أجاب هذا السؤال الشيخ :
سفر الحـوالي حفظه الله .
السؤال: ما الفرق بين المصلحة الشرعية والتنازل عن شيء من دين الله؟
الجواب: أي شيء يعارض النص ويقال: إن فيه مصلحة، فهو مفسدة وهو باطل، ولكن المصلحة التي نتكلم عنها: هي في الحقيقة متى نعمل بالنص، وكيف نعمل إذا تعارضت النصوص؟
ولذلك عندما نقول: نوازن بين المصالح والمفاسد، فإننا نقصد هذه الحالة، أي أننا كما لو استخدمنا مصطلحات أصول الفقه، فمثلاً تحقيق مناط النص، المراد به كيف نطبق هذه الآية، أو كيف نطبق هذا الحديث.
أما التنازل عن شيء من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بمعنى أن يترك أو يهدر أو لا يدعى إليه، وأن يقر من خالفه وعمل بغيره مطلقاً، فهذا ليس من دين الله، ولا من شأن المسلمين والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، فقد عرض المشركون هذا التنازل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة! فأنزل الله عليه: ((
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *
لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ))[الكافرون:1-2] إلى آخر السورة، وهذا ليس داخلاً في الموضوع.. وإنما المقصود تأخير حكمٍ شرعي لا توجد مصلحة في تنفيذه الآن، وأنا أجملت فقلت: لو استعرضنا الصور كلها، لوجدناها ناطقة بهذه الحكم، فمثلاً عندما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
لولا أن قومك حديثو عهد بكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم} هذا بيت الله وحرم الله، فلماذا يؤخر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
لابد أن هناك مصلحة، مع أن العمل مشروع، وقد همَّ أن يجعلها على قواعد أبيه إبراهيم؛ لأن هذا هو الأصل، لكن الذين غيروا هذه القواعد هم كفار قريش؛ إذ ضاقت بهم النفقة عن إتمامها فاقتصروا عليها، فهذا أمر شرعي مطلوب، لكنه لم يُفعل لأجل مصلحة، وهي حتى لا يقال: إن العرب إنما كانوا يعظمون من يعظم هذا البيت في جاهليتهم وإسلامهم، وبعضهم قد يظن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يتردد في قريش أنه صابئ أو أنه غَيَّر ديننا ودين آبائنا، وأنه فعل وفعل.
فأعظم شيء تعظمه العرب وتقدسه هو هذا البيت وحرمته، فلو جاء وغيَّره لأشاعوا، ولقال المنافقون وأرجف المرجفون، وبلغ أطراف الأعراب والبوادي أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقض البيت، ولن يُقال: إنه أراد أن يبنيه على قواعد إبراهيم، بل ربما يظن كثير منهم أن هذه هي قواعد إبراهيم، إذاً هناك مصلحة.
مثال آخر : تحطيم الأصنام نفسها، كانت المصلحة ألا يحطمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يكسرها، حتى جاء عام الفتح ودخل ظافراً منصوراً.. أما قبل ذلك، فلم يفعل حتى وهو في طوافه، ومعه الجيش في عمرة القضاء، طافوا وسعوا وصلوا في المسجد الحرام، والأصنام في داخل الكعبة وحولها؛ بل نهى عن سبها وعن شتمها
أبا ذر في الحديث الصحيح المتفق عليه، حين أمره أن يخفي إيمانه، ونصحه وهو صائم ألَّا يعلن، فلما أعلن بذلك، وقال تلك الكلمة التي تستفظعها في حق إساف ونائلة حصل له ما حصل من الضرب والأذى.
فهذا هو عمل أيضاً بقوله تعالى : ((
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم))[الأنعام:108]، فحين عادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلهتهم وسبها، قامت العداوة ضده؛ وسبوا القرآن ومن أنزله فمنعوا من ذلك، لئلا يكون في ذلك ذريعة إلى سب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالمقصود من المصلحة إنما هو إقامة أمر الله وشرعه على أحسن الوجوه وأتمها، فلو تعارضت مع النص والدين لم تعد مصلحة بل مفسدة؛ لأن الحلال بيِّن والحرام بيِّن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن الناس من يفطن أو يستطيع أن يعرف ما هو أرجح المصلحتين، وما هو أقل المفسدتين، لكنهم قليل جداً.
فمن الذي يستطيع أن يقدر أنني إذا أنكرت هذا المنكر لم ينشأ عنه منكر أكبر منه؟
إنهم قليل جداً. وهذا هو فقه الدعوة المقصود والمراد به هنا، مَنْ مِنَ الناس من يستطيع أن يعلم أنني لو ارتكبت هذا المنكر فسأحقق معروفاً أكبر؛ فأرتكبه ليتلاشى هذا المنكر في سبيل المعروف الذي هو أكبر منه؟ ليس كل أحد...
ومع ظهور الفتن والانحراف حصل هذا الخلل في الأمة، أما في أيام الخير المحض، الذي يتمحض واضحاً، والشر المحض، أو في حالات معينة يكون الخير فيها محضاً، فكل ما عارض شرع الله وكل ما عارض الدليل فهو مفسدة، وليس فيه أدنى مصلحة.