المادة    
ما كَانَ لنبي قط أن يرضى بأدنى جرح في التوحيد، فضلاً عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي سد كل ذريعة توصل إِلَى الشرك من الآثار أو المقابر، أو ما يعظمه النَّاس كتعظيم الصور والتماثيل، والصلاة عَلَى المقابر، كل ذلك ورد النهي عنه صريحاً، وأنه وسيلة إِلَى الشرك، وقد نهى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه رجلاً أتاه فقَالَ: "ما شاء الله وشئت"، فَقَالَ له النبي {أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده}.
وفي الحديث الآخر -وإن كَانَ في سنده كلام- أنهم لما قالوا: قوموا بنا نستغيث بالرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: {إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله}.
ولما جَاءَ رجل وأخذ يطري فيه قَالَ: {إنما السيد الله} وينكر في مواضع كثيرة من يقرنه بالله تَعَالَى اقتراناً لفظياً فقط، والله تَعَالَى يقول:((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:79-80].
فالآية تفيد أن الله تَعَالَى يقول: إنه لم يكن وما كَانَ أبداً، ولا ينبغي ولا يصح لنبي من الأَنْبِيَاء أن يقول للناس: ((كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)) لأن الله بعثهم ليخرجوا النَّاس من الشرك إِلَى التوحيد، فهذا الرجل الأعمى إنما كَانَ يخاطب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يا محمد- ويكلمه لأنه بين يديه، والآن وبعد تلك القرون يقوم الرجل فيعثر فَيَقُولُ: يا محمد، أو يكتب عَلَى السيارة وعلى جدار المسجد "يا الله يا محمد" وإن أنكرت عليه استدل بحديث الأعمى، ولا تقارب بينهما، ولو سأل النَّاس أهلَ الذكر ما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الجسيمة.
  1. التوسل الشرعي وبم يكون

    وهو قول المصنف:
    [وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له، وإيماني به، وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل الاستشفاع، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به، لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
    ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إِلَى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فتوسلوا إِلَى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نَحْنُ فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون، فهَؤُلاءِ دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إِلَى الله، ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله] اهـ.

    الشرح:
    التوسل الشرعي هو: طلب الوسيلة من اللهِ تَعَالَى كما قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ))[المائدة:35] الآية. وهي أن يتوسل العبد ويتقرب إِلَى الله تَعَالَى بالأعمال الصالحة، فما كَانَ له علاقة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن التوسل إليه تَعَالَى يكون باتباعه وبمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا عمل صالح ينجينا، بل نتوسل إليه بغير ذلك مما قد لا تظن أنه عمل في ذاته، وهو: الإقرار والاعتراف بالذنب والانكسار بين يدي الله كما في الحديث الثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا فاغفر لي} كأنك تقول: اللهم إني أتوسل إليك بإقراري واعترافي بتقصيري وذنوبي وأخطائي، أن تغفر لي، وأبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فهذا الإقرار هو في ذاته عمل صالح.
    فوسيلتنا إليه العمل الصالح وإن دعونا فبذلك العمل، لأن العبادة كلها دعاء، ومن الدعاء: دعاء المسألة، وهي: أن يكون لك حاجة فتدعو ربك، اللهم اعطني كذا، واصرف عني كذا؛ فأنت العبد الفقير الضعيف تدعو الغني الحميد في هذه المسألة.
  2. أمثلة على التوسل

