المادة كاملة    
في هذا الدرس عرض لمسألة رؤية أهل الجنة لربهم، ومن ثمّ ورد ذكر لمسألة التأويل وخطورته على الدين وأهله، كما وُضح من خلال عرض هذه المسألة أن معاني النظر تختلف بحسب ما يتعدى به الفعل، مع ذكر بعض الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وقد خُتم بردود على المعتزلة في نفي الرؤية.
  1. ثبوت رؤية أهل الجنة ربهم بغير إحاطة

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وقد ذكر الشيخ رَحِمَهُ اللهُ من الأدلة قوله تَعَالَى ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يُسميه تأويلاً: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنَّار والحساب أسهل من تأويلها عَلَى أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرِّفها عن مواضعها إلا وجد إِلَى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
    وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد؟‍! وكذا ما جرى في يوم الجمل وصِفِّين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!
    وإضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه، صريحٌ في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه. فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله:((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) [الحديد:13] وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: ((أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الأعراف:185] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأَبصار، كقوله تعالى: ((انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر))[الأنعام:99] فكيف إذا أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل البصر؟!
    وروى ابن مردويه بسنده إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ))[القيامة:22] قَالَ: من البهاء والحُسن ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) قال في وجه الله عَزَّ وَجَلَّ.
    عن الحسن قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنُضِّرت بنوره.
    وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) قَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عَزَّ وَجَلَّ.
    وقال عكرمة:((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)) قَالَ: من النعيم ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))، قَالَ: تنظر إِلَى ربها نظراً.
    ثُمَّ حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله.
    وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث] إهـ.

    الشرح:
    يثبت الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ- أن من اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن الرؤية حق لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الجنة، فأهل الجنة المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- يرون ربهم جل وعلا عياناً بالأبصار، كما جَاءَ في الحديث الصحيح،وهذا هو النعيم الأعلى والأعظم في الجنة، وهو أعظم نعيم يتنعم فيه أهل الجنة بل هو ألذ من جميع أنواع النعيم التي لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر عَلَى قلب بشر، ثُمَّ يقول: [بغير إحاطه ولا كيفية]، أي: أنه لا يستلزم من هذاالنظر الإحاطة.
    والذين نفوا الرؤية كـالمعتزلة وغيرهم قالوا: إن مما يدل عَلَى نفي الرؤية قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ))[الأنعام: 103] فما دام أن الأبصار لا تدركه؛ فهو لا يُرى وما علموا أن هناك فرقاً بين الرؤية والإدراك، فإن الإِنسَان قد يرى الشيء لكن لا يحيط به ولا يدرك حقيقته، والذي نفى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وقوعه هو الإحاطة به وإدراكه ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طه: 110] فإذا كَانَ العلم لا يحيط به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -ومجاله أرحب وأوسع من الرؤية- فكيف تحيط به الرؤية؟!
    قوله: [ولا كيفية] أي: لا نعلم الكيفية التي يرى بها المؤمنون ربهم جل وعلا، وكما قَالَ: [وتفسيره عَلَى ما أراد الله تَعَالَى وعلمه] يعني: تفسير الكيفية لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنحن نؤمن بالرؤية وأما كيفية وقوع هذه الرؤية فإن الذي يعلمها هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن لا نعلمها، وعماد استدلاله كَانَ بهذه الآية وبالأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى الرؤية فقَالَ: [كما نطق به كتاب ربنا: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23].

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: في شرح هذا الكلام: [وقد ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ من الأدلة قوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23]. وهي من أظهر الأدلة].
    ومن أوضح وأبين وأجلى الأدلة عَلَى رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولهذا فإن الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ- في صحيحه جعل هذه الآية هي عنوان الباب، ثُمَّ أورد بعد ذلك أحاديث كثيرة في إثبات رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن عدد من الصحابة الكرام: عن جرير بن عبد الله البجلي، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وأبي سعيد الخدري، وأورد أحاديث كثيرة في الحشر ويَوْمَ القِيَامَةِ، تثبت رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، منها الأحاديث التي ستأتي إن شاء الله تعالى.
    فالآية لوضوح دلالتها، ولوضوح معناها الذي لا يلتبس فيه عقل أحد كانت دليلاً عَلَى هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل من أصول عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لكن الجهمية والمعتزلة ومن اتبع مذهبهم أبوا إلا الانحراف.
  2. جناية التأويل الفاسد على الدين وأهله

