المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم.
وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه.
ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟
بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف أتباعهم في العادات الدنيوية، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه على الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح، فإن كان آباؤه مهتدين، كيوسف الصديق مع آبائه، قال: ((وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب))[يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: ((نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق))[البقرة:133]، وإن كان الآباء مخالفين الرسل، كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا)) [العنكبوت:8] الآية .
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه، فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)) [البقرة:170] .
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار، لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك ؟ قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو والله الموفق، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل فإنه مركوز في الفطر وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب "والترائب": عظام الصدر، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين، في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا ] إهـ.

الشرح:
كما هو معلوم أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، وأن الشرك حادث طارئ، وهذا الكلام ينطبق على بني آدم جميعاً من جهتين:
الأولى: من جهة أصلهم ونشأتهم.
والثاني: من جهة كل فرد منهم.
فأما من جهة النوع والجنس الإنساني ككل فهو: أن الله سبحانه وتعالى فطرهم على التوحيد وظلوا كذلك فكان آدم عليه السلام نبياً رسولاً مكلماً وبقيت ذريته على التوحيد عشرة قرون كما قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)) [البقرة:213] فالناس كانوا أمة واحدة على التوحيد على القول الصحيح في الآية،
فكان بنو آدم عشرة قرون على التوحيد حتى وقع الشرك الأول في قوم نوح.
والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس منفوسة وخلق كل بشر على الفطرة الصحيحة كما قال صلى الله عليه وسلم:{ كل مولود يولد على الفطرة } وفي رواية أخرى: { يولد على الملة }، أي: على الإسلام وعلى التوحيد الخالص وعلى الإقرار لله سبحانه وتعالى بالربوبية والألوهية فكل مولود يولد على ذلك ولو ولد في بيئة يهود أو بيئة نصارى أو مجوس أو في أي مكان؛ فإنه يولد على ذلك، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب له مثلاً بالبهيمة التي تنتج بهيمة جمعاء ليس فيها خطوط ولا علامات ولا تغيير، وكما تولد البهائم سليمة من جميع جوانبها هكذا يولد الإنسان في جملته ليس فيه أي انتماء أو تميز أو علامة تصرفه عن الفطرة القويمة السليمة، ولكن الأبوين والبيئة والتربية هي التي تجعله يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، ولم يقل أو "يسلمانه"؛ لأن البقاء على فطرة الإسلام هو الأصل، كما أن البهيمة إذا ولدت تبقى بدون علامات هذا هو الأصل فيها، ولكن لو خطها أحد بعلامات تجعلها تبع لفلان أو لفلان لكان ذلك أمراً حادثاً وطارئاً عليها.
فيقول إذا احتجوا يوم القيامة بأن آباءنا أشركوا فجرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادات آباءهم في المطاعم والملابس والمساكن، فكذلك في ديننا كنا نعبد ما كان يعبد آباؤنا، لو أنهم قالوا ذلك يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، يقول: فإن شهادة المرء على نفسه هي: إقراره بالشيء وسيأتي توضيح هذا .
  1. الإقرار شهادة على النفس

    إن مجرد الإقرار هي الشهادة، وليس من شرط الإقرار أن يقول: أشهد عَلَى نفسي بكذا، وهذا حق، فلو أنَّ إنساناً أقر بشيء لقلنا: شهد عَلَى نفسه، وهذا كلام صحيح شرعاً ولغةً، فإن الإشهاد لا يشترط فيه أن يقول: أشهد عَلَى نفسي أن لفلان عندي كذا، فإذا أقر وقال: لفلان عندي كذا من المال، قلنا: فلان شهد عَلَى نفسه يعني: أقر عليها، فهو يقصد بذلك أن الإقرار لا يشترط أن يكون تلفظاً، وأن يكونوا استخرجوا استخراجاً حقيقياً، وأن يكونوا تلفظوا بذلك: ((قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا))[الأنعام:130] كما هو ظاهر في الآية التي دلت عليها الأحاديث، ولكن نقول: هذا لا ينافي ذلك، بل يؤيده فكونه إن قَالَ: أشهد عَلَى نفسي ((قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172]، هذا كله شهادة عَلَى نفسه، وإن لم يقلها فمجرد الإقرار هو شهادة عَلَى النفس، هذا حق.
    فيقال لهم: لماذا عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به عَلَى أنفسكم إِلَى الشرك؟
    بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إِلَى مالا يعلم له حقيقة تقليداً لمن لا حجه معه، بخلاف اتباعهم لآبائهم في العادات الدنيوية.
  2. قيام الحجة على اليهود والنصارى والمشركين

    أبناء اليهود والنَّصَارَى والمجوس وجميع الْمُشْرِكِينَ الذين أشركوا لا حجة لهم عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ، إلا أن يقولوا: إنا وجدنا آباءنا عَلَى أمة، ونحن عَلَى آثارهم مقتدون ومهتدون ومتبعون، فيقال لهم: لماذا عدلتم وتركتم الدين الذي غُرس في نفوسكم - بالفطرة والإيمان الصحيح واليقين بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد - إِلَى الإشراك؟
    وليس الأمر كحال أموركم الدنيوية، لأن الأمور الدنيوية لا يعلم فسادها بمجرد العقل، وإنما قد يتبع فيها الإِنسَان، ويجوز أن يتبع الإِنسَان آباءه أو بيئته في أمور الدنيا، ولا يكون لديه حجة عقلية تبين فساد ما هم عليه، وأما الدين فلا.

    يقول المصنف: [فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لابد له من كافل] وأحق النَّاس بكفالة الطفل أبواه، فتجعل الشريعة الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، فهو منهم، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نساء وذراري الْمُشْرِكِينَ أنهم منهم في الدنيا، أي: حسب الأحكام الظاهرة، أما لو مات فإن له حكماً آخر في الآخرة، وتفصيله هذا سيأتي فيما بعد.
    لكن المقصود هنا أن الإِنسَان لما كَانَ لابد له من مربي يربيه فإنه يسير عَلَى ما يربيه عليه أبواه، فإذا كَانَ الأبوان مشركين وربياه عَلَى الشرك، فليس له عذر ولا حجة يَوْمَ القِيَامَةِ؟ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه العقل والهداية والفطرة التي يعرف بها أن هذين الأبوين عَلَى الشرك بخلاف بقيه الأمور. كما قال المصنف: [ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه عَلَى دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه عَلَى الصحيح حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة] وهذا إشارة إِلَى الخلاف الموجود في المسألة.