المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن حكم من أنكر أن القرآن كلام الله، مع بيان إعجاز هذا الكتاب المبارك، وانقسام الناس فيما يتعلق بالتحدي بالقرآن إلى مذاهب، وقد اختتم بالحديث عن الرؤية وبعض من ضل فيها.
  1. كفر من أنكر أن القرآن كلام الله

     المرفق    
    [قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وقوله: [ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر] لا شك في تكفير من أنكر أن القُرْآن كلام الله؛ بل قَالَ: إنه كلام مُحَمَّد أو غيره من الخلق، ملكاً كَانَ أو بشراً.
    وأما إذا أقر أنه كلام الله ثُمَّ أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قَالَ: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)) في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] إن شاء الله تَعَالَى] إهـ.

    الشرح:-
    كلام المُصنِّفُ هنا عَلَى من قَالَ: إن القُرْآن من كلام البشر، وقائلُ هذا الكلام عَلَى أحدِ أمرين: إما أن يكونَ مُرادُه أنَّ هذا القُرْآن لم ينزل من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وإنما افتراه بشر، كما قاله المُشْرِكُونَ للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ))[يونس:38] وَقَالُوا: إنما يعلمه بعض الأعجميين،((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا))[الفرقان:5] إِلَى آخر ما قاله المُشْرِكُونَ الجاحدون.
    والقصد أن من جحد أن الله عَزَّ وَجَلَّ أنزل القرآن، وأنزل الذكر الحكيم، وأن هذا القُرْآن الذي بين أيدينا من كلام غير الله ابتداءً وتبليغاً، فقد أتى بالكفر الصُرَاحِ الذي لا شك فيه، وبهذا نزلت الآيات ونطقت السنّة، ولا خلاف في ذلك بين الْمُسْلِمِينَ جميعاً. أهل السنة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو غيرهم.

    وإما أن يكون مُرادُه: أنَّ القُرْآن ليس كلام الله عَلَى التأويل الذي مر معنا: تأويل المعتزلة أو تأويل الأشعرية، فيقولون: هو حكايةٌ عن كلام الله، أو عبارةٌ عن كلام الله، أو بعبارة أخرى هو كلام الله بالمعنى، لكن النظم نظم جبريل أو نظم مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أشبه ذلك وهَؤُلاءِ هم المؤولة.
    وهنا قاعدة: وهي أن كل من ردَّ شيئاً من الدين، أو ما ثبت في السنة الصحيحة، أو رد شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة عَلَى سبيل الجحود والنكران، فهذا كافر خارج عن الملة.
    وأما من رده عَلَى سبيل التأويل، أو لديه اجتهادات خاطئة أوقعته في هذه البدعة وهذا الضلال والانحراف، دون أن يكون قصدُه في نفسه مُعَاندَةُ شرعِ الله أو جحوده؛ فهذا في الجملة لا يَكفر، وإنما يكون مبتدعاً ضالاً منحرفاً، ثُمَّ بعد ذلك تختلف المقالات ويختلف الأفراد فيما بينهم وبين الله عَزَّ وَجَلَّ، فقد يكون منهم من هو كافر في الحقيقة أو زنديق، ولكن يتلبس بأنه لم يجحد ولم ينكر، فالذين يتأولون -كما هو حال الذين قالوا: إن القُرْآن ليس كلام الله بل هو حكاية أو عبارة أو مجاز ونحو ذلك- لا يخرجون من الملة ولا يكفرون كفراً ينقلهم من الإسلام إِلَى الكفر وإنما هم أهل ضلال وابتداع وانحراف،
    وتفصيل الكلام في هذه المسألة -مسألة متى يكفر المؤولون ومتى لا يكفرون؟ وهل أصحاب البدع يكَّفرون بإطلاق؟- يأتي إن شاء الله في آخر هذه العقيدة عند قوله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، وإنما المراد هنا ما يتعلق بقضية الكلام فقط.
  2. إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وقوله: ولا يُشبه قول البشر، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق قال تعالى: ((وَمَنْ أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً))[النساء:87]، وقال تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ))[الإسراء:88].
    وقال تعالى: ((قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه))[هود:13] وقال تعالى: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ))[يونس: 38] فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة- عن الإتيان بسورة مثله تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله، وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج، بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية، فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن؟ كما في قوله تعالى: ((آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)) [البقرة:1-2]، ((آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ)) [آل عمران:1-3] الآية ((آلمص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْك)) [الأعراف:1-2] الآية ((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))[يونس:1].
    وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه؛ بل خاطبكم بلسانكم، ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبريل منه. كما يتذرعون بقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يَردُّ عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى: 11]. كما في قوله تعالى: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه)) [يونس:38 ] ما يرد على من ينفي الحرف فإنه قال: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ)) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: ( إن أدنى مايجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك والله أعلم) ] إهـ.

