شيء موجود، ويستدل عَلَى ذلك بقوله: إن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر، يعني سطح العالم يمكن أن يرى، وهو ليس في شيء آخر بل هو ذاته نفسه يمكن أن يرى، فهذا إن قلنا: إن الجهة أمر وجودي.
    وأما إذا قلنا: إن الجهة أمر عدمي أو أمر اعتباري -وهذا هو الذي يقوله أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقولون: إن الجهة أمر اعتباري وليس أمراً وجودياً- فالنملة إذا كانت تسير في هذا السقف فأين العلو بالنسبة لها؟ وبيتها وحبها وحياتها وكل شيء فوق -كثير من الحشرات تعيش فوق- فالعلو بالنسبة لها نحن، لكن نَحْنُ العلو بالنسبة لنا فوق، بالعكس إذاً الجهة عندما نقول: "العلو" هل هي أمر وجودي حقيقي أم أمر نسبي باعتبار إضافي؟ فبالنسبة للنملة نَحْنُ أسفل، لكن بالنسبة لنا هذا هو الفوق ونشير إِلَى النملة، ولكن النملة فوق بالنسبة لِمَا هو أسفل، وهكذا هذه قضية نسبية اعتبارية، والذي يجلس عَلَى يمينك يقول: فلان عَلَى يميني، وآخر يقول: فلان عَلَى يساري؛ لماذا؟
    لأن الجهة ليست شيئاً موجوداً، ليس هناك شيء موجوداً اسمه الشمال، ولا شيء موجود محدود اسمه اليمين؟ ولا فوق ولا تحت؟ كلها أمور اعتبارية نسبية، فهذا يمين بالنسبة لهذا، وهذا يسار بالنسبة لهذا، وهذا فوق بالنسبة لهذا، وهذا تحت بالنسبة لهذا.
    وبهذا نعرف أنه لا يلزم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من إثبات أن الله تَعَالَى فوق المخلوقات وإثبات العلو له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون محصوراً أو محدوداً في حيز وجودي يُسمى الجهة، ولكن بالنسبة للمخلوقات هو أعلى منها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الجهة بذاتها فليست شيئاً وجودياً مادياً محسوساً خارجاً، ومن هنا فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى.

    وقولكم بأنه يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لا معنى له، مادام أن الجهة أمر نسبي اعتباري، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى، وتجوز رؤيته، هذا بالأدلة العقلية، ولقد أثبتنا ذلك بالأدلة الشرعية،ولكن نتكلم الآن بالأدلة العقلية وننقض أدلتهم العقلية، فالمخلوق الرائي لابد أنه في جهة، فباعتبار المخلوق الرائي الناظر لابد أن يرى شيئاًٍ في جهةٍ ما، ففي أي جهة يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ وهي الجهة التي يدعى في الدنيا فيها نقول: في جهة العلو، يعني: بالنسبة للإنسان، لا بالنسبة لكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحيط به شيء وجودي معين اسمه الجهة بمعنى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما يقولون- مثل المخلوقات التي تكون في حيز، تَعَالَى الله عن ذلك علو كبير.
    ونجد أن أهل العلم من أهل السنة كالمصنف هنا أو شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو غيرهما يضطرون إِلَى الإثبات بهذه الأدلة، وهذه الأمثلة العقلية، لنبين فساد أقوالهم بالعقل والنقل لا لأننا نحتاج إِلَى أن نقرر ونثبت صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه الطرق، ولكن لأننا نقول: نَحْنُ نثبت بطلانها في الجهتين العقلية والنقلية، ولنثبت أن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو الذي يستقيم مع الأدلة، ومع العقول السليمة، ومع الفطرة المستقيمة في آن واحد.
    1. أصل الضلال الانحراف في منهج التلقي

      ثُمَّ أخذ المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يعقب عَلَى هذا فَيَقُولُ: [وكيف تكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة].
      وأساس الخلاف والإشكال وأساس ظهور الفرق وخروجها عدم التلقي، والأخذ من الكتاب والسنة فبعضهم أخذ بالعقل مثل المعتزلة، والاشعرية، والماتريدية، وبعضهم قَالَ: نأخذ بالكشف والذوق والوجدان مثل الصوفية ومن نحى نحوهم.
