الحالة الأولى: لمَّا اشتد أذى قريش عَلَى المؤمنين في مكة، ذهب الصحابة إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة نائم، وشكوا إليه ما يلاقون وَقَالُوا: ادعوا الله لنا عَلَى قريش، فلم يستجيب الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قام غاضباً محمرَّاً وجهه وبين لهم أنهم يستعجلون، كما في حديث خباب في البُخَارِيّ، وأنهم لو تدبروا ما لاقى الأنبياء، وما يلاقي دعاة الخير من الأذى لما استعجلوا؛ ثُمَّ بشرهم بأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين حضرموت وصنعاء لا يخاف إلا الله والذئب عَلَى غنمه، وهذا الحديث صحيح له عدة روايات.
الحالة الثانية: طلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا واستجيب له، وهذا مثل ما حصل في الاستسقاء
{أجدبت المدينة واشتد القحط والمحل في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عَلَى المنبر يخطب الجمعة، فدخل رجل من الأعراب وقَالَ: يا رَسُول الله، هلكت العيال، وانقطعت السبل} الحديث متفق عليه، وكحديث الأعمى وغيره مما هو موجود في كتب السنة الثابتة.
الحالة الثالثة: أن يدعو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يستجاب له وهذا واقع في السيرة، فمن ذلك: لما صلّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، صلاة رغبة ورهبة أطال فيها، وسأل ربه عَزَّ وَجَلَّ ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه الثالثة، بمقتضى ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في سورة الأنعام:((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض))[الأنعام:65] الآية.
وأيضاً قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو عَلَى زعماء قريش.
وكذلك قنت شهراً يدعو عَلَى رعل وذكوان وعصية ولم يستجب له؛ بل أنزل الله تعالى:((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ))[آل عمران:128]. فكان أن تاب وأسلم من تلك القبائل خلق كثير، وكذلك من زعماء قريش، فلا بد أن نعلم أن لمقام الألوهية قدر عظيم جداً، والله هو الذي يفعل ما يشاء ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107].
فمشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحدها ولا يقيدها أحد، تنفذ كما يشاء وكما يريد، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومقام الرسالة عظيم، ولهذا كَانَ الصحابة الكرام يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو الله لهم، لمعرفتهم بقدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقامه عند ربه، ولا يتوسلوا في حياته لا بـالعباس ولا بغيره، لذا قال
عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في حياته: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسقنا" مع أن العباس لم يكن أفضل الأمة بعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كَانَ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وبقية العشرة، وأهل بدر وأهل الشجرة أفضل، ولكن العباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أفضليته هنا من جهة قرابته، ولذلك قال عُمَر: "بعم نبينا" ولو أن الأفضلية للعباس في ذاته لقالوا: نتوسل إليك بـالعباس، فهو رجل صالح فاضل، وهو قريب رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبير القرابة، وإن كَانَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب ابن عمه؛ لكن العباس أكبر، وهو بمنزلة الوالد، والعم أولى وأقرب من ابن العم، ولم يكن العباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رغم تأخر إسلامه يوماً ما يتمنى الهزيمة للمسلمين، أو الخذلان لمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد قال بعض العلماء: إنه كَانَ يكتم إيمانه، وكان عيناً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرسل إليه بكل ما يقع، ويحاول أن يطلعه عَلَى كل ما تديره قريش، وكان يحضر معهم عَلَى أنه من كبار قريش، الذين يعملون ضد الدعوة، لكن شيمة الوفاء والقرابة والغيرة والحمية لرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت لديه كما كانت لدى أبي طالب.
فالقرابة هي السبب في التوسل، ولايعني ذلك أن التوسل محصور في قرابة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و
عُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إنما اجتهد ورأى أن فعله هذا قرينة يستجاب له مع وجودها، وليس شرطاً أننا لا نتوسل إلا بقريب لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك ما فعله
معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وقد وصفه
ابن عباس بأنه فقيه، فأعطى أمير المؤمنين
معاوية بن أبي سفيان هذه الشهادة وهي وثيقة عظيمة بقوله: "إنه فقيه"، فمن فقه
معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه لما أجدب أهل
دمشق فاحتاجوا إِلَى استسقاء، خرجوا وكان معهم جملة من خيار الأمة في
الشام، وكان أحد التابعين الفضلاء الصالحين الأولياء يُقال له:
الأسود بن يزيد الجرشي فقال
معاوية كمقولة
عُمَر في
العباس "اللهم إنا نتوسل إليك بـالأسود بن يزيد يا أسود ارفع يديك وادع واسأل الله فدعا ودعوا، فمطروا بإذن الله تعالى".
فهذا فقه الصحابة الكرام، كانوا يعلمون حقيقة التوسل بعبدٍ من عباد الله الصالحين، نخرج به إِلَى الاستسقاء يدعو ونؤمن عَلَى دعائه، فإن كَانَ قريباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسن، وإن لم يكن فلا بأس، وليس في ذلك تحديد رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
وقول
عُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك" أي: بذات نبيك، "بدعائه وسؤاله" وليس بجاهه، أو أن نقسم عليك به، فالاحتمالين كلاهما غير وارد في الباء.
يقول: [إذ لو كَانَ ذلك مراداً، لكان جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأعظم من جاه
العباس] وجاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينقطع بالموت، لكن لأن الأموات لا يدعون، ولا يطلب منهم أن يدعو ولو كَانَ ذلك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما إن كَانَ من الأحياء، فنطلب منه أن يدعو الله تَعَالَى وهذا كل ما في الأمر.