     المرفق    
    استطرد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا في بيان خطر التأويل، هكذا يسميه أهل البدع وهو في الحقيقة تحريف، وقد سبق توضيح معاني التأويل.
    وقلنا: إذا كَانَ التأويل بمعنى التفسير فهذا هو المعروف في كلام العرب، كقولهم: هذه الآية تأويلها كذا، يعني: تفسيرها كذا، كما هو ملاحظ في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وأمثاله من كتب السلف، فإنهم يطلقون التأويل بمعنى التفسير، لكن التأويل المصطلح عليه عند المتأخرين: هو صرف دلالة اللفظ من المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح، وهذا في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، فالله تَعَالَى يقول:((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] قالوا: نؤولها فنقول: استولى! وهذا تحريف، حرفوا كلمة "استوى" التي قالها الله وفهمها الصحابة إِلَى "استولى"، وأمثال ذلك من التحريفات.
    ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أن تأويل هذه الآية مع وضوح دلالتها، فإن تأويل آيات المعاد والبعث والحشر وآيات الجنة والنَّار والجزاء أسهل؛ لأن هذه الآية واضحة كوضوح تلك الآيات، بل هذه الآية أوضح في بعض الجوانب، فالذي يؤول قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
    ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23]. ويحرفها عن معناها إِلَى معنى بعيد، لا يصعب عليه أن يؤول أيضاً كل الآيات التي تدل عَلَى البعث والنشور والحشر وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ بل حتى آيات الأحكام، كالصلوات الخمس: قالوا: هي عَلِيّ والحسن والحسين وفاطمة ومحسن!

    فإذا فتحنا باب التأويل في الأمور الواضحة الجلية، فإنه لن يبق هناك شيء لا يؤول من ديننا فيمسخ الدين والعياذ بالله، وهذا هو الذي فعله هَؤُلاءِ المؤولون؛ لأن التأويل كما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هو الذي أفسد الدنيا والدين.
    1. رد النصوص أو رفضها لا يخلو من أحد أمرين

      رد النصوص أو رفضها وعدم قبولها لا يخلوا من أحد أمرين في الغالب:
      إما رداً واضحاً مباشراً، وإنكاراً كلياً، كَانَ ينكر الإِنسَان ثبوتها، كما كذَّبَ بالقرآن من قبل، وأنكر أنه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا ردٌ واضحٌ مباشر، أو إنكار المعنى إنكاراً كلياً، هذا أحد الوجوه.
      الوجه الثاني: تأويلها وتحريفها، والاحتيال عليها، حتى تخرج عن المعنى الذي أراده الله ورسوله، إِلَى معنى آخر لم يرده الله ورسوله بهذا الخطاب، ولم يفهمه السلف الصالح.
      وكلاهما رد، والرد الواضح يجرؤ عليه الملحدون والكفار المجاهرون، أما التأويل فإنما يلجأ إليه المتأولون الذين يزعمون أنهم ينزهون وكما قال المنافقون من قبلهم! إن نريد إلا إحسانا وتوفيقا.
      وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ نثب ألفاظ النصوص كما هي؛ لكن ننفي دلالاتها وننفي معانيها! فما الفائدة من وجود الألفاظ إذاً؟! أتجعل هذه الألفاظ رسماً في المصحف بدون معاني حقيقية، وبدون المدلولات، التي من أجلها جَاءَ هذا الخطاب، ونزل عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تكلم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
      وبهذا التأويل هدمت الأديان التي من قبلنا، وهو الذي شتت هذه الأمة وفرقها.