    الشرح:
    هذا الموضوع تابع لما سبق في مناقشة الماتريدية والأشعرية فيما يتعلق بنفيهم الحرف والصوت من كلام الله عز وجل، وإثباتهم كلاماً نفسياً معنوياً، والعلاقة بين هذا الكلام وذاك أنهم يقولون: إن هذا القرآن المقروء النظم -يعني: الحروف وهذه المنظومة المقروءة التي يقرأها القارئون، ويسمعها السامعون، ويحفظها الحافظون- ليس هو: كلام الله؛ لأن هذه حروف وأصوات والحروف والأصوات من جنس كلام الناس، فالناس يتكلمون بحروف وبأصوات وعليه، فالقرآن الذي تُحدي به أو القرآن الذي هو حقيقة كلام الله هو المعنى الذي في نفس الله سبحانه وتعالى، وليس هذا هو القرآن.
    ومن هنا كان لا بد أن نتعرض لموضوع التحدي بالقرآن ومعنى الإعجاز بالقرآن وما هي المذاهب فيه فنقول: إن الله سبحانه وتعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ما من نبي بعثه الله -تبارك وتعالى- إلا آتاه ما يؤمن الناس على مثله} فقد أعطاه بينة يؤمن الناس بها، {وإنما كان الذي أوتيته وحياً} وهو هذا القرآن، ولذلك قال: {فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة} وهو كذلك؛ فإن هذه الأمة هي أكثر الأمم، فهي أكثر من نصف أهل الجنة؛ لأن هذا وحي مقروء يقرأ في كل زمان وفي كل مكان، فآياته وبراهينه ودلالاته متنوعة متعددة.
    وإذا بحث الإنسان في علوم اللغة فإنه لا يجد أبلغ من القرآن، فيتراجع ويعجز ويتقهقر أمام هذه البلاغة العظيمة، والإنسان الذي يبحث في العلوم الكونية ينبهر ويذهل لما يجد في هذا القرآن مما لا يستطيع أن يُقال وأن يتصور إلا عن طريق هذا الوحي، والإنسان الذي يبحث في التاريخ يجد في هذا القرآن من أخبار الأمم الماضية ومن أحوالها العجب العجاب، الذي لم يأت به المؤرخون فضلاً عن رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يجالس مؤرخاً ولا غير مؤرخ، ثم يحدث عن ثمود وعاد بل عن آدم عليه السلام؛ بل عما هو أقدم من ذلك من نشأة هذا العالم وكيف نشأ؟ وكيف وجد؟ ألا يدل هذا على أن هذا القرآن وحي من السماء؟! أليس ذلك عن طريق الوحي؟ فكيف عرفنا العرش وكيف عرفنا ابتداء خلق السماوات والأرض وليس في إمكان العقول التي تتحدث عن التاريخ أن تبحث أو تتكلم عن مثل هذه الأمور على الإطلاق.
    ثم تأتي الأخبار الغيبية المستقبلية في القرآن الكريم فتحصل بعضها وتتحقق وبعضها لم يأذن الله بحصولها، ومما حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: ((آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ))[الروم:1-3] فكان مما أخبر به القرآن أنهم يفتحون مكة ويدخلونها وحصل ذلك، وأخبر أن الله سيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره الكافرون، وغير ذلك مما قد حصل ووقع.
    ومن هذه الأخبار الغيبة المستقبلية، ما أخبر به عن أمور تقع بين يدي الساعة ولما تقع بعد، كخروج الدابة، وظهور الدجال.
    والدجال وإن لم يذكر في القرآن صريحاً ولكنه ذكر تلميحاً كما في قوله تعالى: ((يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ))[الأنعام:158] وأشباه ذلك، ومن أعظم آيات الله التي تأتي آخر الزمان الدجال وطلوع الشمس من مغربها.

