المادة كاملة    
ناقش هذا الدرس استدلال المعتزلة على نفيهم الرؤية بأن (لن) في قوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي) تفيد التأبيد في الدنيا والآخرة، واستدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) والرد عليهم، ثم جاء الحديث عن تواتر أحاديث الرؤية، مع بيان أن أصول الدين لا تعلم إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين يجب اتباعهما.
  1. الرد على المعتزلة في باب رؤية الله تعالى

     المرفق    
    لا يستغرب أن أعداء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين لا يريدون الحق، ولا يريدون الهدى يبحثون عن أية شبهة مهما كانت ضعيفة أو بعيدة لتساند بدعتهم.
    1. الرد على استدلالهم بقوله تعالى: ((لَنْ تَرَانِي))

      ومن ذلك أنهم اخترعوا هذه الشبهة التي لا أصل لها في لغة العرب وهي قولهم: إن (لن) في لغة العرب تنفي نفياً مؤبداً، يعني: نفياً قطعياً إِلَى مالا نهاية، فكأنك إذا قلت -لن أدخل بيت فلان- فمعنى ذلك: النفي المؤبد الذي لا يمكن أن يكون فيه استثناء.
      ولكننا نجد أن هناك من يقول: " لن أفعل كذا " ويفعله في ذلك اليوم أو في اليوم الثاني، ويكون منتهى ما يدل عليه ذلك النفي، أنه لن يفعل في ذلك الوقت الذي عرض عليه أن يفعله، ولا أكثر من ذلك،
      أما أن يحمل هذا الأسلوب -وهو استخدام "لن" مع الفعل- عَلَى النفي المطلق إِلَى ما لا نهاية، فهذا من الغلو ومن التعسف الذي لا أصل له، ولكن القلوب المريضة تتصيد الشبهات وتتبعها لتزيغ وتزداد زيغاً وضلالاً.
      وهكذا فعل المعتزلة ومن وافقهم فَقَالُوا: إن "لن" للتأبيد المطلق، ولما قَالَ: " لن تراني " أي لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تراني لا في هذه الدنيا، ولا في الآخرة إِلَى أبد الآبدين وما لا نهاية، ولذلك أخذ المُصنِّف -رحمه الله تعالى- يرد عليهم.
      فبين رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذا القول باطل وفاسد لوجوه عديدة منها:
      الوجه الأول: أنه حتى لو قيد بالأبد لما دلت عَلَى ذلك. فلو أنه قَالَ: "لن تراني أبداً" لما دل ذلك عَلَى نفي الرؤية مطلقاً إِلَى ما لا نهاية له؛ لأن "الأبد" هنا له غاية محدودة هو هذه الحياة الدنيا، فإن الكلام إنما هو في الدنيا. وقد سأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عبدُه وكليمُه موسى عَلَيْهِ السَّلام الرؤيةَ في الدنيا، فأجابه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في حدود هذه الدنيا، ولم يتَعرض لقضية الآخرة والأزل في هذا الموضوع. فكيف وقد جاءت مطلقة لا مقيدة، فلم يأت فيها " أبداً "، ولم يقل الله "لن تراني أبداً" وإنما قَالَ: ((لَنْ تَرَانِي)) مع أنه في لغة العرب حتى ولو قال أحد: لن أفعل أبداً. لما دلّ ذلك عَلَى أن النفي سيستمر إِلَى قيام الساعة، وما بعد قيام الساعة.

