المادة    
يقول المصنف رحمه الله تعالى:
[ وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، ومن ثم قال -قائلون- من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
ومعنى قوله: "شهدنا": أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا وهذا قول ابن عباس وأُبيّ بن كعب.
وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض.
وقيل: شهدنا من قول الملائكة والوقف على قوله: "بلى " وهذا قول مجاهد، والضحاك والسدي.
وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم والأول أظهر وما عداه احتمال لا دليل عليه وإنما يشهد ظاهر الآية للأول] إهـ.
.
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله: وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم] ولا يكفيان للاستدلال، لكن يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تعليقه على كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "إخراج الذرية من ظهر آدم، أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بـنعمان يعني: عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنشرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) أخرجه أحمد وابن جرير في التفسير وابن أبي عاصم في السنة، والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات كلهم من طريق الحسين بن محمد المروذي، ثنا جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
قلت: وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم فإن كلثوم بن جبر من رجاله وسائرهم من رجال الشيخين، وتابعه وهب بن جرير حدثنا أبي به، دون ذكر نعمان، وقال أيضاً: صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بـكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي أيضاً.
وأما ابن كثير فتعقبه بقوله في التفسير: "هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعه بن كلثوم بن جبر عن أبيه به.
وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم.
قلت: هو كما قال رحمه الله، ولكن ذلك لا يعني أن الحديث لا يصح مرفوعاً وذلك لأن الموقوف في حكم المرفوع لسببين:
الأول: أنه في تفسير القرآن، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ولذلك اشترط الحاكم في كتابه المستدرك أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة كما ذكر ذلك فيه.
الآخر: أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة، وهم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، وأبو أمامة وهشام بن حكيم، أو عبد الرحمن بن قتادة السلمي، على خلاف عنهما، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو الدرداء وأبو موسى، وهي وإن كان غالب أسانيدها فيها مقال فإن بعضها يقوي بعضاً، بل قال الشيخ صالح المقبلي في الأبحاث المسددة: ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك، ولا سيما وقد تلقى هذا -ما اتفقت عليه من إخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادهم على أنفسهم- السلف الصالح من الصحابة والتابعين دون اختلاف بينهم منهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب وسلمان الفارسي، ومحمد بن كعب والضحاك بن مزاحم والحسن البصري وقتادة وفاطمة بنت الحسين، وأبو جعفر الباقر وغيرهم .
وقد أخرج هذه الآثار الموقوفة وتلك الأحاديث المرفوعة الحافظ السيوطي في الدر المنثور وأخرج بعضها الشوكاني في فتح القدير ومن قبله الحافظ ابن كثير في تفسيره وخرجت أنا - أي: الألباني- حديث عمر في الضعيفة -وصححته لغيره في تخريج شرح الطحاوية- وحديث أبي هريرة في تخريج السنة لـابن أبي عاصم بتحقيقي، وصححته -أيضاً- هناك وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاً وقد سبق برقم (49)، وعن أنس برقم (172)، وهو متفق عليه، فهو أصحها ولا إشكال في صحته على الإطلاق.
{إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي!!}

إذا عرفت هذا فمن العجيب قول الحافظ ابن كثير عقب الأحاديث والآثار التي سبقت الإشارة إلى أنه أخرجها: فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم .
قلت: -أي الشيخ ناصر-: وليس الأمر كما نفى بل الإشهاد وارد في كثير من تلك الأحاديث الأول: حديث أنس هذا ففيه كما رأيت قول الله تعالى: {قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً}، قال الحافظ ابن حجر: في فتح الباري فيه إشارة إلى قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) [الأعراف:172].
قلت: ولفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير بالوقف إنما هو {أخذ من ظهره ..} فأي فرق بينه وبين لفظ حديث أنس الصحيح .
فالشيخ الألباني رحمه ينقد -كلام الحافظ ابن كثير- فنعرف بذلك أن كلام المصنف الذي هو منقول من كلام ابن كثير منتقد وأنه مرجوح.
والحافظ ابن كثير رحمه الله أعل حديث عبد الله بن عمرو وقال: إنه موقوف ولفظ حديث عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، قال أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى: قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة، إنا كنا عن هذا غافلين}، يقول الشيخ ناصر: فأي فرق فلفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير {أخذ من ظهره}

وفي حديث أنس في الصحيحين يقول: {قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً} فالحديثان في الحقيقة موردهما وموضوعهما واحد فحديث أنس لا شك في صحته وهو يؤيد ذلك الحديث الذي هو ضعيف أو موقوف .
الثاني: حديث عمر بلفظ: {ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ..}.
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان . ورواه كذلك الإمام مالك في الموطأ ومن هنا علق عليه الحافظ ابن عبد البر واحتج به لأن المالكية رحمهم الله يرون أن ما أخرجه مالك في الموطأ فهو صحيح .

[الثالث: حديث أبي هريرة الصحيح {مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة}] وهو فيه قصة آدم وداود وكيف أنه أخذ من عمر آدم أربعين سنة وأضيفت إلى عمر داود .
[الرابع: حديث هشام بن حكيم رضي الله تعالى عنه، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي عن أبيه عن هشام بن حكيم رحمهم الله: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله! أنبتدئ الأعمال أم قد قضى القضاء؟}
وهذا يوافق ما في الصحيحين من سؤال الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم {لما دخل على الجنازة بـبقيع الغرقد، وجلس فسألوه فقالوا: يا رسول الله أهذه الأعمال أفيما يستأنف أم في أمر قد قضي وفرغ منه؟}.
وهذا السؤال الذي يسأله كل إنسان عندما يفكر في القدر وفي علاقته بأحوال الناس، فالسؤال هذا يشهد له وعليه فإن ما ورد في الصحيحين وغيرهما مما لا شك في صحته قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار}.
وكما قال في الحديث الآخر، المتفق عليه: { اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ الآيات في سورة الليل((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) [الليل:5-10] }.
إذاً ليس في هذا الحديث أي إشكال، لأن ما ورد فيه تشهد له الأحاديث الصحيحة الثابتة .

[الخامس: حديث أبي أمامة: { لما خلق الله الخلق وقضي القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى}] وهذا أيضاً ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قال وروى جعفر بن الزبير "وهو ضعيف" عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لماخلق الله الخلق وقضى القضية -أي: قدر ذلك وقضاه- أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال: يا أصحاب اليمين، فقالوا: لبيك وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: يا أصحاب الشمال، قالوا: لبيك وسعديك، قال: ألست بربكم قالوا: بلى، ثم خلط بينهم فقال قائل له: يارب لم خلطت بينهم، قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم} والحديث يقول عنه الحافظ ابن كثير إن فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف، لكن ما مر من ألفاظٍ من الحديث تشهد لها الأحاديث الصحيحة ومنطوق الآيات، فهذا الحديث يصلح للاستشهاد، وبعض الأحاديث تشد بعضها بعضاً، ففي ذلك رد على قول ابن القيم أيضاً في كتابه الروح بعد أن سرد طائفة من الأحاديث المتقدمة، والله تعالى أعلم.