      فإذا قلنا: إن التأويل سائغ وجائز، فإن المُصنِّف يقول: [فهل قُتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد]، وذلك لمَّا خرج عبد الله بن سبأ اليهودي ومن اتبعه، وعملوا في السراديب وفي الظلام عَلَى إذكاء نار الفتنة بين الْمُسْلِمِينَ، ولم يكونوا يقولون للناس: نَحْنُ نعادي الإسلام، ونكره الدين، ونريد أن نقتل الخلفاء! لا؛ بل ألبسوها بتأويل العدل، والمطالبة بالعدل، والمطالبة بسنة عُمَر؛ لأن عثمان -كما يزعمون- انحرف عن منهج عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فكانوا يقولون: نريد منهج عُمَر! نريد منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ونريد أن لا يتولى أقارب الخليفة الإمارة بل يتولى الْمُسْلِمُونَ الآخرون! إِلَى أخر ما تأولوا به حتى قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
      وكذلك في يوم الجمل ما خرجت الخوارج إلا بالتأويل، يقولون: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب:36] والضلال المبين هو الكفر، وعلى هذا فمن عصى الله بزناً أو خمرٍ أو سرقةٍ فإنه كافر، وتأولوا بقية الآيات والأحاديث مثل: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} وتركوا جميع الأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار.
      وكذلك الرافضة، أتوا إِلَى الآيات التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين فجعلوها في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل الآيات التي نزلت في عبد الله بن أُبيَّ بن سلول ومن معه، فجعلوها في أبي بكر الصديق صاحب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار ومن ماثله من الصحابة وهكذا.
      فتفرقت الأمة بناءً عَلَى هذا التأويل. فلو فتحنا المجال لِكُلِ إنسان بأن يؤول كما شاء في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ لَمَا بقي من ديننا شيء، فلا بد من إغلاق هذا الباب واتباع منهج السلف الصالح في فهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك فهم هذه الآية: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] التي أنزلها الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأها عَلَى أصحابه، وقرأها الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، وقرأها السلف جميعاً فما سمعنا أن أحداً أولها، أو أخرجها عن معناها، بل في الآية نفسها ما ينفي وما يقطع أي تأويل يؤوله الجهمية ومن اتبعهم فيها.

      والجهمية عندما أولوا هذه الآية: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) قالوا: إن "إلى" مفرد آلاء كما في قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:13] فـ"إلى" بمعنى النعمة، ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) يعني: منتظرة، تنتظر نعمة ربها، فمعنى الآية عندهم -على تأويلهم-: أن هذه الوجوه تنتظر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها! فانظروا إِلَى هذا التكلف والتلاعب بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ! ولذلك لما أخذ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يردون عليهم قالوا: أولاً: إضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله من القرائن الدالة عَلَى أن المقصود هو المعنى الحقيقي: وهو النظر. فالنظر أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل النظر، أي: أسند إليه، فهو الفاعل: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فهو نظر حقيقي حسي، ثُمَّ "إلى" حرف جر وليست كما زعموا بأنها مفرد "آلاء" وإذا تعدى النظر بإلى لم يكن في معنى الانتظار إنما أصبح بمعنى النظر، نظرت إِلَى كذا، يعني: رأيته بالعين الحسية المعروفة.
      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله].
      ولو أخذنا كلمة نظر في اللغة العربية واستعمالاتها لوجدنا أنها تختلف بحسب ما بعدها وبحسب تعديها بالحرف أو بغيره، وبما يأتي بعدها من الصفة فيقول المصنف: فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار :((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم)) [الحديد:13] فإذا قلت: انظر فمعناها توقف لي، وتمهل، وانتظرني، " وإن عدي بـ(في) فمعناه التفكر والاعتبار "، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:((أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الأعراف:185] أي: أولم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، وهذا في القُرْآن الكريم كثير ((أَفَلا يَنْظُرُونَ))[الغاشية:17]، أي: يتفكرون، فالنظر بمعنى التفكر وبمعنى الاعتبار.
      أما إن تعدى إِلَى مفعوله بـ"إلى" فهذا هو النظر الحسي الحقيقي بالعين والبصر، كما في قوله تعالى:((انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ))[الأنعام:99] فانظروا بمعنى: تأملوا وشاهدوا وطالعوا ذلك بالعين لتتأملوا ذلك وتعلموا دقيق صنع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعجيب خلق الله في هذه الثمار إذا أظهرها، وفي هذا الينع إذا أطلعه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إضافة إِلَى أن التعدي كَانَ بـ"إلى" في هذه الآية: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فقد أُسند الفعل إِلَى الوجوه، والوجه محل النظر، وهو محل العينين، فلم يعد هناك أي احتمال لأن يكون معنى النظر الانتظار أو التفكر أوالتوقف.

