المادة    
تعرض المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا بعد أن انتهى من الأقوال في حقيقة الميثاق إِلَى مسألة مهمة وهي مسألة توحيد الربوبية، وهل الربوبية أمر فطري أم غير فطري؟ وما رسمه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في العقول والفطر من معرفته عَزَّ وَجَلَّ والإقرار بربوبيته، وتعرض لمسألة التقليد ومسألة الجهل، في عدم معرفة الله - عَزَّ وَجَلَّ - بناءً عَلَى أحد هاتين العلتين:
العلة الأولى: الجهل وعدم المعرفة بالله.
العلة الأخرى: التقليد والمتابعة من غير علم ولا بصيرة.
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقطع هاتين العلتين كما قال تَعَالَى: ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] أي: أشهدناكم وأقررناكم عَلَى ذلك لكي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) فهذا يقطع العلة الأولى وهي علة الجهل.
والكلام الآن في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية خاصةً -تفصيلاته- لا يمكن أن تعلم إلا من طريق الرَّسُول، أي: كيف نعبد ربنا عَزَّ وَجَلَّ، وما هي أنواع العبادة، ولكن الإقرار بأن الله عَزَّ وَجَلَّ ربنا وخالقنا ورازقنا وأنه الذي يستحق العبادة وحده هذا مركوز في الفطر، ويعلمه كل بنى آدم علماً ضرورياً بالبداهة من غير تفكير ولا نظر.
فالعلة الأولى التي يعتذر بها المُشْرِكُونَ وأعداء الله تَعَالَى والجاحدون هي: أنهم لا يعرفون ربهم، أو قد يقَالَ: إننا لا نعرف ربنا قتقطعها هذه الجملة((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] فلا عذر لكم بالجهل فقد عُرِّفتم وعلمتم ربكم عَزَّ وَجَلَّ.
والعلة الأخرى: أن يقَالَ: إننا عرفنا ربنا ولم ننكر ولم نجحد، ولكننا وجدنا آبائنا عَلَى أمة، وإنا عَلَى آثارهم مقتدون، واتبعنا ما ألفينا عليه آباءنا، وأطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، إِلَى آخر ما يقوله أُولَئِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، هذا يقطعه ما ((أَنْ تَقُولُوا)) أي: لكي لا تقولوا أيضاً: ((إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] أي: نَحْنُ لم نؤمن بالشرك، وإنما أشرك آباؤنا فتبعناهم وكنا ذرية من بعدهم.
ولهذا قالوا ((أفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))[الأعراف:173] أُولَئِكَ المبطلون الذين أحدثوا وغيروا ونحن اتبعناهم، ولو تأملنا حال كفار قريش الذين بعث فيهم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدناهم من هذا النوع، فالذي غير دين العرب وملة العرب هو: عمرو بن لحي الخزاعي وحرفهم عن الحنفية ملة إبراهيم وملة أبيهم إسماعيل، عقيدة الفطرة والملة القويمة.
فانصرفوا عنها إِلَى عبادة الأصنام، كما ثبت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فإن قريشاً اتبعت عمرو بن لحي
فهل ينفعهم أن يقولوا: إننا كنا متبعين لآبائنا، لا ينفعهم ذلك لأن هذا عين ما قالوه للرَسُولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يقبل منهم هذا؛ بل جعل ذلك من موجبات غضبه عليهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة، ثُمَّ احتجوا عليه بما فعل المبطلون.
المقصود من هذا: أن نعلم أنه ليس لأحدٍِ أن يعتذر عن عدم معرفته بالله عَزَّ وَجَلَّ وعدم الإقرار بها، بأنه كَانَ جاهلاً بذلك. فإن الدليل الفطري مركوز في نفسه، أو يقول: إني تابعت الآباء والأجداد، أو أخضعتني التربية لذلك؛ لأن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قد قطع هذا العذر، ولو أن الإِنسَان فكر لعلم أن ما عليه الآباء والأجداد باطل.