المادة    
يقول المصنف: [وتارةً يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة] فأقول: أسألك بجاهه عندك أن تغفر لي وترزقني وتحفظني إِلَى آخر ما يدعو به النَّاس كثيراً في هذه الأيام، يقول: [وهذا أيضاً محذور فإنه لو كَانَ هذا هو التوسل الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلوه بعد موته] فكيف يموت هذا الجاه أو المنزلة عند الله عَزَّ وَجَلَّ؟!!
فإذاً كَانَ المقصودُ مِنَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس هو ذاته الشريفة، فكيف يصح هذا وقد كَانَ الصحابة الكرام يتبركون بشيء من ذاته، فلما مات انقطع التبرك، وجاه الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ربه هل ينقطع بموته؟ هل ينتهي بانتهاء وجوده في هذه الحياة الدنيا والتحاقه بالرفيق الأعلى؟
والجواب: أن جاهه لا ينتهي فهو موجود، إذاً فما المحذور؟ المحذور أن ندعو الله بجاهه، إذ لو أن المسألة تعود إِلَى مجردِ أن له جاهاً عِندَ اللهِ لما ترك الصحابة التوسل به. نعم له جاه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن مِنْ الخلق أعظم جاهاً عندَ اللهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سيد ولد آدم الأولين منهم والآخرين، وهو أفضل الرسل أجمعين، وهو خيرة الله ومصطفاه من هَؤُلاءِ الخلائق أجمعين، وهل أحد أكثر جاهاً عند رَبّ الْعَالَمِينَ من عبده ورسوله الأمين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا يوجد أبداً من هو أكثر جاهاً ومنزلة وشرفاً من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يوجد في الأمة من هو أكثر عبادةً وأكثر حرصاً عَلَى التوسل والتقرب إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وأكثر معرفة بقدر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهه من صحابته الكرام؟ لا يمكن أبداً، ولكن بماذا دعا الصحابة؟
  1. توسل الصحابة بجاه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته

    يقول المصنف: [فإنه لو كَانَ هذا التوسل، هو الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما خرجوا يستسقون:اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا] - يعني: العباس.
    ثُمَّ أمر العباس بالدعاء فدعا العباس، ودعا الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- والصحابة الكرام هم أفضل النَّاس في العبادة وأحرصهم عَلَى التوسل الصحيح المشروع، وأرجاهم لله، وأحرصهم عَلَى قبول العمل عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأعظمهم معرفةً بحق رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنزلته.
    فقد كانوا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستسقون ويتوسلون بدعائه، فهذا رجل دخل والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المنبر فقَالَ: يا رَسُول الله هلكت العيال وانقطعت السبل، وكذا وكذا، فادعوا الله لنا، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فجاء الغيث العميم، والحديث مخرج في الصحيحين.
    كذلك الأعمى الذي جَاءَ إِلَى النبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكا إليه أنه لا بصر، فخيره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يصبر أو يدعو له، فاختار الدعاء، فدعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهكذا نَجِدُ أنَّ الصحابة الكرام في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يتوسلون إِلَى الله بدعائه، وقد يرده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما جاءوا إليه وهو متوسداً في ظل الكعبة قالوا: يا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادعُ اللهَ لنا، إن البلاء قد اشتد علينا من قريش، فلم يستجب لهم؛ بل قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر وجهه من الغضب، المقصود من هذا كله أنهم كانوا يأتون إِلَى رَسُول الله ويقولون: ادع الله لنا في كذا، أو يخرجون يدعون وهو يدعو معهم، أو يدعو وهم يؤمنون، فهذا هو التوسل المقصود به في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وما ورد فيه من أحاديث كثيرة فهذه صورته وهذه حقيقته، فعندما توفي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجَاءَ الجدب في عهد عُمَر خرجوا يستسقون ويدعون الله، فلو كَانَ التوسل بالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جائزاً فلماذا لم يقولوا: اللهم إنا نسألك بجاه نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترحمنا وأن تسقنا وأن تغيثنا؟ ما المانع من ذلك؟!
    وهَؤُلاءِ هم الصحابة كلهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين عُمَر، الذي تعلمون عِلمَهُ وفقهه ودرجته في الدين يقول: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات نتوسل إليك بعم نبينا، إذاً المسالة بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تختلف اختلافاً كلياً عنها في حياته.