      وروى ابن مردويه بسنده إِلَى عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)) قَالَ: من البهاء والحُسن، وناضرة من النضارة ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) قَالَ: ناظرة في وجه الله عَزَّ وَجَلَّ، وسواء ثبت هذا مرفوعاً أو كَانَ من تفسير الصحابي فإنه -ولله الحمد- هو المعنى الذي لا يحتمل الكلام غيره، وعلى كلا الحالين فهو مقبول.
      وعن الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنظرت بنوره يعني: وجوه يومئذ ناضرة عليها البهاء، وعليها الحُسن وعليها النضارة، لأنها نظرت إِلَى ربها فنضرت، وطلع عليها البهاء والحسن والجمال بنوره تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هكذا فسرها هذا التابعي الجليل.
      وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أيضاً أنه فسر: ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فقَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عَزَّ وَجَلَّ، وقال عكرمة تلميذ ابن عباس ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)) قَالَ: ناضرة من النعيم، أي: متنعمة((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) قَالَ: تنظر إِلَى الله نظراً، يعني: تراه رؤية حقيقية، ثُمَّ حُكي عن ابن عباس مثله.
      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى: [وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث] فنقول لأهل البدع الذين أولوا هذه الآية: ائتونا بواحد من علماء السلف صح عنه أنه قال في هذه الآية: إنها ليست في الرؤية الحقيقية، بل هي في الانتظار أو بأي معنى من المعاني التي تبتدعونها! وإنهم لن يستطيعوا ذلك، ونحن يسعنا في كل أمر من الأمور ما وسع السلف الصالح والقرون المفضلة، فنقف حيث وقفوا، ونفسر كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ كما فسروا،
      ثُمَّ انتقل المُصنِّف إِلَى دليل آخر من الأدلة عَلَى إثبات رؤية الله.
  3. من أدلة رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وقال تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ))[ق:35]، قال: الطبري: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
    وقال تعالى: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ))[يونس:26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [يونس:26 ] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة} ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.
    وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم.
    وقال تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا] إهـ.

    الشرح:
    هنا دليلان:
    الدليل الأول: الزيادة.
    والدليل الثاني: حجب الكفار عن الله تبارك وتعالى مما يدل على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا.
    وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنس بن مالك، وأبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس -وهؤلاء أعلم الصحابة بالتفسير وبغيره من العلوم- كل هؤلاء فسروا المزيد بأنها رؤية الله تبارك وتعالى قال تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [قّ:35]، وقال سبحانه: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)).
    فإذا كانت الحسنى هي الجنة، وإذا كان لأهل الجنة ما يشاؤون من النعيم -كما هو متفق عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة وغيرهم- وفيها ما يشاء الإنسان مما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين من أصناف النعيم وأنواع الملذات، وهي الحسنى التي وعد الله تبارك وتعالى بها عباده الصالحين، فما هي الزيادة على الجنة؟ والجنة نعيمها لا ينفذ ولا ينقطع وإنما هو متجدد دائم متصل.
    فَسَّرَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح الذي رواه صهيب رضي الله تعالى عنه قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) وقال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟}
    لأنهم يرون أنهم قد زحزحوا عن النار((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)) [آل عمران:185] .
    فالفوز الذي كانوا دائماً يحلمون به والأمنية العظمى التي كانت تراود أنفسهم وقلوبهم قد تحققت، فما أن اجتازوا وعبروا الصراط وأنجاهم الله تبارك وتعالى من الكلاليب التي مثل شوك السعدان والتي تخطف الناس وتهوى بهم إلى النار، فلما جاوزوا ذلك إلى الجنة، وجدوا فيها مالا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فعند ذلك تعجبوا، وماذا بقي بعد هذه الجنة ؟! وماذا بقي من موعد وعدنا الله تبارك وتعالى به ولم يحققه لنا تبارك وتعالى؟!
    {فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟} يعمل المؤمن الحسنة فيجعلها الله تبارك وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ويفعل الفعل من أفعال الخير ويأتي يوم القيامة وإذا به مثل الجبال ويجعله الله تعالى في الميزان عظيماً ثقيلاً وهو من فضله تبارك وتعالى.
    {ألم يبيض وجوهنا؟} يوم تبيض وجوه أهل الإيمان والسنة وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والبدعة هكذا يسألون ربهم عز وجل.
    {فيكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجهه الكريم فينظرون إليه } ثم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: {فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه } كل ذلك النعيم الذي رأوه من الحور العين ومن الولدان ومن النعيم الذي لا ينقطع، والأنهار التي من العسل واللبن ومن ماء غير آسن ومن الخمر وكل ما في الجنة من نعيم ولذة وبهجة، كل ذلك لا يساوي لذة النظر إلى وجه الله الكريم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يمتعون بذلك إنه سميع مجيب.
    قال: {فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم} وقرة عين المؤمنين في الدنيا هي في معرفة ربهم سبحانه وتعالى من صفاته ونعوت جلاله، واتباع دينه وعبادته، ومناجاته والتضرع إليه والعمل لوجهه الكريم، هذه قرة أعينهم في الدنيا، وقرة أعينهم يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وهذه أعظم نعمة. والإنسان في هذه الحياة الدنيا ينعم ويرتاح ويسعد بقدر ما يكون إيمانه ومناجاته لله سبحانه وتعالى، وقوة صلته بالله جل شأنه، وقوة يقينه بالله ومعرفته لنعوت جلاله وصفات كماله سبحانه وتعالى، فهذه غاية السعادة وغاية الطمأنينة والراحة في هذه الحياة الدنيا.
    يقول الإمام ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى أجمعين: (إني لأكون في حال، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي نعيم)، ما هي هذه الحال ؟ إنها حال تلذذ القلب بذكر الله سبحانه وتعالى والأنس به، ومناجاته والتضرع إليه سبحانه وتعالى، وقرة عينه في الآخرة التي هي قرة العين العظمى والغاية الكبرى ليست في نعيم الجنة: من الحور والولدان والمتاع والفاكهة واللحم، وإنما تكون قرة العين العظمى والكبرى والنعيم الأعظم واللذة التي لا يعدلها لذة، هي رؤية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي تقر به العين ورؤيته تعدل جميع أصناف وجميع أنواع النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم في الجنة.