      وبعضهم كـ الباطنية، والرافضة قالوا: لا من الكتاب ولا من السنة ولا من العقل ولا من الكشف، ولكن عن طريق الإمام المعصوم، وهذا الإمام المعصوم هو بالنسبة للرافضة الذي في السرداب، ومعه العلم الباطني، ويأخذون علمه عن طريق النواب والحجاب الذين جعلهم نواباً وحجاباً له، ولهذا فمنهج التلقي عندهم أنهم لا يأخذون من كتاب الله ولا من صحيح البُخَارِيّ ولا من صحيح مسلم وهم ينكرون الرؤية وينكرون هذه الصفات، ولكنهم يتلقون من الرقاع، وكيفية ذلك: أنهم ينامون وفي الصباح يذهبون إِلَى شجرة من الشجر ويجدون فيها رقاعاً، تقول: اعملوا أو اتركوا، ويقولون: إن الإمام المعصوم ألقى ذلك، أو أوحى به إِلَى بعض النواب ويكتبون هذه الرقاع ويلقوها، فتتلقى الأتباع منها العلم وينفذونه، ولهذا حصل أن أحد اليهود وكان يكتب لهم رقاعاً يقرءونها، فكتب مرة من المرات: استوصوا بفلان اليهودي خيراً ووضعه في رقعة في شجرة، فلما قرأها الرافضة في اليوم الثاني ملأوا بيت ذلك اليهودي من الذهب والفضة وفرحوا به لأنهم وجدوا رقعة من العلم من الإمام المعصوم المحجوب أنه قال :استوصوا بهذا اليهودي خيراً، هكذا يبلغ سخف العقول.
      إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطانا المصدر الكتاب والسنة الصحيحة أفنعدل عنها إِلَى أمثال هذه التوافه؟!
      وكذلك هَؤُلاءِ الصوفية وأمثالهم -كما ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ- يظنون أن الصحابة إنما كانوا يتلقون القُرْآن كما يتلقى الأطفال الصبيان، يحفظون ألفاظاً لا معنى لها، ولذلك يحتاجون إِلَى مصدر آخر يقول أحدهم: بحثت وفكرت في الصفات فوجدت أن النَّاس ما بين مجسم، ومشبه، ومعطل، ومؤول، فيحتار في أمرهم فَيَقُولُ: فلا سبيل إِلَى معرفة ذلك إلا بالكشف، فيتعبد ويذكر الله وينام لعله يرى رؤيا في المنام أو يلقى في قلبه شيء، وأبو حامد الغزالي في كتاب قواعد العقائد، وهو أحد الكتب من كتب إحياء علوم الدين رجح طريق الكشف، وقَالَ: إن الإِنسَان يحتار بين أهل التأويل وبين أهل التجسيم، والطريق الصحيح لمعرفة ما يؤول لا يعلم إلا بالكشف، سُبْحانَ اللَّه! قد ينكشف لواحد إثبات أشياء لم ترد لا في كتاب ولا في سنة، والآخر انكشف له ثلاث صفات أو صفتين، فكيف نعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذاً؟
    2. رد المصنف -رحمه الله- على هؤلاء المنحرفين

      يرد المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً فَيَقُولُ: [كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد].
