المادة    
  1. علاقة الميثاق بالروح

    هذه المسألة تترتب عليها مسألة هل الأرواح مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟
    فذهب بعض النَّاس إِلَى أن الأرواح في جميع بني آدم خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القدم، فبعد أن خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام خلق أرواح ذريته جميعاً، فإذا أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن يخلقَ واحداً بعينه، يُحضرُ الملك الموكل بالأرواحِ، فينفخ تلك الروح فيه بينما هي مخلوقة من قبل وذهب إِلَى هذا القول بعض العلماء.
    وقال بعضهم: لا يشترط أن تكون الروح بذاتها مخلوقة موجودة مستقلة قبل أن تخلق الأجساد، ولكنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي هو عَلَى كل شيء قدير استخرجها ثُمَّ أعادها، فهي كما شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في عالم الغيب إِلَى أن يشاء أن يخلق من شاء، فحينئذ يخلق روحه وما ذلك عَلَى الله بعزيز.

  2. علاقة الميثاق بالقدر وبمراتبه

    العلاقة الأخرى لموضوع الميثاق هي علاقته بموضوع القدر وهو من أجل وأهم الموضوعات، لأنه ركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلاّ به "ولو أنفق الإِنسَان مثل أحد ذهباً ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر" كما صرح بذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الرجل لا يؤمن ولا يتقبل منه صلاة ولا صيام ولا حج ولا عمل إلاّ إذا آمن بالقدر.
    ومعنى أننا نؤمن بالقدر أن نؤمن بمراتبه الأربع، ونضع الميثاق في مرتبة الكتابة، ونختصر المراتب الأربع إِلَى مرتبتين هما: (العلم، والكتابة) وكل المراتب الأربع مترابطة، أي: كل ما خلقه فهو يشاؤه، وكل مايشاؤه، فهو أيضاً كتبه وكل ما كتبه فهو علمه.
    ولقد قسم العلماء مرتبة الكتابة إِلَى خمسةِ أنواعٍ:
    النوع الأولى: هي ماكتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهي الكتابة الكونية، وسميت كونية: لأن الله كتب كل ما يقع في هذا الكون.
    النوع الثاني: الكتابة النوعية: أي ما يتعلق منها بنوع الإِنسَان خاصة، وهذه هي التي كتبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذرية آدم، حينما كتب أن هَؤُلاءِ في النَّار، وأخذ قبضةً بشمالهِ وقَالَ: هَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، وأخذ قبضةً بيمنيه، وقَالَ: هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، والميثاق يتعلق بها، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استنطق تلك الأرواح، ولكن تلك الأرواح كانت عَلَى نوعين:
    نوع منها: كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له السعادة أزلاً، فهذا النوع مكتوب له أنه من أهل الجنة.
    والنوع الآخر: من كَانَ من أهل الشقاوة، وهذا قد ورد ما يؤيده في حديث الإسراء لما عرج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد أبانا آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر ذات اليمين ضحك، وإذا نظر ذات الشمال بكى، فلما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل ما هذا يا جبريل قَالَ: هذا آدم إذا نظر إلي اليمين رأي أهل الجنة من ذريته فيضحك، وإذا نظر إِلَى اليسار رأى أهل النَّار من ذريته فيبكي، إذاً فالأمر قد كتب وَقُدِرَ عَلَى النَّوعِ الإِنسَاني، أنهم فريق في الجنة، وفريق في السعير.
    النوع الثالث: الكتابة العُمْرية أو الفردية: التي تتعلق بالعمر ومقداره، وقد دل عليها حديث عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد} فكل إنسان له كتابة خاصة، الكون له كتابة عامة، والجنس الإِنسَاني له كتابة عامة.
    النوع الرابع: الكتابة السنوية أو الحولية وهي: ما يقدره اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كلِ سنةٍ، وتكون هذه الكتابة في ليلة القدر إِلَى مثلها في العام القادم.
    النوع الخامس: التقدير اليومي، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يقضي ويحكم ويكتب ما يشاء كما قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] وكل حادث يحدث لك في كل لحظة أو في كل يوم فهو أيضاً بقدر وبتدبير وبتصريف منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا شريك له في ذلك كله.