    فذكر بعد ذلك المصنف رحمه الله أن هذه الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجهه الكريم، وهذه الطريق جاءت مرفوعة صحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت جاءت عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بالإضافة إلى أن علي بن أبي طالب وأنس بن مالك فسروا قول الله تعالى ((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) بأنها رؤية الله سبحانه وتعالى. فالآية من كتاب الله واضحة جلية، فلم يبق بعد ذلك مجال لمؤول ولا لمنكر وهذا الدليل الثاني.
    والدليل الثالث على رؤية الله تبارك وتعالى هي قوله جل شأنه في حق الكفار: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) [المطففين:15] وهذه الآية احتج الشافعي رحمه الله بها على الرؤية كما ذكر ذلك المصنف فقال الشافعي: (لما حجب هؤلاء بالسخط -أي: عن رؤيته- كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا) فمقتضى رضاه أن يراه أولياؤه وأحباؤه المؤمنون كما كان من مقتضى سخطه وغضبه على الكافرين أن يمنعهم عن رؤية وجهه الكريم.
    ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35-36] هل المسلمون والمجرمون سواء في الحجب عن رؤية الله سبحانه وتعالى؟
    وفي كلام الشافعي والإمام مالك: دليل وتصريح بأن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا يوم القيامة، وهذا من الأدلة التي تبطل دعاوى المؤولين والمحرفين. ثم ذكر المصنف مناقشة المعتزلة وما استدل به المعتزلة والجهمية المنكرون لرؤية، وكما قلنا: لا بد لهم من تأويلات ولا بد لهم من شبهات.
    فمن ذلك أنهم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى:
    ((قَالَ لَنْ تَرَانِي))وبقوله: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ))[الأنعام: 103] وقد أطال المصنف -رحمه الله تعالى- هنا في إبطال استدلالهم بآية الأعراف وهي قوله تعالى: ((لَنْ تَرَانِي)) .
  4. الرد على المعتزلة في نفي الرؤية