    وهنا أمر نحب أن ننبه إليه وهو أنه كان في الجاهلية قلوب فطرها سليمة نقية رفضت عبادة الأوثان ورفضت الانغماس في أعياد الجاهلية، واختلاط الجاهلية وإباحيتها، فساحوا في الدنيا يبحثون عن دين يريدون شيئاً يتعبدون الله به في قلوبهم لأن كل ما على هذه الأرض من أديان فهو باطل، ومن هؤلاء: ورقة بن نوفل، وأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل، وسلمان الفارسي الذي بحث عن الأديان في بلاد فارس، والعراق، وأطراف الشام فهؤلاء أناس يريدون أن يعبدوا الله عز وجل.
    ونجد اليوم في الغرب حيارى كثير من هذا النوع، فإذا وجدوا القرآن سلموا له واطمأنت قلوبهم به، فيعتقدونه غاية الاعتقاد وغاية الصدق واليقين، ويقرون أن هذا من عند الله، لِمَا يرون من بيان القرآن وإعجازه وإحكامه حتى ما يتعلق بالشرائع والأحكام التي فيه، فإن من نظر إلى أي مُشَّرعٍ أو مقننٍ أو باحثٍ في أحوال الناس وشرائعهم قبل الإسلام أو في أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ورأى حال الروم وحال الفرس وحال العالم وما فيهم من الظلم والإجحاف والقوانين الجائرة والأحكام الطاغوتية، ثم نظر إلى هذه الشريعة العادلة السمحة، وما جاءت به من حدود ومن تعزير ومن أحكام مفصلة، سيرى العجب العجاب ويرى ما يذهل عقله ولبه.
    فمْنِ أي زاوية نظرت إلى القرآن فهو معجز أو مُتَحدىً به أن يأتي الناس بمثله، فليس الأمر مقصوراً على جانب من الجوانب، لكن لما ظهر أصحاب الكلام وظهرت الفرق وأخذوا يتكلمون عن إثبات القرآن وإثبات النبوة والمعجزة عن طريق العقل والرأي، وكيف نستدل على أن هذا نبي؟ وكيف نعرف أن هذا هو قرآن حقاً؟
    عندئذ أخذوا يخوضون بعقولهم وبآرائهم، ودخل من هذا الباب أهل الضلال والبدع وأهل الزندقة الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعياذ بالله .
  3. انقسام الناس فيما يتعلق بالتحدي بالقرآن

     المرفق    
    وقد انقسم النَّاس فيما يتعلق بهذا القُرْآن وبالتحدي به إِلَى ثلاثة طوائف رئيسية:
    1. أهل السنة والجماعة

      وهم كما هو معلوم دائماً عَلَى ما جَاءَ في الكتاب والسنة، فيقولون: إن كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ مُتَحدىً به ومعجز، ومُفحم للخلق بلفظه وبمعناه، وأنه معجز في أحكامه، وفي إخباره بالمغيبات أو بالمستقبليات، وفي ما جَاءَ به من الحلال والحرام، والأمر والنهي، وفي قصصه، وفي نظمه، وفي بيانه، وفي كل أمر من أموره ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله.
      وهذا الأمر واضح، لكن المُختلف فيه هو في مقدار الجزء المتحدى به من القرآن؟ فبعضهم أخذ يدقق في ذلك ويقول: هل السورة، أو هي أقل من السورة، وما القدر الذي يمكن من السورة؟
      والذي يظهر -كما في القرآن- أن أقل ذلك سورة من سور القُرْآن وإن كانت أصغر سورة، يعني: لو أن الإنس والجن اجتمعوا عَلَى أن يأتوا بمثل سورة: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ))[الكوثر:1] مثلاً لما استطاعوا أن يأتو بمثله ولما استطاعوا أن يأتوا بمثل سورة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] ولا المعوذتين ولا ما أشبهها؛ لأن فيها من البيانات ومن المعاني ومن العبر والعظات والهداية والنور ما يعجز البشر عن إدراكه، ولا يمكن أن يأتوا به رغم وجازتها، هذا موجز مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
    2. المعتزلة