    وبهذا التفصيل كله نفهم أن هذه الكتابة التي هي مرتبة من مراتب القدر تتعلق بالأنواع الخمسة كلها.
  3. المؤمنين بالقدر والجاحدين له

    يمكن أن ندرك غاية الفرق بين المؤمنين بالقدر، وبين الكفار المنكرين له، وذلك بأن نتصور كيف تكون حياتنا ومشاعرنا وإحساسنا إذا أدركنا هذه الحقيقة؟ وهي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كَتَبَ كل هذا الذي سبق، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعلمُ كُلَّ شَيءٍ.
    فلو أنك تستشعر هذه الحقيقة دائماً وتتفكر فيها، وتقارن نفسك بأولئك الكفار في الصين أو الهند أو أمريكا أو في أي مكان من الذين لا يدرون لماذا جاءوا؟ وإلى أين يذهبون؟ ولماذا تقدر عليهم هذه الأقدار؟
    ((أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ))[الأعراف:179] فهم يعيشون في ظلام دامس، لو عرفنا ذلك لاشتد خوفنا من الله ولاجتهدنا في طاعته، فهل يمكن لأي عقل مهما كَانَ أن يتصور مراتب القدر الأربع وأن يتصور مراتب الكتابة الخمس، وأن يتفكر كيف يدبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون، فهذا شيء لا يمكن عَلَى الإطلاق أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، والوحي قد جاءنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بفضله ومنه وكرمه قال تعالى:((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر:32] فهو اختيار من الله، ثُمَّ تأتي الأمة المصطفاة المختارة فتتبع الأمة الضالة الضائعة الذين حكى الله حالهم أنهم ((يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ))[محمد:12].
    فالكافر مثل قطعة الخشب المنقطعة -التي لها مدة مقطوعة- لا تشعر أن لها صلة بماضٍ ولا بمستقبل، وأما المؤمن فهو كالغصنِ المُزهرِ الرطب ((كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:24] تمتد في أعماق الدنيا، فنحن الآن بإيماننا بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإيماننا بأقدار الله، وما كَانَ منها وما سيكون، نشعر بأننا مرتبطون بآدم عَلَيْهِ السَّلام، أو بأبينا الثاني نوح عَلَيْهِ السَّلام وبدعوته فحينما نقرأ دعوته ومعاناته مع قومه، نشعر كأننا نعيش معه، وعندما نقرأ عن إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس، ونحن من أبنائه بالذات العرب، والذي أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نتبعه ومن معه، وأن نكون عَلَى ملته ونتبرأ من الْمُشْرِكِينَ، كما تبرأ أي نبي من الأنبياء.
    وإذا قرأ الواحد منا قصة الشاب الذي يكفر بالدجال ويقاومه فيقتله الدجال ويشقه بالسيف، ثُمَّ يحييه، ثُمَّ يقول: أرأيت أنني ربك؟ فَيَقُولُ: والله ما أزددت بك إلاّ كفراً، إذا عرفت ذلك تشعر بأنك مُرتبط بهَؤُلاءِ، ومُرتبط بهَؤُلاءِ وهذه الرابطة هي رابطة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي يجب علينا أن نتمسك بها وأن نحمد الله تَعَالَى الذي وفقنا لها،
    لكن الذي لا يؤمن بذلك، لا يشعر بهذه الرابطة عَلَى الإطلاق، ولهذا تجدون مجتمعاتهم مقطعة الأوصال، الابن لا يعرف أباه، والأب لا يعرف ابنه، والزوجة لا تعرف زوجها، أمة ضائعة تائهة، تعيش كما تعيش أحقر البهائم في الغابة، اللهم إلا أن تلك البهائم لا عقل لها ولا حساب عليها إلا القصاص الذي يقتص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لبعضها من بعض، أما أُولَئِكَ القوم فإن لديهم العقول ولكن لا يفقهون بها، وعندهم الآذان ولكن لا يسمعون بها، وعندهم الأعين ولكن لا يبصرون بها.
    وكذلك أصحاب الغفلة من المؤمنين متى يفيقون؟ إذا رأو ملائكة الموت حينئذٍ يقولون: ((رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99، 100] لا ينفع هذا الآن لأنه انتهى وقته.
    أين القلب والسمع والبصر والجوارح والعبر والعظات، والآيات المقروءة والآيات الناطقة المشاهدة في الكون؟
    يقول ميمون بن مهران رَحِمَهُ اللَّهُ وهو سيد التابعين - في بلاد العراق-: (كَانَ أبي شيخاً كبيراً وكنا بـالبصرة نذهب، فنستمع إِلَى موعظة الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ -وكان مشهوراً بمواعظه البليغة المؤثرة- فَقَالَ أين ميمون- وكان ضريراً -؟ يا ميمون! خذ بيدي نذهب إلى الحسن البصري نسمع منه موعظة يقول: ففرحتُ لعلي أسمع موعظة الحسن قَالَ: فذهبت بأبي وفي الطريق قابلنا جدول صغير، فلم أستطع أن أعبر بأبي -لأن أباه كَانَ أعمى- فلم أجد إلاّ أن انبطحت وعبر من فوق ظهري، ولا أستطيع أن أحمله -فمد جسمه كالجسر وعبر أبوه من فوق ظهره- ثم أخذ بيده ودخلا عَلَى الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ فقَالَ: أبوه، يا أبا سعيد جئناك لتعظنا -انظر إِلَى الذين يبحثون عن طب القلوب، يذهب إليه، ويقول له: عظني ذكّرني- فجلس الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ وقَالَ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء:204-207] ثُمَّ أخذ الشيخ في البكاء فبكى الحسن، يقول ميمون: فبكيا بكاءً شديداً وأنا أعجب، قَالَ: ثُمَّ أخذت أبي، فلما خرجُت قلت لأبي: أهذه موعظة يا أبتاه، إني ظننت أنه سيقول شيئاً من كلامه، قَالَ: يا بني قد قرأ آية لو قرأت عَلَى الجبال لتفطرت أو لتزلزلت.
    نعم هذا القُرْآن أعظم موعظة، ولكن الغفلة تعرض لقلوب النَّاس والقرآن يذهبها، والشاهد هو الآيات التي ذكرها الله سبحانه تَعَالَى بعد ذلك ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99، 100].
    علاقة هذه بما قبلها: أن الإِنسَان في حال النعيم يستعجل العذاب ((أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) ماذا سيغني ذلك المتاع حين تأتي ملائكة الموت لقبض روحك، فحينها تكون الحسرة والندامة ((رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) يتوسل ويترجى ((كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[المؤمنون:100] فإذا حضر الموت وعاين الملائكة أخذ يتمنى الرجوع، ولكن لا وقت لذلك، فلا ينفع الاستعتاب ولا الرجاء ولا الاستيقاظ، وإنما الآيات تتلى وتشاهد في كل وقت وفي كل حين لنؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق الإيمان قبل أن تدركنا تلك الحالة.