      وقد بين المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أنه قد جَاءَ في القُرْآن النفي بـ"لن"، وجاء مع ذلك ما يدل عَلَى عدم التأبيد، ومن ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أخبر عن الْمُشْرِكِينَ من اليهود وغيرهم أنه تحداهم إن كانوا عَلَى الحق والعقيدة الصحيحة والدين الصحيح أن يتمنوا الموت؛ لأن اليهود كما قال تعالى: ((وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّر))[البقرة:96] فهم يخافون من الموت خوفاً لا نظير له، والواثق من دينه لا يخاف من الموت، نعم كل البشر يخافون من الموت لكن الذي يثق بدينه، وأنه إن مات عَلَى هذا الدين والإيمان، فإنه سيتلقاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالرحمة والرضوان؛ لأنه عَلَى هدى من ربه ويقين من دينه لا يخاف.
      لكن هَؤُلاءِ يخافون لأنهم ليسوا واثقين مما هم عليه من الدين، فلهذا قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنهم: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً)) [البقرة:95] أما في الدنيا فنعم ولكن في الآخرة أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن أهل النَّار أنهم سيقولون: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ))[الزخرف:77] ويتمنوا ذلك ((وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً)) [النبأ:40] ولكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كتب أنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخرجون منها - عافانا الله من عذابها -فلما أخبر تَعَالَى أنهم في الدنيا لن يتمنوه، وأخبر أنهم في الآخرة يتمنون ذلك علمنا أن "لن" ليست للتأبيد المطلق وإنما غاية ما تدل عليه أنهم لن يتمنوه في هذه الحياة الدنيا، فقوله: ((لَنْ تَرَانِي))، غاية ما يدل عليه أن الرؤية لن تقع في حدود الحياة الدنيا. الوجه الثاني: أن "لن" لو كانت للتأبيد لما جاز أن يحدد الفعل بعدها، فلو كانت هذه الأداة في لغة العرب كما يزعمون للتأبيد المطلق لما صح أن يقع بعدها استثناء أو تحديد للفعل، بينما نجد أنه قد جَاءَ ذلك في القرآن،كما في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى لسان أخي يوسف ((فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) [يوسف:80] إذا حصل الإذن من أبيه فإنه سيبرح الأرض، فحصل النفي بـ "لن" وحصل معه التحديد، فالنفي يستمر إِلَى حالة حصول الإذن، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي.
      إذاً: ليست "لن" للتأبيد المطلق الذي لا تحديد فيه، وإنما تأتي للتأبيد المحدد بقدر محدد، وهذا معلوم من لغة العرب، ولا يمكن لأي إنسان سليم الفطرة ونقي العقل يقرأ كلام العرب ويتخاطب به إلا فهم أنه لا يمنع أحداً أن يقول: " لن أفعل كذا حتى يكون كذا " بل هذا سائغ ووارد من كلام العرب.
      واستدل المُصنِّف رحمه الله تعالى عَلَى ذلك بقول الإمام الشيخ " جمال الدين ابن مالك "صاحب" الألفية " وغيرها من الكتب النحوية المشهورة، الذي بلغ صيته الآفاق في النحو وكان -رحمه الله تعالى- من النحاة الكبار الذين أحيوا وجددوا هذا العلم في العصور المتأخرة، فـابن مالك هذا -رحمه الله تعالى- يقول:
      ومن رأى النفي بلن مؤبداً             فقوله اردد وسواه فاعضدا
      أي: والقول الآخر قوّه، ورد قول من يقول إن النفي "بلن" مؤبد.
      فهذا رجل من المشهود لهم بالمنزلة العالية في النحو وهو يشهد بما عليه مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من أن "لن" ليست لتأبيد النفي، فبطل بذلك قول أُولَئِكَ المعتزلة -ولله الحمد-
      وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن الآية الأولى وهو قوله تَعَالَى لموسى: ((لَنْ تَرَانِي)).
    2. الرد على استدلالهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ

      الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)).
      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وأما الآية الثانية فالاستدلال بها عَلَى الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو: أن الله تَعَالَى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية.
      وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تَعَالَى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وألوهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
      ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه.
      فإذاً المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)) [الأنعام:103]، يدل عَلَى كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن "الإدراك" هو الإحاطة بالشيء -وهو قدر زائد عَلَى الرؤية- كما قال تعالى: ((فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)) [الشعراء:61، 62]، فلم ينف موسى عَلَيْهِ السَّلام الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها عَلَى ما هي عليه]اهـ.