      بعض المعتزلة ولا سيما إبراهيم النظَّام يقول النظّام: إن المتحدى به في القُرْآن ليس هو الألفاظ وليس هو اللغة والبيان، وإنما هو المعاني، يعني: الإخبار بالمغيبات الماضية والمستقبلية التي يعجز النَّاس عن إدراكها أو عن معرفتها، أما النظم نفسه والبيان فمن الممكن لأي شاعر أو ناثر أن يأتي بعبارات مثل القُرْآن والعياذ بالله، هذا كلام إبراهيم النظَّام ولمَّا سُئل هل حصل ذلك من العرب؟ ولماذا لم يحصل؟
      قَالَ: لمْ يحصل من العرب.
      قيل له: لِمَ لمْ يحصل؟
      قَالَ: لأن الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي صرفهم، فهو أمر كوني لا يمكن أن يفعلوه، فالله عَزَّ وَجَلَّ صرفهم رغماً عن أنوفهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإلا فمن الممكن أن يأتوا بمثله وأن يركبوا كلاماً مثله والعياذ بالله، ولم يوافقه عَلَى هذا القول أحد من أهل السنة المعتبرين إلا أبو مُحَمَّد ابن حزم فقد وافق النظّام عَلَى أن الذي منع النَّاس من الإتيان بمثل هذا القُرْآن هو أن الله تَعَالَى صرفهم عنه، فهم لو حاولوا لما استطاعوا، والردُّ عَلَى ذلك واضح، فيُقَالَ:
      أولاً: مخالفته للإجماع، ولِمَا كَانَ عليه السلف الصالح رضوان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليهم.
      وثانياً: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))[البقرة:23-24] قالوا: قوله: ولن تفعلوا معناه: لن تستطيعوا، بمعنى أنكم لن تفكروا ولن تحاولوا، أي: قدراً وقضاء، فأنتم مصروفون عن ذلك، وإلا لو حاولتم ولو كَانَ لكم الإرادة والخيار لاستطعتم، لكن في الحقيقة أن قوله تعالى: ((وَلَنْ تَفْعَلُوا)) إخبار بالواقع، وليس أمراً كونياً قدرياً، يعني: حقيقة لن تفعلوا ذلك، فلتحاولوا إن شئتم ولستم مصروفين عن المحاولة، لكن لن تفعلوا ولن تستطيعوا أن تأتوا بمثله.
      ولهذا جاءت الحروف المقطعة في أوائل السور، ثُمَّ يأتي بعد هذه الحروف وصف القُرْآن الكريم كقوله: ((آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة:1-2].
      وقوله: ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))[غافر:1-2].
      وقوله: ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الأحقاف:1-2].
      وقوله: ((آلمص))، ((ق))، ((حم))، ((عسق)) إِلَى آخره، وأكثر السور التي في أوائلها الحروف المقطعة يأتي بعدها ذكر القُرْآن ووصفه، أو القسم بالقرآن، أو ما يدل عَلَى أن المراد هو القرآن.

      ومعنى ذلك: أنكم أيها العرب! تتكلمون باللغة العربية وتتعاظمون وتتفاصحون بها وبلغ من تعظيم العرب للبلاغة والبيان أنهم كتبوا المعلقات العشر أو السبع، وعلقوها في الكعبة، وهي أعظم ما يفتخر بها العرب وذلك لما تحمله من بلاغة وبيان، وكانت العرب تفتخر وتفاخر بالفصاحة والبلاغة والبيان حتى أنهم يسمون كل من ليس عربياً أعجمياً، فمهما كَانَ عند الروم وعند الفرس من الحضارات، فإن العرب يسمون الدابة عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية أعجمياً يعني: كأنه كالدابة التي لا تتكلم بشيء فلا يعترفون ولا يعدون أي بيان إلا البيان العربي فقط.
      فالشاهد أن العرب كانوا يتحدون بذلك، ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أفصحهم بياناً لأنه من قريش، ولأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه الفصاحة والبيان وأعطاه جوامع الكلم، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أن يوحى إليه من أوسط العرب وأعلاهم في الفصاحة والبيان، فأتاه هذا الكلام الذي يختلف عن كلامه هو، رغم أن كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى درجات البيان البشري، لكن أتاهم بكلام هو أعظم وأعلى من كلامه الذي يخاطبهم به في العادة ويقول: إن هذا من عند الله ويتحداهم أن يأتوا بمثله وليس ذلك التحدي لقريش أو للعرب فقط بل للإنس والجن ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآن آنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً))[الإسراء:88] ثُمَّ جَاءَ التحدي بعشر سور مفتريات كما يزعمون.
      ثُمَّ جَاءَ التحدي في سورة يونس وفي سورة البقرة بسورة واحدة فقط ولو كانت مثل: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ))[الكوثر:1] فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثلها، رغم أنهم فكروا: ماذا نقول في هذا القرآن؟ شعر، أو سحر؟ كما فعل الوليد الذي فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثُمَّ قتل كيف قدر، ففكروا في ذلك، ولكنهم لم يجدوا إلا أن يقولوا: إنه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ،
      وليس مجرد أنهم صُرِفوا عنه كما يقول النظَّام.
      ونوضح هذا بمثال من كلام المعتزلة على الصرفة، يقولون: إن النَّاس يمشون ويحركون أيديهم وأرجلهم -قاسوا الكلام عَلَى الحركات- فافترضوا افتراضاً لو أن نبياً من الأَنْبِيَاء جَاءَ فقَالَ: أنا نبي فإذا قال الناس: ما آية نبوتك؟ قال علامة نبوتي أنه لن يستطيع أحد منكم أن يمد يده أو يحرك رجله، قالوا: بمجرد أن يقول النبي ذلك سوف تتوقف جميع حركات الأمة التي يدعيها هذا النبي؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ لما أعطاه هذه الآية فإنه سيمنع أُولَئِكَ عن الحركة رأساً! هذه الشبهة وهذا الخيال افترضوه في عقولهم وقاسوا عليه كتاب الله وكلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
    3. مذهب الأشعرية والماتريدية

