تقول القدرية: لو أن عبداً من العباد صلى وصام وزكّى وحج وفعل غيرها من أفعال الخير، فهذه الأفعال من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا زنا وسرق وشرب الخمر، فهذه من فعله خلقها العبد، حتى لا ننسب الشر إِلَى الله، وحتى لا نقول: إن الله شاء شيئاً وقدره ثُمَّ يعذِّبه هكذا زعموا فوجد فيهم هَؤُلاءِ، ووجد فيهم هَؤُلاءِ ولهذا سمى هَؤُلاءِ مجوس هذه الأمة.
فقد ورد ذلك في أحاديث لا يصح رفع شيء منها كما بين ذلك الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى وغيره، أما ما في كلام السلف فقد ورد ذلك أنهم سموا القدرية مجوس هذه الأمة، وسموا بذلك لأن المجوس يقولون: إن الشر إله وهو الظلام، والخير إله وهو النور، فجعلوا خالقين، وهَؤُلاءِ القدرية جعلوا لأفعال العبد خالقين، فالطاعات والقربات خالقها الله، والشر والمعاصي خالقها الإِنسَان.
إذاً: هَؤُلاءِ هم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم شابهوا المجوس في ذلك، حيث أثبتوا خالقين، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخالق لكل شيء وحده، وقد أجمع أهل السنة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق أفعال العباد خيرها وشرها كما سيأتي بيانه إن شاء الله فيما بعد.
ثم بعد ذلك انتشر التصوف وانتقلت قضية الجبر إِلَى معنى أبعد وأعمق وأعظم بكثير، ثم ظهر ضد قول
المعتزلة القدرية الذين ينكرون القدر وهَؤُلاءِ أثبتوا الجبر، وغلوا فيه، حتى سلبوا العبد إرادته وقدرته ومشيئة الإرادية التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه، فقالت
الجبرية: إن الإِنسَان مثل الريشة في مهب الريح، وإن الحركات لا إرادية سواء فعل الخير أو فعل الشر فهي مثل حركات المرتعش؛ لأنها ليست إرادية ولا اختيارية.
ورأس هَؤُلاءِ
الجبرية وزعيمهم
الجهم بن صفوان الذي اشتهر إلحاده وعم شره في العالم الإسلامي ابتدع هذه المقالة التي أخذها من كلام
الفلاسفة الصابئين فأثبت أن كل ما يجري في هذا الكون من أفعال أن الله تَعَالَى هو الفاعل لها، وليس لغير الله مشيئة ولا إرادة، فقابل الغلو بالغلو، وأخذ الفريقان يتصارعان.
فأصبحت الفرقتان متميزتين فرقة تغلو في نفى القدر وهم المعتزلة الغلاة والفلاسفة حتى أنكروا العلم الذي لا ينكره إلا كافر، وَقَالُوا: إن الله تَعَالَى لا يعلم إلا الكليات -تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيرا- ولا يعلم الجزئيات، وقد أجمع الْمُسْلِمُونَ بجميع طوائفهم عَلَى تكفير الفلاسفة سواءً كَانَ الكندي أو الفاربي أو ابن سينا أو أمثالهم.
وقد أثبت الله تَعَالَى علمه بالجزئيات فأثبت علمه بالحبة والورقة التي تسقط قال تعالى: ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) [غافر:19].