      الشرح:
      أما قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)) فإنها أيضاً تدل لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو إثبات الرؤية، ولا تدل عَلَى ما ذهب إليه المعتزلة من نفي الرؤية، وتفصيل ذلك أن يقَالَ: إن هذه الآية جاءت في سياق التمدح والثناء من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نفسه، وهو أولى شيء بالثناء، وهو المستحق لصفات الثناء والإجلال والمدح والكمال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما أن أثنى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نفسه وتمدح بقوله: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)) دلَّ ذلك عَلَى أن هذا المعنى يندرج تحت قاعدة عظيمة من قواعد الأسماء والصفات وهي: "ليس في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نفي -مطلق- عدمي، وإنما النفي يأتي لإثبات كمال وجودي" فلا نصف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالنفي المطلق، ولا يُمدح الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالنفي المجرد؛ لأنه عدم.
      وإنما يأتي النفي في القُرْآن والسنة في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لإثبات متعلقة ومتضمنة وهو إثبات صفة وجودية ثبوتية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فالمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به،
      وذكر المُصنِّف أمثلة عَلَى ذلك، مثلاً: قوله تعالى: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))[البقرة:255] هذا نفي يتضمن كمال حياته وقيوميته، فمن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وقد سبق أن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله، وهاتان الصفتان " الحي القيوم " تضمنتا جميع صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ودلتا عليها، فالحي: دليل عَلَى جميع الصفات الذاتية، والقيوم: دليل عَلَى جميع الصفات الفعلية.
      ونفي اللغوب والإعياء كما قال تعالى: ((وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [قّ:38]، ((وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ)) [الأحقاف:33]، ونفيه للإعياء يتضمن كمال القدرة، وهذا لا يكون إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير -المعين- ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً)) [الجـن:3]، ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)) [سـبأ:22] هذا يتضمن كمال الربوبية والألوهية وكمال القهر، وليس مجرد نفي.
      وقوله تعالى: ((لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ))[الإخلاص:3، 4] نفي يتضمن كمال صمديته وأحديته.
      وكما أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، فسورة الإخلاص ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] هي: أفضل سورة في القرآن، وهي {تعدل ثلث القُرْآن} كما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيهما إثبات عظيم وبعده نفي يؤكد كمال الإثبات ففي آية الكرسي ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) [البقرة:255] ثُمَّ أكد كمال الحياة والقيومية بقوله:((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) [البقرة:255]، وفي سورة الإخلاص: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد)) ثُمَّ أكد الله كمال وحدانيته وصمديته بقوله: ((لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ))[الإخلاص:3، 4].

      وهذه هي أصول الصفات، وأصول المدح والثناء، فيأتي بصفة صفة ثبوتية ثُمَّ يعقبها نفي يؤكد كمال تلك الصفة الثبوتية، فلا مدح في النفي العدم المطلق المحض.
      ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255] فذكر أولاً كمال الحياة وكمال القيومية، ثُمَّ ذكر ثانياً كمال الغنى وتوحده، فإن المخلوقين جميعاً مربوبون ومقهورون، فقراء إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الغني عن كل أحد، ومن فضله ورحمته أنه يأذن لمن شاء أن يشفع عنده، فيأذن للشافع المرضي عنه كالأنبياء والملائكة والصالحين والشهداء أن يشفعوا لمن شاء من خلقه من أصحاب الكبائر ومن شاء الله.
      ونفى الظلم((وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)) [الكهف:49] لإثبات كمال عدله وقسطه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فلا يظلم أحداً لأنه المتفرد بكمال العدل والقسط والغنى أي: غني عن أن يظلم أحداً من خلقه، وهذا أيضاً يتضمن كمال علمه فإنه يعلم ذنوب العبيد جميعاً، فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم حسناتهم، فلا يخفى عليه منها شيء، وهو في غنى مطلق عنهم، فَلِم يظلمهم؟!
      ونفى النسيان وعزوب الشيء عن علمه المتضمن لكمال علمه وإحاطته، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ))[سـبأ:3].
      وكذلك نفي المثل ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] المتضمن كمال ذاته وصفاته، فهو نفى أن يكون له مثل، ليس لمجرد النفي كما يقول هَؤُلاءِ الجهمية، والقرامطة الباطنية.
      وهم درجات، فمنهم من ينفي الأسماء والصفات، ومنهم من ينفي الصفات ويثبت الأسماء، ومنهم من ينفي بعض الصفات ويثبت بعض الصفات، ويثبت بعض الأسماء، ومنهم من يثبت جميع الأسماء منفصلة.
      أما أهل الحق أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فإنهم يثبتون جميع الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة.