      الأشعرية والماتريدية يقولون: إن النظم أو الحروف المقروءة والمتلوة والمسموعة هذه ليست مُتحدىً بها ولانقول كما يقوله النظَّام وابن حزم من أن البشر مصروفون عنه، ولكن نقول: إن تعبير جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من عبر عنه كَانَ بإلهام من الله فلا يستطيع أحد أن يأتي به، فالإعجاز إذاً منحصر عَلَى الحقيقة في المعاني وفيما يتضمنه من الإخبار بالمغيبات والأحكام التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها.
      هذا موجز لكلام النَّاس واختلافهم في التحدي وفي الإعجاز بالقرآن، -والمقصود وهو محل الشاهد- من هذا هو قوله: [فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف] يعني: الكلمات والحروف التي في القُرْآن موجودة عند العرب، إنما المتحدى به أن يركب مثل هذا الكلام لفظاً ومعنىً وهذا واضح لكل من تدبر ذلك.
      والأحرف المقطعة في أول السور مسألة فيها خلاف، فمن المفسرين من يقول: إن هذا مما استأثر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بعلمه، ومنهم من يقول: إنها رموز أو أسماء لما لا نعلم، ومنهم من يقول كما هو القول الراجح الذي اختاره أكثر العلماء المحققين، وهو الذي ذكره المُصنِّف هنا: إن المراد من هذه الحروف هو تحدي العرب وبيان أن القُرْآن من جنس كلامكم، وأن حروفه من جنس حروفكم ومن جنس لغتكم، فهو نزل بلسان عربي مبين ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:3]، ولكنكم مع ذلك لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، هذا إضافة إِلَى أن هناك فائدة أخرى في أن القُرْآن يبتدئ بهذه الحروف: وهي أن العرب لم يعهدوا ولم يسمعوا عن استخدام هذه الحروف بهذا الشكل، فإذا بدأ الإِنسَان يتكلم وابتدأ كلامه بشيء غريب غير معهود فإنه يشد الذهن أكثر، فالعرب لم تتعود أن تسمع إلا المعلقات والأشعار، والأشعار تبدأ عادة بالغزل وتنتهي بالموضوع الذي يريدون، وكذلك النثر والخطابة.
      فالعرب ما تعودوا أن يسمعوا ((آلم))، فعندما يسمعون هذه الحروف فإنها تشد الذهن وتنبهه ثُمَّ يقول بعد ذلك
      ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)) [البقرة:2] أو ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))أو ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الأحقاف:1-2] وإتيان القُرْآن بهذا الشكل فيه زيادة في النكاية بهم وإرغام لهم عَلَى الإقرار والخضوع والاعتراف بالعجز، والقصور عن أن يأتوا بمثل هذا القُرْآن فهذا هو المراد هنا،
      لكن كما ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ أن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بما ورد في المعجزة أو في التحدي لنفي الحرف والصوت -وخاصة الحرف- كما يتذرعون بقوله ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] لنفي الصفات أو التأويل.
      يقول: ولهذا أبو يوسف: "إن أدنى ما يُجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك" وهذا مذهب الحنفية، إن كَانَ المراد عندهم أن القُرْآن يجزء منه آية أو سورة قصيرة عن الفاتحة، فهذا القول غير صحيح، وإن كَانَ المؤلف هنا لا يقصد الحكم الفقهي، وإنما يريد الاستشهاد به عَلَى العقيدة، فإن أبا حنيفة ينسب إليه أنه قَالَ: "لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل يكفي أي شيء من القرآن" بدليل قوله تعالى: ((فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)) [المزمل:20].
      فهذا المذهب مرجوح لما ثبت وصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقوله: {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القُرْآن فهي خداج}، وإن كَانَ المقصود أنه بعد الفاتحة لا يجزئ إلا سورة قصيرة أو آية طويلة ليقع بها الإعجاز، فعدم الإجزاء هنا لا يعني الوجوب حتى عند الحنفية، بمعنى أن قراءة شيء من القُرْآن في الصلاة بعد الفاتحة ليس واجباً لا عند الحنفية ولا عند غيرهم.
  4. صفات الله ليست كصفات البشر

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر ]
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة، منه بدا، نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر نفياً للتشبيه عقيب الإثبات، يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً.
    وسيأتي في كلام الشيخ: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يصب التنزيه] وكذا قوله: [وهو بين التشبيه والتعطيل] أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه، لِمَا سأذكره إن شاء الله تعالى، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً بل صفات الخالق كما يليق به وصفات المخلوق كما يليق به وقوله: [فمن أبصر هذا اعتبر] أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف، ونفي التشبيه، ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار] إهـ .