    وقوله: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه كما في الاستسقاء وغيره]، ثُمَّ ذكر ماذا صنع الصحابة الكرام بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أنهم أكثر الأمة إيماناً، وحرصاً عَلَى الخير، وأعظمهم تقرباً وحباً لرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفة لمنزلته وجاهه عند ربه، حتى توفي ولحق بالرفيق الأعلى.

    وإن توسل الصحابة بجاهه كما يزعم هَؤُلاءِ النَّاس فهم القدوة، ولا محظور في ذلك، وما نَحْنُ إلا أتباع وإن كانوا انصرفوا وعمدوا إِلَى أمر غير ذلك مع معرفتهم به، فنذهب إِلَى ما ذهبوا إليه، إلا أن يتهمهم متهم بأنهم جهلة ولاسيما أنهم جميعاً خرجوا للاستسقاء واحتاجوا إِلَى ذلك، ولم يتوسلوا بجاه النبي. فهل جهلوا أو نسوا كلهم أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له جاهه عند الله لا يموت ولا يفني بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتقاله إِلَى ربه، وأنه كَانَ يجب عليهم أن يتوسلوا بهذا الجاه، فإن قال ذلك قائل، فيا لها من تهمة، وإن لم يقلها فالحق واضح، فالذي وقفنا عليه هو: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات انقطع توسل الصحابة الكرام بدعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  2. توسل عمر بدعاء العباس دليل واضح على عدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته

    عندما وقع الجدب في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، خرج الصحابة يستسقون، وكان معهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أمير المؤمنين في دعائه، اللهم إنِّا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، أي: كنا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتوسل إليك يارب بدعائه.
    فهو يدعو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو هم يطلبون منه الدعاء، وعلى أي حال: فطلب الدعاء من الْمُسْلِمِينَ بعضهم لبعض لا محذور فيه إن لم يتجاوز به قدره، ويعتقد في إنسان بذاته، ولم يتكل عَلَى دعاء غيره له، لكنك لو دعوت لي وأنا دعوت لك، فهذا لا حرج فيه لأنه من التعاون عَلَى البر والتقوى، وفي الحديث الصحيح {ما من عبد يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل به ملك يقول: آمين، ولك مثل ذلك}.
    فينبغي لنا أن نغتنم هذه الفرصة، وأن يدعو بعض الْمُسْلِمِينَ لبعض، وكان الْمُسْلِمُونَ ولا يزالون أهل الخير والتقى والصلاح يفعلون ذلك، لكن المحظور أن يستغني الإِنسَان عن التضرع إِلَى الله، والانكسار بين يديه، بالذهاب إِلَى أخ صالح أو فاضل يدعو له وهذا لا ينبغي؛ لأن الدعاء هو العبادة، فعلى الإِنسَان أن يتضرع إِلَى الله، ويبذل السبب، ولا بأس أن يستعين بدعاء أخيه له.
  3. هل كل دعوات النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة؟

    الحالة الأولى: لمَّا اشتد أذى قريش عَلَى المؤمنين في مكة، ذهب الصحابة إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة نائم، وشكوا إليه ما يلاقون وَقَالُوا: ادعوا الله لنا عَلَى قريش، فلم يستجيب الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قام غاضباً محمرَّاً وجهه وبين لهم أنهم يستعجلون، كما في حديث خباب في البُخَارِيّ، وأنهم لو تدبروا ما لاقى الأنبياء، وما يلاقي دعاة الخير من الأذى لما استعجلوا؛ ثُمَّ بشرهم بأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين حضرموت وصنعاء لا يخاف إلا الله والذئب عَلَى غنمه، وهذا الحديث صحيح له عدة روايات.
    الحالة الثانية: طلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا واستجيب له، وهذا مثل ما حصل في الاستسقاء {أجدبت المدينة واشتد القحط والمحل في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عَلَى المنبر يخطب الجمعة، فدخل رجل من الأعراب وقَالَ: يا رَسُول الله، هلكت العيال، وانقطعت السبل} الحديث متفق عليه، وكحديث الأعمى وغيره مما هو موجود في كتب السنة الثابتة.