      أما القرامطة، الباطنية، الإسماعيلية: فهَؤُلاءِ ينفون جميع الصفات والأسماء ووصل بهم الغلو إِلَى أن قالوا: " لا يقال موجود ولا غير موجود!
      وهذا مما أوجب أن يحكم العلماء بالإجماع عَلَى كفرهم، حتى المعتزلة والأشاعرة وغيرهم يكفرونهم فهم خارجون عن ملة الإسلام والعياذ بالله، متبعون لمذهب بعض كفار اليونان، يقولون: "إن الله لا تدركه العقول فلا يوصف الإله بشيء فلا يُقَالَ: موجود ولا غير موجود".

      فالنفي المحض العدمي هو من شأن هَؤُلاءِ الإسماعيليين، وغلاة الجهمية شاركوهم في ذلك، فلا يصفون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا بالصفات السلبية، ولا يثبتون الصفات الثبوتية، فيقولون: الله ليس بجاهل، ولا يقولون: عالم، فهم يظنون أن الإثبات يدل عَلَى حقيقة وصفة لا يستطيعون إدراكها، وهذا من الإفك والافتراء عَلَى الله عز وجل.
      وأولئك الذين لا يصفونه إلا بالعدم المحض، والذين يصفونه بغير صفاته، ويثبتون له الصاحبة والولد، أو يشبهونه بأصنامهم ومعبوداتهم، أو يقولون بأن يده مغلولة، وما أشبه ذلك، رد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم بالمنهج الذي ذكرناه بالقاعدة المذكورة، وهي: " أنه يأتي بالنفي المتضمن مدحاً، ولذا قال المصنف: [فلم يمتدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه].
      أي: إذا كانت الصفة عدم محض فإنه لا يوصف بها شيء موجود فضلاً عن الذي هو في كمال الوجود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن العدم المحض هو صفة الشيء المعدوم الذي لا وجود له، فكيف يجعل هذا الذي لا وجود له مطلقاً مثل الذي له كمال الوجود، هذا لا يليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

      وعلى ضوء هذه القاعدة نفهم هذه الآية وندرك الاستدلال بها عَلَى خلاف فهم المعتزلة فمعنى قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ))أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)) فهذا نفي يتضمن كمال عظمته وكبريائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يُحاط به.
      فلا ينفي الرؤية وإنما ينفي الإحاطة به إدراكاً، وإثبات ضد ذلك هو كمال العظمة، وأنه أعظم شيء وأكبر من كل شيء، فلا تدركه الأبصار؛ ولأنه قد يظن بعض النَّاس بإثبات الرؤية أن الرائين يحيطون به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إدراكاً إذا رأوه؛ فجاء نفي الإدراك والإحاطة، فلا تدركه الأبصار لكمال عظمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإحاطة بالشيء قدر زائد عَلَى الرؤية.