    الشرح:
    اختتم المصنف رحمه الله بما يتعلق بموضوع القرآن عند ما قال الإمام الطحاوي: [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر] فهذا زيادة في الإيضاح .
    وفي نفي المماثلة في القرآن أو في غيره قال: [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر] حتى لا يظن أن أهل السنة والجماعة يشبهون الله عز وجل بخلقه عندما يقولون: إنه تعالى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، فهم يثبتون من غير تشبيه، وينفون من غير تعطيل.
    وضرب على ذلك هذا المثل الذي ذكره الله تبارك وتعالى في سورة النحل عن اللبن أنه ((مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ)) [النحل: 66] فيكون أهل السنة والجماعة مثل اللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، فشبه التعطيل بالفرث، وشبه التشبيه بالدم، فـأهل السنة والجماعة لا يشبِّهون، كما يفعل الذين يقولون له: يد كيدنا، أو يقولون إن الله هو عيسى -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- أو يقولون: إنه علي بن أبي طالب أو نحو ذلك أو يصفونه بصفة من صفات المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    وهم أيضاً: لا ينفون صفات ذات الله عز وجل كما يقول الجهمية والمعتزلة والأشعرية الذين ينفون الصفات جميعاً فراراً من التشبيه فيقولون: نحن نفر من التشبيه فلا نصفه بأي شيء، وهذا هو حقيقة التعطيل،
    لأن التعطيل هو نفي الصفات وجحودها، فالتعطيل كما قال أحد العلماء في مناقشته لهم: لو وصف أحد العدم بمثل قول نفاة الصفات: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولاتحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله، لما كان هناك أبلغ من هذا، فكيف يجعلونه عز وجل هكذا.
    وأما المشبه فهو عابد صنم، كما أخبرنا القرآن عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم كانوا يعبدون أصناماً ينحتونها بأيديهم، فينحت الحجر، ويجعل له يداً ورجلاً وعيناً، ثم يعبده ويقول: هذا هو الإله، وكما فعل السامري لما صنع العجل وبنو إسرائيل تسمع خوار العجل، ويرونه أمامهم عجلاً من الذهب ويقول السامري لهم: هذا إلهكم وإله موسى، ويقولون: صدقت، ويتبعونه ويعبدون العجل، فعبد هؤلاء الأشياء المادية الضئيلة وهي محدودة ومشاهدة وملموسه، فالذين يقولون: إن يده سبحانه وتعالى كيد المخلوقين أو كلامه ككلام الخلوقين أو وجهه كوجه المخلوقين أو يقولون: إنه عيسى أو علي أو ما أشبه ذلك، مثلهم كمثل هؤلاء عباد الأصنام عبدوا شيئاً مجسداً مادياً محسوساً يراه الناس ويمكن لهم أن يفعلوا به ما شاءوا.
    كما فعل إبراهيم عليه السلام لما جعلهم جذاذاً إلا كبيرهم، وكما فعل موسى عليه السلام لما حَّرق العجل ونسفه في اليم نسفاً، فمن قال: إنه سبحانه وتعالى على هذه الصفات فقد شبه الله سبحانه وتعالى بخلقه فهو عابد صنم، ومن نفى عن الله تعالى صفاته فهو عابد عدم،
    وبلغ الأمر بـالباطنية أنهم قالوا: إن لفظ الوجود لا يطلق على الله عز وجل، فلا يقولون: موجود ولا غير موجود والعياذ بالله.
    إذاً: لا نصفه بأي وصف على الإطلاق، إذاً هذا هو العدم بل العدم يمكن أن يعرف فيُقال: العدم غير موجود، وهذا دليل على أن الناس ضلوا في هذا الطريق على طرفي نقيض، فرث التعطيل، ودم التشبيه، ووفق الله عز وجل أهل السنة والجماعة إلى إثبات بلا تشبيه، وإلى تنزيه ونفي بلا تعطيل كما قال جل شأنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) هذا نفي وتنزيه ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) إثبات لله سبحانه وتعالى وإثبات صفاته تبارك وتعالى .
  5. ثبوت رؤية أهل الجنة ربهم بغير إحاطة

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
    [والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23]، وتفسيره عَلَى ما أراد الله تَعَالَى وعلمه، وكل ما جَاءَ في ذلك من الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كما قال، ومعناه عَلَى ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد علم ما اشتبه عليه إِلَى عالمه] إهـ
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [المُخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين , وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إِلَى السنة والجماعة، وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مطرودون] إهـ.