      فالذين لا يأخذون الدين من المصدر الصحيح فمن أين يأخذونه؟ ولهذا فإن كل أحد يمكن له أن يسأل أي إنسان واجهه من المعتزلة أو الأشعرية أو الماتريدية هذا السؤال: ما الدليل من كتاب الله أو من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ ولا يوجد أبداً، فيقال لهم: إذاً أنتم لا تأخذون من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
      وإما أن يأخذوا من القرآن، ولكن لم يأخذوا تفسير كتاب الله عن الصحابة وعن علماء السلف، وهذا يمكن أن تزل فيه الأقدام وتضل فيه الأفهام؛ لأن القُرْآن حمالُ وجوهٍ" كما قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيره، فالقرآن حمال وجوه، أي: بعض الآيات تحتمل وجوهاً فمن يبين لنا؟ قال تَعَالَى :((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ))[النحل: 44] فالذي يبين للناس ما نزل إليهم هو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ومن أعلم النَّاس بالكتاب والسنة؟ لا شك أنهم الذين قرأوه وفهموه وعرفوا معانيه ومعاني السنة أقصد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ العلماء الذين من بعدهم، فما شرحوا به كتاب الله نقوله، وما لم يشرحوه، ولم يبينوه لا نبينه، فنجدهم يقولون: إن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدين حقيقة، صفة من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هَؤُلاءِ الضلال يقولون مثلاً: إن اليد تأتي بمعنى القدرة، وتأتي بمعنى النعمة، وتأتي بمعنى كذا، ومع أنهم قد يأتون بما يدل عَلَى ذلك من شعر العرب لكن لا يستطيع الواحد منهم أن يأتي بواحد من الصحابة نفى اليد عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ففهم الصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم مقدم وهو الحجة وكذلك العين والساق وأمثال ذلك من صفات الله.
      فالمسالة في أصلها تعود إِلَى التلقي إما من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من الفهم لها كما فهمها الصحابة وكما فهمها العلماء الثقات الذين يؤخذ عنهم هذا العلم ويؤخذ منهم الدين، فالصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، والسلف لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده، -يعني الألفاظ وحدها- وإنما نقلوا اللفظ والمعنى، ولم يكونوا يتعلمون كتاب الله كما يتعلم الصبيان الذين لا يستطيعون أن يستوعبوا المعاني، وإنما يحفظون الألفاظ؛ فهذا سوء ظن بأفضل جيل.
      وذكر المُصنِّف أن من لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه وبالهوى المجرد، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، وبالعكس من أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لأنه ليس كل إنسان يوفق للفهم الصحيح في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قد يفهم خطأ، كما وقع ذلك حتى في جيل الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، لكن إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، أما من أخذ من غير الكتاب والسنة فهو آثم، وإن أصاب، فلو جَاءَ أحدهم وقَالَ: أنا أثبت العلو لله كـابن رشد مثلاً فإنه يثبت كثيراً من الصفات التي تنكرها الأشعرية وكان عدواً شديداً للأشعرية.
      يقولون: نثبت بالعقل وبالرأي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالم.
      ولو قيل: ما رأيكم في الكتاب والسنة؟
      لقالوا: لا، هذه تحتمل وظاهرها فيه تشبيه، نَحْنُ نثبت بالعقل.
      فيقال لهم: هذا أثم، وإن كَانَ الكلام صواباً؛ لأنه لم يتبع الحق من منبع المحق ومن مصدر الحق وهو الكتاب والسنة، فنقول: ليس عقلك هو مصدر التلقي ولا مصدر الإثبات إلا في المجالات التي هي من شأن العقل وهي المجالات الاجتهادية لكن كلامنا في الدين وفي الاعتقاد، وفي الصفات، فلا يستطيعها العقل وليس في مجاله ولا من اختصاصه.
  4. الاختلاف في رؤية الله تعالى في المحشر

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [ وقوله: [والرؤية حق لأهل الجنة] تخصيص أهل الجنة بالذكر، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى:((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)) [الأحزاب:44] .
    واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال:
    أحدها أنه لا يراه إلا المؤمنون .
    الثاني يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
    الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف ]إهـ.