      واستدل المُصنِّف عَلَى ذلك باستدلال واضح وهو قوله تعالى: ((فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61].
      فلما رفض فرعون دعوة نبي الله موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يرسل معه بني إسرائيل وجادله بالمجادلة المعروفة في سورة الشعراء، وأرسل فرعون وحشر الجند والجمع وقَالَ: ((إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ)) [الشعراء:54، 55] واستثار فرعون الشعب ضد هَؤُلاءِ القلة، وهم بني إسرائيل وموسى عَلَيْهِ السَّلام فخرج موسى كما أمره ربه ببني إسرائيل فأتبعه فرعون وجنوده، وهرب بنو إسرائيل وأولئك عَلَى آثارهم ((فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ)) يعني: لما رأى بعضهم بعضاً، رأى قوم فرعون أصحاب موسى، ورأى أصحاب موسى جيش فرعون.
      في هذه اللحظة بالحسابات المادية المجردة انتهى موضوع قوم موسى، لأن الجيش العرمرم القوي الفرعوني سوف يسحقهم، ليس هناك إمكان للنجاة، ولهذا قال أصحاب موسى: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))، قضي علينا وانتهى أمرنا، فحصلت الرؤية ولكن لم يحصل الإدراك، فهم متراؤن يرى بعضهم بعضاً، قَالَ: ((كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)) [الشعراء:62] قد رأونا ولكن لن يدركونا.
      وعليه فالرؤية شيء والإدراك شيء آخر، ولم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك يوجد كل منهما مع الآخر وبدونه، يعني: قد ترى شيئاً فتدركه، وقد تراه ولا تدركه، وقد تدرك شيئاً ولا تراه مثل الأمور الغيبية المعنوية، فتعرف صفاتها ولكن لا تراها بالعين، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما أنه في هذه الدار في الدنيا نعلم بصفاته وأسمائه ونعوت كماله ولكنه لا يحاط به علماً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والتابعون من هذه الآية.

      ثُمَّ قال المصنف: [بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها] يعني: من إدراك صفتها، لقوة الشعاع والعلو والارتفاع والكبر والعظمة، فلا أحد يدرك حقيقة ما عليه الشمس، وبذلك تكون الآية بخلاف ما استدل به المعتزلة وإنما هي شاهد لـأهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ولله الحمد.
      فتدل بالدلالة اللطيفة الحسنة عَلَى إمكان رؤية الله وثبوت تلك الرؤية وأنه لا تدركه الأبصار، بل إنما تراه بالكيفية التي يعلمها، لكنها لا تدرك حقيقته، ولا كيفية ذاته من جميع الوجوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  2. تواتر أحاديث الرؤية

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما الأحاديث عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم، الدالة عَلَى الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، فمنها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: {أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك} الحديث أخرجاه في " الصحيحين" بطوله.
    وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً " في الصحيحين" نظيره.
    وحديث جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: {كنا جلوساً مع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة فقَالَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته} الحديث أخرجاه في "الصحيحين".
    وحديث صهيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المتقدم، رواه مسلم وغيره.
    وحديث أبي موسى عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلا رداء الكبرياء عَلَى وجهه في جنة عدن} أخرجاه في "الصحيحين".
    ومن حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: {وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً، فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟! فَيَقُولُ: بلى يا رب} الحديث أخرجه " البُخَارِيّ" في " صحيحه".
    وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرَّسُول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء، وإذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إِلَى غير ذلك من الصفات التي سماعها عَلَى الجهمية بمنزلة الصواعق]إهـ.

    الشرح:
    الأحاديث التي تدل عَلَى رؤية المؤمنين لربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الدار الآخرة متواترة، قد رواها نحو ثلاثين صحابياً، وتواتر ذلك نقله التابعون وتابعوهم ومن بعدهم، واتفقت الأمة عَلَى ذلك إِلَى أن ظهر أهل البدع الذين لا يعتد بخلافهم، والإجماع أيضاً عَلَى فهم هذه الأحاديث متواتر، فكل السلف الصالح فهموا من هذه الآيات والأحاديث، حقيقة إثبات رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويكفينا ذلك دلالة عَلَى أن من خالف هذا الإجماع وهذا التواتر، أنه مكذب لله ولرسوله، وهو ضال مبتدع.
    ولهذا عقَّب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في الأخير ببيان أن هَؤُلاءِ يقولون في دين الله برأيهم، وأنهم لا يتبعون الكتاب والسنة في ذلك،
    فمن الأحاديث التي ذكرها:
    حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- الطويل في البُخَارِيّ في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] ونفس هذا الحديث يأتي في باب إثبات الرؤية التي أولها وحرفها أُولَئِكَ المبتدعة الضلال، وفيه: {أن ناساً سألوا النبي -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو العليم بربه- قالوا: هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟}.
    جاءت برواية "تضارون" بالراء، وفي أخرى "تضامون" بالميم، ولا تعارض بينهما، فلعله لتعدد القصة، وكل منهما يدل عَلَى معنى صحيح، فقَالَ: {هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يارَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك......} ثُمَّ ذكر الحديث وهو حديث طويل.