    الشرح:-
    إن مسألة رؤية الله تَعَالَى في الجنة من أشرف مسائل أصول الدين ومن أعظمها، ولم تكن عند الصدر الأول ولا عند السلف موضع جدال ولا خلاف وكان اهتمامهم بموضوع الرؤية هو اهتمامهم بالجد في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ والاجتهاد في عبادته والتقرب إليه، ليحظوا بهذه المنزلة وبهذه الدرجة العظيمة، وهذا النعيم الذي لا يعادله نعيم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
    فإن رؤية وجه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعظم من كل نعيم لأهل الجنة، وهو الذي اشتاق إليه السلف الصالح الذين عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة وتتطلعوا إِلَى ما عند الله وإلى رضوانه وإلى رؤية وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان هذا من أعظم ما خفف عنهم أعباء الحياة، وأعباء الدعوة إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وتكاليف الجهاد والمشقات والأذى والعنت، الذي لقيه هَؤُلاءِ من الْمُشْرِكِينَ ومن المضلين والمبتدعين، فكان هذا هو أعظم غاية يسعون إليها، فلم يخطر ببال أحدهم أن ينكر ذلك أيُّ إنسانٍ، ولكن لمَّا ظهرت البدع وفتنت هذه الأمة بالتفرق، ولما ألبسها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى شيعاً، وأذاق بعضها بأس بعض عقوبةً عَلَى ما وقع منهم من ركونٍ إِلَى الدنيا، ومن تفريطٍ في بعض الحق الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حينئذٍ تشعبت الآراء والأهواء حتى خاضوا في هذا الأمر.
    1. الزائغون في هذا الطريق

      هناك طائفة لم يذكرها المُصنِّف رحمه الله تعالى، ويجدر بنا أن نذكرها قبل أن نخوض في موضوع أهل الكلام.
      هذه الطائفة هي زنادقة الصوفية، الأولون الذين نشأوا وخرجوا في الوقت الذي خرج ونشأ فيه المعتزلة، فمثلاً: رابعة العدوية كانت في نفس الفترة التي كَانَ فيها واصل بن عطاء فقد كَانَ واصل بن عطاء يؤسس بدعة الكلام وبدعة الاعتزال ونفي الصفات ونفي رؤية الله عَزَّ وَجَلَّ.
      وكانت رابعة وأمثالها في الطرف الآخر يقولون: إن الله تَعَالَى يُعْبَد بالحب؟! ماذا يريدون من ذلك؟ يقولون: نريد أن نعبده لكي نتمتع برؤية وجهه فقط!! هذا الذي نريده، ولا نريد جنة ولا نخاف من ناراً، ولا نخاف من حساب ولا من عقاب ولا نرجو جزاءً ولا ثواباً.
      إنما الهدف محصور في أنهم يريدون أن يروه في الدنيا أو في الآخرة!!