    الحالة الثالثة: أن يدعو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يستجاب له وهذا واقع في السيرة، فمن ذلك: لما صلّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، صلاة رغبة ورهبة أطال فيها، وسأل ربه عَزَّ وَجَلَّ ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه الثالثة، بمقتضى ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في سورة الأنعام:((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض))[الأنعام:65] الآية.
    وأيضاً قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو عَلَى زعماء قريش.
    وكذلك قنت شهراً يدعو عَلَى رعل وذكوان وعصية ولم يستجب له؛ بل أنزل الله تعالى:((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ))[آل عمران:128]. فكان أن تاب وأسلم من تلك القبائل خلق كثير، وكذلك من زعماء قريش، فلا بد أن نعلم أن لمقام الألوهية قدر عظيم جداً، والله هو الذي يفعل ما يشاء ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107].
    فمشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحدها ولا يقيدها أحد، تنفذ كما يشاء وكما يريد، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ومقام الرسالة عظيم، ولهذا كَانَ الصحابة الكرام يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو الله لهم، لمعرفتهم بقدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقامه عند ربه، ولا يتوسلوا في حياته لا بـالعباس ولا بغيره،
    لذا قال عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في حياته: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسقنا" مع أن العباس لم يكن أفضل الأمة بعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كَانَ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وبقية العشرة، وأهل بدر وأهل الشجرة أفضل، ولكن العباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أفضليته هنا من جهة قرابته، ولذلك قال عُمَر: "بعم نبينا" ولو أن الأفضلية للعباس في ذاته لقالوا: نتوسل إليك بـالعباس، فهو رجل صالح فاضل، وهو قريب رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبير القرابة، وإن كَانَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب ابن عمه؛ لكن العباس أكبر، وهو بمنزلة الوالد، والعم أولى وأقرب من ابن العم، ولم يكن العباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رغم تأخر إسلامه يوماً ما يتمنى الهزيمة للمسلمين، أو الخذلان لمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وقد قال بعض العلماء: إنه كَانَ يكتم إيمانه، وكان عيناً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرسل إليه بكل ما يقع، ويحاول أن يطلعه عَلَى كل ما تديره قريش، وكان يحضر معهم عَلَى أنه من كبار قريش، الذين يعملون ضد الدعوة، لكن شيمة الوفاء والقرابة والغيرة والحمية لرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت لديه كما كانت لدى أبي طالب.
    فالقرابة هي السبب في التوسل، ولايعني ذلك أن التوسل محصور في قرابة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
    وعُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إنما اجتهد ورأى أن فعله هذا قرينة يستجاب له مع وجودها، وليس شرطاً أننا لا نتوسل إلا بقريب لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وكذلك ما فعله معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وقد وصفه ابن عباس بأنه فقيه، فأعطى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان هذه الشهادة وهي وثيقة عظيمة بقوله: "إنه فقيه"، فمن فقه معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه لما أجدب أهل دمشق فاحتاجوا إِلَى استسقاء، خرجوا وكان معهم جملة من خيار الأمة في الشام، وكان أحد التابعين الفضلاء الصالحين الأولياء يُقال له: الأسود بن يزيد الجرشي فقال معاوية كمقولة عُمَر في العباس "اللهم إنا نتوسل إليك بـالأسود بن يزيد يا أسود ارفع يديك وادع واسأل الله فدعا ودعوا، فمطروا بإذن الله تعالى".
    فهذا فقه الصحابة الكرام، كانوا يعلمون حقيقة التوسل بعبدٍ من عباد الله الصالحين، نخرج به إِلَى الاستسقاء يدعو ونؤمن عَلَى دعائه، فإن كَانَ قريباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسن، وإن لم يكن فلا بأس، وليس في ذلك تحديد رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
    وقول عُمَر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك" أي: بذات نبيك، "بدعائه وسؤاله" وليس بجاهه، أو أن نقسم عليك به، فالاحتمالين كلاهما غير وارد في الباء.
    يقول: [إذ لو كَانَ ذلك مراداً، لكان جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأعظم من جاه العباس] وجاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينقطع بالموت، لكن لأن الأموات لا يدعون، ولا يطلب منهم أن يدعو ولو كَانَ ذلك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما إن كَانَ من الأحياء، فنطلب منه أن يدعو الله تَعَالَى وهذا كل ما في الأمر.