    فالشاهد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ألهمنا وفطرنا عَلَى التوحيد والإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد أخذ منا العهد والميثاق عَلَى أن نعبده وحده لا شريك له، وأشهدنا عَلَى أنفسنا أنه هو وحده ربنا ولا رب لنا سواه، وموجب ذلك ومقتضاه: أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأن لا نغفل عن طاعته ولا نعتذر بأي عذر أو علة فنقول: ((إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] ولن يحاسبنا يَوْمَ القِيَامَةِ على الميثاق، وإنما عَلَى إجابةِ الرسل ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:6] يسألنا ويقول: ((مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] وهذه نعمة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه لا يحاسبنا عَلَى الميثاق وحده، وإنما يحاسبنا عَلَى ما جاءنا من الرسل، وكذلك السؤال في القبر { ماذا كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟}.
    فبعد دليل الفطرة المجمل، جَاءَ دليل النبوة مفصلاً كاملاً واضحاً ناصعاً يبين لنا الطريق، فلا عذر ولا حجة لأحد، ولا أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، فما بقي لمن بلغه هذا الدين وهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سمع به إلا الإيمان والاتباع قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار} لأن الفطرة موجودة في قلوب النَّاس، وسمعوا بالنبي الذي بعث بهذه الملة.