    هناك أمثلة تدل عَلَى هذا النوع من التوسل الشرعي.
    فمثلاً: حديث الثلاثة النفر الذين خرجوا ولم يجمعهم أيُّ جامع إلا أنهم خافوا من المطر، فأووا إِلَى غار فانطبقت عليهم الصخرة، وفي هذه الحالة الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء هو الله، ولو انطبقت عَلَى أعتى الطواغيت، وأكبر الملحدين المنكرين لوجود الله، لتضرع ودعا الله، لأن ذلك الوقت تتبخر فيه تلك البهرجة والكذب المنمق والأفكار المادية، والنظريات عن الكون والحياة، لكن أين الملجأ في هذه الحالة؟ مهما كَانَ عتو العبد وطغيانه فلن يبقى أمامه إلا رب العباد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا: الطاغية الكبير وهو عَلَى سرير الملك يقول "أنا ربكم الأعلى"، فلما أدركه الغرق ماذا قَالَ: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل)) [يونس:90] لكنه لم ينفعه ذلك.
    فكلنا نضطر في لحظات الضيق والكرب إِلَى أن ندعو الله، لكن المؤلم والمؤسف أن بعض من ينتسب إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه نجده في حالة الكرب والضيق والشدة يقول: يا سيدي فلان، فأين تذهب العقول حتى في هذه الحالة؟ فهل ملكوا -هؤلاء المدعويين- لأنفسهم شيئاً لما جَاءَ ملك الموت؟ بل إنما يدعون من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، وينسون الحي الذي لا يموت، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء.
    فهَؤُلاءِ الثلاثة قالوا: ما الحيلة؟ كل منَّا يدعو الله بخالص عمله، فنجاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل حتى الكفار فإنهم إذا ركبوا في الفلك، وجاءت الريح وهاجت الأمواج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين نجاهم، لكن إذا نجاهم إِلَى البر إذا هم يشركون.
    فالإِنسَان هكذا إذا مسه الضر دعا ربه قائماً وقاعداً وعلى جنب، ولكن إذا عوفي مر كَانَ لم يدع الله إِلَى ضر مسه، سُبْحانَ اللَّه! ما أكثر عتوه! لأنه ظلوم جهول.
    فهَؤُلاءِ الثلاثة توسل الأول منهم ببر الوالدين، ولو كَانَا كافرين، كما قال تعالى: ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً))[لقمان:15] الآية. أي: الأبوان الكافران لا تطعهما عَلَى الكفر، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، قدم لهم الطعام والكساء، وأعطهم طلباتهم المادية في غير معصية الله، وادعهم إِلَى الخير بالتي هي أحسن، هذا حق واجب عليك وهما كافران، فكيف إذا كانا مؤمنين، فهذا الأول كَانَ يحلب لهما اللبن، وينتظرهما ويعطيهما قبل أن يطعم الأطفال، وذات مرة غلبهما النوم فانتظرهما وهو واقف، والأطفال يتضاغون ويصيحون، ولم يوقظهما ولم يطعم أطفاله، تأمل هذه المواقف، كيف وقف هذا الرجل؟!
    والثاني توسل إليه بترك الزنى، الذي أصبح اليوم في هذه الدنيا وكأنه من مستلذات الحياة، ومن الأمور العادية -عافانا الله من ذلك- فهذا الرجل تمكن من الفاحشة، ثُمَّ قام لما قالت له: اتق الله، وهذا الزمان كم من واحد تقول له: اتق الله ولكنه من الذين قال الله فيهم: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ)) [البقرة:206]، وقد قال الله تَعَالَى لنبيه ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)) [الأحزاب:1] وكلنا في حاجة إِلَى أن يقال لنا: اتق الله في كل وقت وحين، ولا خير فينا إن لم نقلها لبعضنا البعض ونتناصح بها، فلما قالت له: اتق الله، ماتت الشهوة وذهبت، واستحضر عظمة الله، وقام وقد قعد منها مقعد الرجل من أهله.
    في هذا الموقف والصخرة عَلَى فم الغار فرجت للأول قليلاً لكن لا يستطيعون الخروج منها، وفرجت للثاني قليلاً؛ ولكنهم كذلك لا يستطيعون الخروج منها، والثالث: دعا الله أنه أوفى الأجير حقه بعد أن نماه له، فهَؤُلاءِ النَّاس عملوا أعمالاً صالحة، وتوسلوا إِلَى الله بها، ألم يكن عندهم أنبياء؟ بلى كَانَ عندهم أنبياء وأولياء ولم يتوسلوا إلا بالمشروع، ففرج الله عنهم ما هم فيه
    بالتوحيد فالتوحيد يفرج الله به عن الإِنسَان، فبالتوحيد تنال العزة في الدنيا والآخرة، وبالشرك يكون الخزي والذل في الدنيا ويكون العذاب الأبدي في الآخرة، فهذا هو شأن الثلاثة، فالتوسل بالأشخاص لم يكن لا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بغيره، وفيه إجمال كما قال المصنف.
    أما التوسل بدعائه في حياته فلا بأس به أما بعد موته فلا نتوسل إلا بالإيمان به، وبمحبته وطاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كَانَ عبداً صالحاً حياً فلا بأس أن يدعو للمسلمين، وإن كَانَ ميتاً فلا يُدعى، وأما إذا أريد به الإقسام بالحق والجاه -ولو كان جاه النبي - فلا يجوز، وهو مما لم يُشرع لنا أن نتقرب به إِلَى ربنا، يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: فهَؤُلاءِ -يعني: الثلاثة- دعوا الله بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إِلَى الله، ويتوجه به إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.