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: ((قَالَ لَنْ تَرَانِي)) [الأعراف:143] وبقوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصار))[الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم:
    أما الآية الأولى: فالاستدلال منها عَلَى ثبوت رؤيته من وجوه:
    أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم النَّاس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال.
    الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عَلَيْهِ السَّلام ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله، وقَالَ: ((إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[هود:46]
    الثالث: أنه تَعَالَى قَالَ: ((لَنْ تَرَانِي)) ولم يقل: إني لا أُرى، أو لا تجوز رؤيتي أو لستُ بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كَانَ في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فَقَالَ أطعمنيه، فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل، أما إذا كَانَ طعاماً صح أن يقَالَ: إنك لن تأكله، وهذا يدل عَلَى أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عَلَيْهِ السَّلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه:
    الوجه الرابع: وهو قوله: ((وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) [الأعراف:143] فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خُلق من ضعف؟!
    الخامس: أن الله سبحانه قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
    السادس: قوله تعالى:((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا))[الأعراف:143] فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله تَعَالَى أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
    السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأبيد النفي بـ(لن) وأن ذلك يدل عَلَى نفي الرؤية في الآخرة: ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل عَلَى دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت؟
    قال تعالى: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً)) [البقرة:95] مع قوله: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) [الزخرف:77] ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جَاءَ ذلك، قال تعالى: ((فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي))[يوسف:80] فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، قَالَ: الشيخ جمال الدين ابن مالك، رَحِمَهُ اللهُ:
    ومن رأى النفي بلن مؤبدا            فقوله اردد وسواه فاعضدا] إهـ.

    الشرح:
    إن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مثله في ذلك مثل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الآخرين، فقد قلبوا ما جَاءَ به الجهمية دليلاً للنفي عليهم وأثبتوا أنه دليل للإمكان وللإثبات، وأعظم ذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام: ((قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) [الأعراف:143] وهذه الآية أخذ المعتزلة منها ((لَنْ تَرَانِي)) فقط وَقَالُوا: إن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محال فلا يمكن أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن "لن" لفظة للتأبيد إِلَى الأبد، يعني: لو قلت في شيء "لن " فمعناه إِلَى الأبد ولا يمكن أن يقع، فإذاً ((لَنْ تَرَانِي)) جَاءَ فيها النفي بلن مؤبداً فلا يمكن أن تقع الرؤية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا إفكهم وتأويلهم.
    فبين المصنف: أن الآية دليل عليهم، يعني: دليل عَلَى إثبات الرؤية من عدة وجوه، ذكر سبعة أوجه نأخذها واحداً واحداً، إن شاء الله.
    الأول: أنكم إذا قلتم إن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محال كما هو مذهبكم، فيُقَالُ: هل يظن بنبي الله وكليم الله وأعلم الخلق بالله في زمانه وهو موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يسأل أمراً محالاً في حق الله عَزَّ وَجَلَّ. فسؤال موسى عَلَيْهِ السَّلام دليل عَلَى الإمكان، والأنبياء هم أعلم النَّاس وأعرفهم بصفات ربهم عَزَّ وَجَلَّ، أرسلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليعلموا النَّاس صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما ينبغي له وما لا يجوز أن يطلق عليه وما لا يجوز أن يقال في حقه، فإذا جَاءَ النبي وسأل ربه ذلك، فهذا في ذاته دليل عَلَى أنه ليس بمحال، ومنكرو الرؤية لا يجعلونه ممكن، بل يجعلونه محال استحالة مطلقة، فكأنهم أعرف بالله عَزَّ وَجَلَّ وبما يليق به وما لا يليق من نبيه موسى عَلَيْهِ السَّلام!!.
    الثاني: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينكر عَلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام سؤال الرؤية، بينما نجد أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينكر ولو عَلَى الأَنْبِيَاء إذا سألوه وطلبوه أمراً محالاً، لا نقول: إحالة كلية لأن المحال بالمرة لا يسأله الأنبياء، ولكن إذا سألوا أمراً يظنون أنه ممكن وهو مما لم يشأ الله عَزَّ وَجَلَّ أن يفعله، كما سأل نوح عَلَيْهِ السَّلام ربه نجاة ابنه ((فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)) [هود:45] يستعطف ويسترحم ويسأل ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينجي ابنه، فرد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بقوله:((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) [هود:46] فسؤال الله عَزَّ وَجَلَّ أمراً قد قطع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه لا يتحقق هذا مما يفعله الجاهلون، ولهذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلام:((إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) فهو ليس من الجاهلين عَلَيْهِ السَّلام، ولكن الرحمة والشفقة الفطرية جعلته يدخل الابن في عموم من ينجو من الأهل ((فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَق)) ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن الابن خارج عن الوعد وليس داخل فيه، ووعظ نبيه نوحاً أن يسأله مثل ذلك، فلو كَانَ سؤال نبي الله تَعَالَى موسى الكليم من هذا القبيل لقال له أيضاً، لا تفعل ذلك ولا تسألني مثل هذا ولا تطلب مني شيئاً من هذا، وهذا لم يقع ولم يحصل في سؤال الكليم موسى عَلَيْهِ السَّلام.