      وأصل هذه الفكرة من مذاهب ودين البوذيين والهندوس الذين يرى دينهم أن الإِنسَان أنزل إِلَى هذه الدنيا ليكابد العناء والمشقات والعبادات لكي يصفي وينقي روحه فترتقي من الجسد وتلتصق وتلتحق بالروح الأعظم الروح الكلي -الذي هو الله- عندهم وتصبح جزءاً من ذاته وتتحد به والعياذ بالله، فلذا كانت عبادة الرهبان الهندوس مثل الصيام الطويل، وتعذيب الجسد، والهيام في الغابات، والانقطاع في الخلوات والإكثار من الأذكار والعبادات التي ابتدعوها ولم يشرعها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كل ذلك من أجل أن يسلموا من التناسخ المستمر، ومعنى التناسخ عندهم: أن نفس الإِنسَان إذا ارتكبت ذنباً وأتاها الأجل وهي مرتكبة للذنوب تخلق في زمن بعيد آخر في شكل حيوان، وتعاقب وتتصفى حتى تكون مؤهلة لئن تتحد بالبراهما الذي يسمونه الله، يسمون البراهما "الإله الكلي" التي تلتحق به هذه النفوس.
      وهَؤُلاءِ الصوفية، يقولون :نحن نعذب الجسد في هذه الحياة فنكتفي بدورة واحدة فقط ولا نأخذ دورات من التناسخ، ونلتحق بهذا الرب فهذا مذهبهم وانتقلوا إِلَى بلاد الإسلام من الهند، لِمَا في الإسلام من الروحانية والشفافية وطهارة القلب وتزكية النفس ودخلوا من هذا المدخل، والإسلام فيه الحب والذل والخضوع والخوف والرجاء لله تَعَالَى وهذا صحيح بلا شك ولكنهم لم ينظروا إلا إِلَى جانب المحبة فقط، فَقَالُوا: نأخذ هذا الجانب ونتستر ونتلبس به وننتسب إِلَى دين الإسلام ثُمَّ نضيف في هذا الدين ما نشاء، فالذي يريد أن تتحد هذه الروح ببراهما فليسلك طريق النصرانية أو البوذية أو اليهود بأي طريق.
      ولهذا فالدين الهندوسي والبوذي ليس له عبادات محددة لكن المهم أن يعذب الإِنسَان نفسه بأي شكل، وهذا هو الذي ورثه الصوفية، وكل طريقة لها أذكار ولها خلوات ولها تعبدات خاصة بها، وهكذا كل أحد يمشي في المسلك والمنهج الذي يريده من التعبد، فلم يلتزموا بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبادة والتقرب، بمعنى: أننا لا نفترض أنهم لا بد أن ينكروا ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يقولوا: إن هذا ليس هو الطريق الصحيح، لا؛ بل منهم من يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      أبُو بَكْرٍ وعُمَر والصحابة جميعاً سلكوا طريقاً في التعبد يوصل إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، لكننا لسنا ملزمين في أن نتبع نفس الطريق فلنا أن نتخذ طريقاً آخر وغيرنا له أن يتخذ طريق آخر وهكذا.
      ويمكن لأي إنسان أن ينتهج أي طريق لكن المهم هو أن يكون القلب متعلقاً بالله، ويكون هدفه محبة الله عَزَّ وَجَلَّ ولا يفكر في جنة ولا في نار ولا في حساب ولا ثواب، كما يزعمون! المهم أنه يرى الله حتى قال قائلهم: لو أدخلني النَّار وهو راضٍ عني، أو أدخلني النَّار وأراني وجهه لم أبالِ بحرها، فليدخلني النَّار أو ليضعني أينما شاء -والعياذ بالله- من ذلك، فجعلوا رؤية الله محوراً أو ستاراً لبث الضلالات والكفر بين الْمُسْلِمِينَ وإدخال دين الهندوس والبوذيين بين هذه الأمة.
      ثُمَّ قالوا: إن من يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قاصداً بذلك الجنة أو النَّار فهذا مجرد تاجر يبيع ويشتري، هذا لا محبة عنده ولا يريد محبة الله عَزَّ وَجَلَّ فدرجته منحطة -هكذا يزعمون- وقد سبق الرد عليهم كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في حال الأَنْبِيَاء وعباده الصالحين : ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90] فالعبادة تكون بالحب وبالخضوع وبالذل وبالخوف وبالرجاء، ولا يجوز أن نكتفي بشيء منها عن شيء، فلا بد أن تجتمع فيها هذه الأربعة غاية الحب مع غاية الذل والخضوع، وغاية الرجاء مع غاية الخوف، وبذلك تكون العبودية الصحيحة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
      أما قول رابعة:
      أُحِبُك حُبَينِ حُبُ الهَوى            وحبٌ لأنَّك أَهْلٌ لِذَاكَ
      فهذا البيت وإن احتمل معنى صحيحاً فلسنا بحاجة إليه فإن الله أغنانا عنه والمعاني الباطلة التى يتضمنها -هو وأمثاله- مردودة بكتاب الله وبسنة رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كَانَ أكثر دعاؤه كما روى أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كما في الصحيحين ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار))[البقرة:201].
      فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ من النَّار وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقومون الليل وكانوا إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النَّار بكى خوفاً منها، فالسلف الصالح كانوا يعبدون الله طمعاً ورغبة في أجره وثوابه ومغفرته وجنته، وكانوا يعلمون ويعتقدون أن أفضل النعيم نعيم الجنة، وأعلى ما في الجنة من النعيم هو رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما جَاءَ ذلك في الأحاديث الصحيحة.
      وأما هَؤُلاءِ الصوفية فيقولون: لا نريد جنة ولا ناراً، وإنما يريدون الذات ويريدون الوجه.
      وبعضهم يقول: إن هذا يمكن أن يحصل في الدنيا وكثير منهم يزعم ذلك، فإذا حصلت الرؤية في الدنيا فما الحاجة إذاً إِلَى الآخرة، إذاً انتهى الحساب وانتهى الجزاء وانتهى التكليف، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لن يحصل ذلك لأحد في الدنيا، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يرى أحدكم ربه عز وجل حتى يموت}.