    ثُمَّ ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي يسمى حديث الشَّفَاعَة أو حديث الجهنميين، رواه أَبو هُرَيْرَة وأبو سعيد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأخرجه البُخَارِيّ ومسلم وهو حديث طويل يتضمن أهوال المحشر والموقف إِلَى أن ينتهي الأمر بالشَّفَاعَة وإخراج آخر أهل النَّار وهم المسمون "الجهنميون" الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الصالحين الذين يتحنن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم برحمته، ويشفعهم فيهم فيكونوا آخر أهلها خروجاً. وفي كل منهما إثبات رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وأيضاً حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيحين قَالَ: {كنا جلوساً عند النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة، فَقَالَ لهم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر}، وهم أفهم النَّاس وأعلم الناس، وهذه إشارة وخطاب يفهمه البدوي والأمي الساذج لأنه كلام واضح، فليس هناك أي لبس يستدعي أدنى شبهة من التأويل أو من تحريف المعنى.
    وحديث عدي ابن حاتم الذي أخرجه الإمام البُخَارِيّ -وهذا الحديث ليس فيه دلالة واضحة عَلَى الرؤية- يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وليلقين الله أحدكم يَوْمَ القِيَامَةِ وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فَيَقُولُ: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب}.
    ويأتي إن شاء الله أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالمؤمنين؛ بل هو أقرب أن يكون في مخاطبة الكافرين المنكرين، وأما المؤمنون فمن فضل الله عليهم أنهم مقرون بالرسالة.

    واستدل النفاة المعتزلة على نفي الرؤية بثبوت اللقاء من الله للكافرين والمؤمنين.
    فقال بعضهم لأحد أهل السنة: أنتم تثبتون الرؤية؟
    قَالَ: نعم.
    قال فما تفعل بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبة:77]، فهَؤُلاءِ المنافقون نفاقاً أكبر، وجعل الرؤية لهم كاللقاء..

    والجواب: أن اللقاء غير الرؤية، فاللقاء يكون للمؤمنين والمنافقين والكافرين، ولكن الرؤية أمر آخر ولا سيما رؤية النعيم، وأما الرؤية التي تحصل في الموقف والتي يكون المنافقون مشاركون فيها فهذه رؤية الاختبار والامتحان، سيأتي إن شاء الله ذكرها.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يُكلم من شاء] فهذه الأحاديث تتضمن أصولاً عظيمة من أصول الصفات، منها الرؤية والكلام، والإتيان والعلو؛ لأنه كما مر أن الله تَعَالَى يكلم الأنبياء، ويكلم الصالحين، يقول: اذهبوا فأخرجوا من وجدتم فيه أثر السجود، فيعرفونهم بعلامة السجود، ويكون لهم علامة. يقول: هل لكم من علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن الساق، ففيه خطاب بين الله عزو جل وبين أهل المحشر، وفيه إثبات الرؤية والكلام، يكلم من شاء بما شاء، وفيه إثبات الإتيان، وأنه يأتي لفصل الموقف يَوْمَ القِيَامَةِ ((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّاً)) [الفجر:22] فإنه يأتي إِلَى المحشر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بكيفية لا نعلمها، وفيه إثبات العلو، وأنه فوق العالم كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17].
    1. كلام الله يكون بصوت خلافاً لتعليق الأرنؤوط

      قَالَ: [وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب]. لكن في طبعة الشيخ الأرنؤوط بعد أن ذكر الروايات قَالَ: ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أو في حديث صحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث الذي رواه البُخَارِيّ تعليقاً بصيغة التمريض. وليس بنا ضرورة إِلَى إثباته.
    2. الرد على من أنكر الصوت من كلام شيخ الإسلام