    الشرح:-
    قد مر معنا حديث عدي بن حاتم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: أولم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب، يقول: ألم أزوجك؟ فيقول: بلى يا رب} إلى أخر الحديث الذي سبق وقد ذكرنا أن اللقاء لا يستلزم الرؤية، يعني: أن الاستدلال بهذا الحديث على إثبات الرؤية فيه نظر؛ لأن مجرد اللقاء لا يستلزم الرؤية، لأن في الحديث: { ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك } وهذا يقال في حق الكافر، فهل نستفيد من هذا الحديث أن الكافر يرى الله عز وجل أم لا ؟
    فالمسألة موضع نظر، ولهذا لا يذكر هذا الحديث ضمن الأحاديث التي نستدل بها على رؤية الله تبارك وتعالى، وإنما ضمن الأحاديث التي هي محل نظر، والإمام الطحاوي توفي في أوائل القرن الرابع، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن الخلاف -هل يرى الكفار الله عز وجل أو لا يرونه- إنما نشأ بعد المائة الثالثة، يعني نستطيع أن نقول: إن الإمام الطحاوي لم يدرك هذا الخلاف وإنما تكلم بما كان عليه عامة السلف، وهو أنهم يتكلمون بأن المؤمنين يرون ربهم وكان أهل البدع ينكرون ذلك، ويقولون: إن الله لا يُرى، فكان الخلاف محصوراً في هل يُرى أولا يُرى ؟ والذين يقولون يُرى وهم أهل السنة يقولون: المؤمنون يرون ربهم، وأولئك قالوا: لا يرى مطلقاً.
    وبعد الثلاث مائة نشأت قضية أخرى وهي: هل يراه الكفار والمنافقون أو لا يرونه؟ وهذه قضية اجتهاد ونظر، أي: ليست هذه من الأمور التي تؤثر في الاعتقاد والدين سواء قيل الكفار يرونه أو لا يرونه ولكن بالقيد الذي سنذكره، وليست مسألة محنة ولا فتنة، وهنا سنقف قليلاً لذكر قصة وقعت في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا الموضوع لنأخذ منها العبرة.
    فأهل البحرين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان فيهم علماء وصلحاء، فحصلت بينهم فرقة وشقاق، وتهاجر وعداوة من أجل هذه القضية، هل الكفار يرون الله أم أنهم لا يرون الله وهم متفقون على أنه ليس في الجنة قطعاً، فالكفار لا يدخلون الجنة، لكن قالوا: في أثناء الحشر قبل الحساب، هل يرونه أو لا يرونه ؟ وتهاجروا وتقاطعوا واختلفوا في هذه المسألة فكتبوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ولما بلغه ذلك رضي الله تعالى عنه كتب إليهم ليهون عليهم الأمر .
    ويقول: إن من أمور الدين ما هي أمور معلومة بالقطع، وبالدليل الجلي وهذه هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يظهرها وأن يدعو إليها، ولو أوذي في سبيل ذلك وأن يجاهد في ذلك ويتحمل الأذى أو أن يقاطع وأن يهجر من أجل ذلك، وهناك أمور ليست من هذا القبيل، وإنما هي محل نظر واجتهاد، فلا يمتحن فيها الإنسان، ولا يهجر من أجلها ولا يؤدب ولا يعزر، بل غاية ما يقال: إنه مخطئ ومنها هذه القضية.
    فنحن في حاجة دائمة إلى أن نعرف ما هي الأصول التي نوالي ونعادي فيها، وما هي الأمور التي تقبل الخلاف، فلا نجعلها هي محل الإثارة والإشكال في مجالسنا أو مع العلماء، هل هذا هو المخطئ أم هذا هو المصيب، هل نضع اليدين قبل الركبتين أو العكس، هل نضع اليدين بعد الرفع من الركوع أم لا نضع ... الخ .
    هذه الأمور التي لا يترتب عليها شيء وليس على المسألة امتحان ولا ابتلاء ولا هجران ولا تبديع ولا تفسيق، يجب أن نحذر من الخلاف فيها، وأن نضع الشيء في موضعه، فنحن أحوج ما نكون إلى أن يكون شباب أهل السنة والجماعة يداً واحدة على أهل الشرك والبدعة والفجور، بدلاً من أن يكون موضوع أحاديثهم وموضوع لقائهم مع علمائهم هو أمثال هذه القضايا، أقول الذي يقرأ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية يجد الناحية التربوية والدعوية فضلاً عن الناحية العلمية، فهي في الجزء السادس من مجموع الفتاوى تبتدئ من صفحة (465).
    1. ترجيح شيخ الإسلام بأنه لا يراه إلا المؤمنون .

      ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ثلاثة أقوال:
      القول: بأنه لا يراه إلا المؤمنون ومن أقوى الأدلة عَلَى ذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) [المطففين:15] وكل ما سبق أن ذكرناه من الآيات والأحاديث يستدل به هَؤُلاءِ ويقولون: إن الكفار لا يدخلون في ذلك، أي: لا يدخلون في النعيم ولا فيما يتعلق بالنعيم، وهو أمر معلوم، إذاً فلا يرون ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أي موقف من مواقف يَوْمَ القِيَامَةِ.
      أما الذين قالوا: إن الكفار يرونه فيقولون: نَحْنُ نقول: إنهم يرونه وقت الحساب فقط، ويستدلون بعموم ما جَاءَ في الأحاديث، منها: حديث أبي سعيد الخدري وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي أوله {أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر} ... الخ.
      وحديث جرير وأبي سعيد {كنا جلوساً عند رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار إِلَى القمر وقال لهم ذلك، الحديث بطوله وفيه يقول الله عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: من كَانَ يعبد شيئاً فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنَّصَارَى فيمثل لهم شيطان عزيز وشيطان المسيح .....} الخ كما جَاءَ في الحديث، فيقولون: إن هذه الرؤية تحصل لأهل المحشر جميعاً والحديث فيها عام.
      وأيضاً في حديث أبي رزين العقيلي قَالَ: {يا رَسُول الله: كيف يرى الخلائق ربهم وهو واحد؟ فَقَالَ ألا ترى أنهم جميعاً ينظرون إِلَى القمر وهو واحد قَالَ: بلي} فيستدلون بنفس الأحاديث في الرؤية لكن بعمومها، وأنها تدل عَلَى أنه لا فرق بين المؤمنين وبين الكفار في الرؤية التي قبل الحساب.
      وفصلت فرقة ثالثة وقالت: إن نفس هذه الأحاديث جَاءَ في بعضها ما يفصل وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يأتي الخلائق في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيسألهم ويمتحنهم، ثُمَّ ينفض الكفار، وتذهب كل فرقة أو طائفة من الكفار مع طاغوتها الذي كانت تعبده، فتبقى هذا الأمة ومعها منافقوها، فيتجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا رأوه خروا سجداً، والمؤمنون يسجدون والمنافقون تكون ظهورهم كالخشبة فلا يسجدون، فهذا دليل عَلَى أن المنافقين يرون الله وأن الكفار لا يرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

      والكلام كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وكما ذكر المُصنِّف هنا أن الأمر فيه هين -ولله الحمد- وذلك بأن يقال أهل السنة جميعاً: متفقون عَلَى أن رؤية الإنعام والتكريم والتلذذ لا تكون إلا للمؤمنين في الجنة هذا أمر معلوم وقطعي متفق عليه.
      فبقي إذاً مسألة الرؤية أثناء الحساب وأثناء العرض، إن وقعت للكفار فليست تكريماً ولا تنعماً، وإنما هي إقامة للحجة، وإن لم تقع لهم، فهي أيضاً من ضمن العقوبات، هذا ما يجعلنا نخرج من الخلاف، حتى أن شَيْخ الإِسْلامِ في آخر هذه الرسالة قَالَ: إن الوقت لا يتسع للترجيح فيها، ولكن ليست بذات الأهمية التي لا بد أن نرجح فيها، فنحن يكفينا هذا، وهو أن نعلم: أنه إن ثبتت الرؤية للكفار في حال الحساب وما قبله، فهي ليست رؤية التنعم والتلذذ والإكرام، وإنما هي رؤية لإقامة الحجة وللمحاسبة وللعقوبة.
      وأما التي بالإجماع ولا ينالها الكفار ولا المنافقون إنما هي للمؤمنين، فهذه الرؤية التي هي للنعيم، وهي رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، هذه الرؤية التي تُنَضِّرُ الوجوه، وهذه هي الزيادة التي يعطيها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الجنة، ويحسن بها إليهم فوق إحسانه إليهم بإدخالهم الجنة، هذا ما يقتضيه المقام هنا.