    الثالث:أنه تَعَالَى قَالَ: ((لَنْ تَرَانِي)) ولم يقل: إنني لا أُرى، أو إنني لا تجوز رؤيتي، أو إنني لست بمرئي، ففرق بين هذا وبين قوله: ((لَنْ تَرَانِي)) فهو مجرد نفي لوقوع الفعل، ليس نفياً لإمكان الوقوع مطلقاً.
    ثُمَّ ضرب المُصنِّفُ مثالاً شاهداً لذلك: أنه من كَانَ في كمه حجر فَقَالَ له إنسان أطعمنيه، فالجواب الصحيح أن يقول: إنه لا يؤكل، وليس الصحيح أن يقول له: إنك لن تأكله، فالحجر لا يمكن أن يؤكل أصلاً، حتى يبين للطالب أو للسائل أن هذا محال نهائياً، لكن لو كَانَ في كمه طعاماً، وقال له إنسان: أعطني، فقَالَ: لن تأكل منه، فبهذا نعرف أنه طعام لكن لن يعطيه إياه، فمن الممكن أن يعطيه غداً، ويمكن أن يعطيه بعد غدٍ أو يمكن أن يعطى غيره، لأن هناك فرقاً بين نفي الفعل ونفي الإمكان بشكل مطلق وعام.
    وهنا حكمة عظيمة وهي أن موسى عَلَيْهِ السَّلام في هذه الدار لا تستطيع قواه ومداركه أن ترى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك جَاءَ التعليق بالرؤية للجبل المخلوق العظيم القوي، الذي يراه الإِنسَان فيعجب من قوته ويعجب من صلابته، بالنسبة إِلَى هذا الضعف المشاهد في المخلوق المسكين الضعيف.
    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال:
    ((وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) فعلق الرؤية بشيء ممكن وهو استقرار الجبل، وقوة الجبل أقوى من قوة موسى عَلَيْهِ السَّلام في التحمل، فلما علق الرؤية بذلك كَانَ دليلاً واضحاً عَلَى أن عدم إمكان رؤية موسى عَلَيْهِ السَّلام لربه جل وعلا، هو بسبب ضعفه في هذه الحياة الدنيا، فقواه تضعف عن احتمال رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقول المصنف: فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف فهو لا يثبت لتجلي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يتحمل ذلك، فإذا كَانَ الجبل أصبح دكاً فإن الإِنسَان البشر يسحق أعظم من ذلك بمجرد أن يتجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وهذا هو الوجه الرابع.

    الخامس: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية فالله تَعَالَى قادر عليه وليس بمحال أن يجعل الجبل مستقراً يعني: في تلك اللحظة لما قال الله عَزَّ وَجَلَّ لموسى: ((لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) وبهذا يكون هناك بقية الأمل عند موسى عَلَيْهِ السَّلام، فلو استقر الجبل -وهذا ممكن- فسيرى ربه، فهناك نوع من الأمل ممكن أن يتحقق، وليس هناك نفي للوقوع مطلقاً فتعليقه بأمر ممكن غير تعليقه بأمر محال عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، كما لو قَالَ: إن استقر الجبل فسوف آكل أو فسوف أنام أو أشرب أو غير ذلك مما تنزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه، [والكل عندهم سواء] فكونه عندهم يُرى مثل كونه: يأكل أو ينام أو يسهو أو يغفل تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    السادس: قوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً)) فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تجلى للجبل، فلما تجلى للجبل وهو مخلوق جماد لا ثواب له ولا عقاب عليه، فتجليه سبحانه لأوليائه ولأهل كرامته ولأحبائه وعباده الصالحين أمر ممكن ولا يجوز ولا يصلح بأي حال من الأحوال أن نجعله من قبيل المحال.
    السابع: أن الله تَعَالَى كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز في حقه التكليم جاز في حقه الرؤية؛ لأن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى وخطابه له أمر عظيم فإذا جاز ذلك فلا يمتنع أن يكشف الحجاب فيراه، ولتلازمهما نفت المعتزلة والجهمية الكلام والرؤية معاً.