  4. ذكر حديث الأعمى والتعليق عليه

    أما حديث الأعمى الذي يشيعه أهل البدع ويحتجون به فقد رواه التِّرْمِذِيّ والنَّسَائِيُّ والبيهقي، وغيرهم، وقضيته {أن رجلاً أعمى جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: يا رَسُول الله ادع الله أن يرد علي بصري، فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك}.
    فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل الأمر مجرد دعاء، وإنما خيره بين الصبر والدعاء، -والصبر أعظم- كما في الحديث الآخر {ما من عبد صالح أخذت منه حبيبتيه -أي عينيه- فصبر إلا عوضته عنهما الجنة} فالذي يصبر عَلَى اللأواء والنصب يخفف الله تَعَالَى عنه، فلا نكره المرض والمصائب، وإن كنا نكرهها بحكم الجبلة والطبيعة الإِنسَانية، لكن إذا وقعت فنقول: قدر الله وما شاء فعل، ونقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، ولعل في هذا خير فقد يكفر عنا من الذنوب والخطايا.

    لكن الأعمى لم يأخذ بذلك الصبر، لأنه لو كَانَ عنده صبر لما جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال له: يا رَسُولَ اللهِ! بل ادع لي، فقَالَ: قم فتوضأ وصل ركعتين، وادعوا الله فذهب الرجل فتوضأ وصلى، ثُمَّ أخذ يدعو: اللهم يا رب رد علي بصري، أو "يا مُحَمَّد يا نبي الرحمة، إني أتوجه إِلَى الله بك"، أو "اللهم شفعه فيَّ، ورد علي بصري" عَلَى ألفاظ مختلفة في الروايات.
    وهذا الحديث صحيح وإن كَانَ التِّرْمِذِيّ قد شكك في أحد الرواة عَلَى أنه مجهول العين إلا أنه قد عُلم هذا المجهول من روايات أخرى، وقد صححه شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وغيره من الحفاظ.
    وفيه دلالة عظيمة لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في التوسل ورد جلي عَلَى أهل البدع والضلال، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حياً يقول: إن شئت دعوت لك، وأيضاً لم يكتفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دعا له بل قَالَ: توضأ وصل وادعو، فيكون ذلك أرجى لقبوله دعائه، فالاستجابة بعد وضوئه وصلاته ركعتين بإخلاص لا سيما في ذلك الوقت، لأن المسألة ليست هينة، بل مسألة عظيمة ترتب عليها أن يعود له بصره.
    فكم كَانَ في المدينة من عميان في ذلك الزمان؟ وكم فيها من ذوي العاهات؟ وهل أحد أحرص عَلَى الخير من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ومع ذلك لم يبلغنا قط عن أحد منهم أنه دعا بهذا الدعاء، أو بمثله أو توسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بجاهه ليشفى من مرضه، فهل القوم جهلة؟ أم غافلون عن هذا الدعاء؟ لا؛ بل علموا أن هذه معجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودليل من دلائل النبوة الدالة عَلَى صدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه تحقق شيء يعجز عنه الأطباء ويعجز عنه كل البشر إلا إذا شاء الله، فعلم الصحابة أن هذه الحادثة خاصة بهذا الأعمى، ولو أن الأمر أمر دعاء لحفظ كل أعمى هذا الدعاء ودعا به، فبقيت هذه القصة دليلاً من أدلة نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولهذا يروي هذه القصة أصحاب السيرة عَلَى أنها من دلائل النبوة، لا عَلَى أنها من الأدعية والأذكار الواردة،
    ومن هنا فرق بين هذا وهذا، وقوله: "اللهم شفعه في" نعم، يجوز هذا لمن كَانَ في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصده دعاء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تزاح الأحاديث الصحيحة التي أثبتت أن الشَّفَاعَةَ للأمةِ جميعاً، فنحن ندعو الله أن يجعلنا من الأمة المرحومة التي يشفع فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حرج في هذا الدعاء، لأننا لم ندعُ إلا الله، ولم نعتدِ في الدعاء، بل دعوناه بأمر قد أخبرنا أنه حق.