أما أهل الكلام فيقولون: الواجب عَلَى الإِنسَان أن ينظر في هذا الكون ويتفكر فيه.
وقال بعضهم: إذا الإنسان لم ينظر، فكيف نلزمه أن ينظر، قالوا: إذاً نجعل أول واجب عَلَى الإِنسَان القصد إِلَى النظر.
وقال بعض المعتزلة-: نفس القصد هو النظر فكيف نوجبه عليه؟
وقال أبو هاشم الجبائي -وهو من أئمة المعتزلة-: وأفضل شيءٍ أن نقول: إن أول واجبٍ عَلَى الإِنسَانِ هو الشكُّ، لأنه بعد أن يشك يحتاج إِلَى أن ينظر، فإذا قصد إِلَى النظر نظر، فإذا نظر آمن، فيكون قد أتى بالثلاثة كلها، وبعد ذلك يؤمن أن هذا الكون متغير، وكل متغير حادث، وكل حادث لا بد له من محدِث إذن له رب خلقه.
كل هذا الكلام الطويل، وهذه الفلسفة التي ما أنزل الله بها من سلطان مؤدّاها ونهايتها لكي يقول: (إن لهذا الكون رباً وإلهاً) سُبْحانَ اللَّه!وهل وجدت أمة تنكر أن هذا الكون ليس له خالق؟
حتى الْمُشْرِكِينَ كانوا يقولون: إنَّ اللهَ هُوَ الخالقُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما بعثَ الرسل ليقولوا للناسِ: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:59] وهم يقولون: نَحْنُ نعبد الله، ولكن نعبد معه غيره، ونتقرب إِلَى الله بعبادة الصالحين.
وأما الذين أعلنوا الإلحاد الصريح كـفرعون حيث قَالَ: " أنا ربكم الأعلى" وَكَمَا كَانَ حال صاحب الأخدود الذي كَانَ يريد أن يقول للناس أن يؤمنوا بأنه ربهم.
وأما أن أناساً كانوا ينكرون ذلك بحق وحقيقة فلا يوجد ذلك، حتى فرعون فقد قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه:
((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14] وهو الذي يقول لموسى عَلَيْهِ السَّلام:
((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23].
وهذا السؤال لغرض التحايل والتهرب، وليس غرضه أن يعلم ما هي ماهيته، بل هو إنكار يحيد به عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلاّ فهو يعلم ذلك، فلا نحتاج إِلَى أن نشك في أن فرعون يعلم أو لا يعلم، لأنه لما أدركه الغرق قال:
((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ)) [يونس:90] ولم يقل: أنا ربكم الأعلى، فذهبت هذه المقالة في القصر في مكان العز والتمكين أما عند الغرق فقد نطقت الحقيقة، ولكن حيث لا ينفع الإقرار بها.
فمسألة الفطرة من أجل المباحث التي ينبغي أن تبحث، لكن ليس المقصود هنا هو ذلك وإنما المراد هنا أن نعرف علاقة الميثاق الذي أخذه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى بني آدم بالفطرة، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخذ الميثاق عَلَى بني آدم حينما استخرج ذرية آدم عَلَيْهِ السَّلام من صلبه وأشهدهم عَلَى أنفسهم واستنطقهم كما قال المفسرون في تفسير الآية وفي قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن عيسي عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه}.
وقالوا: إن عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واستنطقها، كما صرح بذلك كعب الأحبار وغيره، فالله تعالى خلق الأرواح ثم استنطقها، فسألها ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] أي شهدنا عَلَى أنفسنا ونطقنا بذلك، ثُمَّ يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ)) [الأعراف:172] جملة أن تقولوا معناها: أي استنطقناكم واستشهدناكم كي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] وعَلَى الوجه الآخر أنه لا يجوز أن تقرأ ((قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172] وتقف عَلَى كلمة (شَهِدْنَا) بعد أن وقفت عَلَى كلمة (بَلَى)، بل تقف عَلَى الأول أو الثاني لأن كلمة (شَهِدْنَا) ستصبح هنا لا متعلق لها ولا معنى، فهذا الذي نفهم به هذه الآية من جهة علاقتها بموضوع الفطرة.