      لأن هذا الشرح قد يلتبس عَلَى بعض الناس، ولأن المسألة أهم من قضية أن إنسان أخطأ أو اجتهد أو علق تعليقاً خطأً، أحببت أن أنقل إليكم كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مجموع الفتاوى (6/513) ورده عَلَى هذا الزعم بنفسه، -وهو نفي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بصوت- قَالَ: (.. وليس في الأئمة والسلف من قَالَ: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي، إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقَالَ: "يا بني هَؤُلاءِ جهمية، إنما يدورون عَلَى التعطيل".
      ثُمَّ ذكر بعض الآثار المروية في ذلك؛ أي: ثُمَّ ذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه بعض الآثار، وهي موجودة في كتاب السنة لـعبد الله بن أحمد.
      ثُمَّ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ مصدراً آخر قَالَ: ذكر ذلك البُخَارِيّ في كتابه " خلق أفعال العباد " وذكر أيضاً أن البُخَارِيّ ترجم لذلك في الصحيح الذي أنكره ونفاه الشيخ الأرنؤوط، قَالَ: وليس من طوائف الْمُسْلِمِينَ من أنكر أن الله يتكلم إلا ابن كلاب ومن اتبعه، يعني من الأشعرية، فنخشى أن يكون الشيخ هنا قد اتبع ابن كلاب في هذه القضية.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ أيضاً: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف -أي: في نفيه- وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة،
      ثُمَّ استدل شَيْخ الإِسْلامِ بأدلة أخرى:
      أولاً: ما جَاءَ في القُرْآن من آيات مناداة الله تَعَالَى للمشركين " وناداهم، ويوم يناديهم، ويوم يحشرهم فيناديهم...وما أشبه ذلك كثير في القُرْآن "، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: إن المناداة تكون بصوت مسموع يسمعه المخاطب، وغير هذا لا يمكن أن يتصور، فالمناداة إنما هي بالصوت والكلام.
      الأمر الثاني: تكليم الله تَعَالَى لموسى، فإذا كَانَ النداء والكلام بدون صوت، فما الفرق بين كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام وبين وحيه إِلَى أي نبي من الأَنْبِيَاء عن طريق الإلهام، أن يلهمه الله في قلبه كما قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ))[الشورى:51].
      فهو أحد الحالتين: إما الوحي، أو من وراء حجاب، وأما إرسال الرَّسُول فهو وحي غير مباشر، وأما الوحي المباشر فيكون بالإلقاء أو الإلهام إِلَى الرَّسُول من دون سماع للصوت من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من وراء حجاب أي كلام وصوت من غير رؤية، فحصل لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه نودي بصوت من غير رؤية، فإذا قلنا: لم يسمع موسى صوتاً، فالأمر كله إذاً من القسم الأول وهو مجرد الوحي ولم يسمع شيئاً.
      وهذا مما يدل عَلَى بطلان هذا الكلام الذي تكلم به الشيخ الأرنؤوط غفر الله له.
      وأيضاً يقول شَيْخ الإِسْلامِ: "إن السلف -المفسرين من السلف- اتفقوا عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى بصوت، وأيضاً من الأدلة ما جَاءَ في قوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سـبأ:23] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبه سماع الصوت كأنه سلسلة عَلَى صفوان.

      يقول: فمن أراد الوقوف عَلَى الحقائق، وأراد اتباع الدليل الصحيح، ومعرفة ما يصف به ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يدل عَلَى ذلك وما لا يدل، فليواظب عَلَى سماع الأحاديث النبوية، فهو الدليل والمنهج الصحيح الهادي إِلَى الرشاد في معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي معرفة الحلال والحرام والأحكام والآداب والفضائل والسنة.
      ففيها إثبات هذه الأحاديث التي إثباتها وسماعها على الجهمية، بمنزلة الصواعق؛ لأن القوم قد أعموا أبصارهم ولا يريدون أن يسمعوا بأي حال من الأحوال ما يخالف ما استقرت عليه قلوبهم المريضة وعقولهم الضالة.
  3. أصول الدين لا تعلم إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وكيف تُعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله، وسنة رسوله؟ وكيف يُفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار} وفي رواية: {من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار}، وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: ((وَفَاكِهَةً وَأَبّاً))[عبس:31]. ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟
    وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله؛ بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة ؟ ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابراً لعقله أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة] إهـ

    الشرح:
    حديث: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار} حديث ضعيف لأن مدار سنده على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وهو ضعيف، والحديث الآخر أيضاً: { من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار } حديث ضعيف.
    وننبه إلى أن الشيخ ناصر الدين الألباني لما ذكر هذا قال: رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب، فاستدرك عليه الشيخ الأرنؤوط فقال: وقول الشيخ: ناصر الدين الألباني رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب وهم منه! فإن لفظ رواية جندب: {من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ} أخرجه الطبري، فرواية حديث جندب ليست فيها هذا النص وإنما هي {من قال بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ}.
    ولكن ضعف السند لا يعني بطلان المعنى،
    والمعنى الذي أراده المصنف رحمه الله صحيح ولا شك فيه، وهو أنه قال: [فكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسول صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟]
    فكون القرآن لا يجوز أن يفسر بالرأي ولا بالهوى حتى ولو أصاب من فسره بمجرد الرأي، هذا أصل صحيح وقاعدة صحيحة تدل عليها الآيات والأحاديث الأخرى غير هذا الحديث الذي في سنده من ضُعِّفَ.
    ومن ذلك أن نفهم أصل ذلك كله ونعلم أن القرآن هو كلام الله عز وجل، وأن تبيينه وإيضاحه وتفسيره بغير علم، وبالرأي والهوى؛ هو قول على الله عز وجل بغير علم، وحكم ذلك التحريم، قال الله عز وجل: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33] وهذه الآية ذكرت فيها المنكرات والكبائر بالتدرج، وأكبر شيء بعد الشرك هو القول على الله عز وجل بغير علم، كأن يأتي إنسان فيضع ديناً جديداً من عنده، ويقول: هذا هو دين الله، وهذا الذي نتعبد الله به هذا أكبر وأعظم من مجرد الإشراك بالله في العبادة.
    وكذلك ما ورد في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسئل صلى الله عليه وسلم في الأمر فلا يتكلم حتى ينزل عليه الوحي، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: ((وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)) [عبس:31] ما هو الأب؟
    فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!

    وهم أعلم الناس بالقرآن وأفصح العرب وأعلمهم بلغة العرب.

    فهؤلاء الذين يعلمون حق العلم ما قاله الله ورسوله، ويفسرونه قد اتفقوا على إثبات رؤيته -سبحانه وتعالى- وعلى إثبات صفات الله، كما مر عن ابن عباس، وعلي ابن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبي بكر، وحذيفة، وأبي موسى رضي الله عنهم وكلهم - ولله الحمد - فسروا الآيات ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [قّ:35] و((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] و((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [يونس:26].
    فسروا النظر وفسروا الزيادة بالرؤية الحقيقية، وكذلك في كل باب من أبواب العقيدة نجد إجماع السلف الصالح، فلا يجوز لنا أن نتقدم عليهم.
    وليس المقصود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشبيه المرئي بالمرئي، وإنما هو تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: رؤيتكم لربكم كرؤيتكم للقمر، ولم يقل: إن ربكم كالقمر أو كالشمس ((كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] وهي حقيقية مؤكدة قطعية ليس فيها شك ولا غيم ولا قتر ولا حجاب.
    وفيه دليل على علو الله على خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر والشمس، ومعلوم أنها في جهة العلو.
    والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا أمامه، وينكرون جميع الجهات -كما يسمونها- ويقولون: إنه يُرى لا في جهة!
    فنقول لهم كما قال المصنف: من قال: يُرى لا في جهة من غير إثبات الجهة، يعني: من غير إثبات العلو، فليراجع عقله! فإما أن يكون مكابراً لعقله، وإما أن يكون في عقله خلل.