المادة    
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى الاحتمال الثاني: وهو أن يقول الرجل: اللهم بحق فلان أعطني كذا، أو اللهم بحق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم اغفر لي ذنبي أو اشفِ مريضي أو ما أشبه ذلك، فإذا قالها هذا الرجل، وهو يقصد الإقسام على الله بحق النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحق أي مخلوق يظن أنه من الأولياء لله المقربين عنده سبحانه وتعالى .
يقول المصنف: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز فكيف على الخالق؟] أي أن مجرد أن يقسم إنسان بأي شيء مخلوق لا يجوز، بل هو شرك قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، فكيف إذا كان الإقسام على الله؟!
فإنه يتضاعف الإثم والكبيرة، ومن ذا الذي يقسم على الله ويتألى عليه بحقه أو بحق أحد من خلقه، هذا فيه زيادة اعتداء فهو يجمع بين أنه إقسام وحلف بغير الله، وبين ما فيه من الاعتداء، وهو أنه على الله سبحانه وتعالى لا على أحد من خلقه،

يقول: [وقد قال صلى الله عليه وسلم: { من حلف بغير الله فقد أشرك } ] أو فقد: { فقد كفر } على روايتين، وبيِّنا أن الحالف بغير الله تبارك وتعالى إن كان معتقداً تعظيم المحلوف به ومساواته بالله تعالى، وأنه يقسم به لأنه في منزلة من التعظيم، كما لو أقسم بالله فهذا يكون من الشرك الأكبر، لأن هذا هو العدل والتسوية والندِّية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى:((مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً))[البقرة:165]، وفي الآية الأخرى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1].
وفي الآية الثالثة ((إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين)) [الشعراء:98] فالمصيبة التي وقع فيها المسلمون في هذا الباب: أنهم أصبحوا يحلفون بالولي أو بالشيخ، مع اعتقاد أن له التصرف في الكون، وأنه يضر أو ينفع؛ بل يعتقدون أنه يحيي ويمت -عياذاً بالله- ويوردون ذلك في أخبارهم عندما يتحدثون عن كرامات الشيخ وعن أحواله، أنه أحيا، وأنه أمات، وأنه اطلع على اللوح المحفوظ، وأنه تصرف في الكون إلى آخر ذلك، فلو حلف أحد بالشيخ على هذا الاعتقاد فيكون هذا النوع من الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو شرك الألفاظ، وندِّية الألفاظ كـ{الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما شاء الله وشئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟}، هذا لم يجعله لله نداً في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر ولا شيء من ذلك، وإنما قرنه في اللفظ بواو العطف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: { أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله، ثم شئت } و"ثم" للتراخي تفيد أن المعطوف غير الغاية المعطوفة عليه ومتراخية عنه، لكن الواو للمصاحبة والمساواة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم نوعاً من الندِّية فقال: { أجعلتني لله نداً } لكن النوع الذي في الآية ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ))[البقرة:165] من أنواع الشرك الأكبر؛ لأن المحبة والتعظيم والإجلال تدخل في باب الشرك الأكبر لأنها إما أن تصرف لله.
وإما أن تصرف لغير الله، فتكون شركاً أكبر، وهذا مناقض للتوحيد، الذي من أجله كان الجهاد بالقرآن وبالدعوة، ثم الحرب بالسيف، وهذا يدل على أن التوحيد شأنه أعظم مما يظن هؤلاء، ومن لم يكن الله تبارك وتعالى في قلبه بالمنزلة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى، وبربوبيته للعالمين جميعاً، فإنه لا يستحق أن يكون من أهل الإيمان، لأنه قد ارتكب الشرك المخرج من الملة عافانا الله وإياكم من دقيقه وجليله.

بعد ذلك انتقل المصنف إلى بيان المذهب، والمصنف -رحمه الله تعالى- حنفي المذهب وهو أيضاً ثقة عندما ينقل عن المذهب؛ لأنه من علمائه المتمكنين منه، فهو يكتب في بعض الأبواب ثم يعرج على المذهب ليبين ما وقع فيه أصحابه، لأن أتباع أبي حنيفة رحمه الله هم أكثر أتباع المذاهب الأربعة عدداً، في نفس الوقت يقع فيهم من الشرك ومن الأخطاء الشيء الكثير لا سيما معظمهم من العجم، وطريقة المصنف أن يأتي بمذهب السلف من آيات وأحاديث ليوضح مذهب السلف الحق، ثم يأتي بالمذهب الفقهي أبي حنيفة رحمه الله هم أكثر أتباع المذاهب الأربعة عدداً، في نفس الوقت يقع فيهم من الشرك ومن الأخطاء الشيء الكثير لا سيما ومعظمهم من العجم.
وطريقة المصنف أن يأتي بمذهب السلف من آيات وأحاديث ليوضح مذهب السلف الحق، ثم يأتي بالمذهب الفقهي لـأبي حنيفة -رحمه الله- ولصاحبيه، ليبين أن هذا مثل هذا، وأنه لا منافاة بينهما لأن الأئمة الأربعة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- على عقيدة ومنهج السلف الصالح، فلم يكن في الأئمة الأربعة من هو مبتدع في أي باب من أبواب العقيدة والإيمان، إلا ما نقل عن أبي حنيفة في مسألة الإرجاء، وقد نقل الرجوع عنه، وهو أخف أنواع الإرجاء؛ لكن الإمام أبا حنيفة رحمة الله في الصفات من أشد الأئمة في هذا الباب حتى أنه قال: من قال: لا أدري أربي في السماء أو في الأرض فقد كفر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال:((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5].
فالمؤسف أن الأمة الإسلامية لما انحرفت وضلت عبر القرون، أصبح الإنسان ينتمي إلى أي مذهب من المذاهب في الفقه فقط، وينتمي إلى أي مذهب كلامي في العقيدة، فيكون مثلاً معتزلياً في العقيدة حنفياً في الفقه، صوفياً في الطريقة؛ والمصنف هنا يأتي بكلام الإمام أبي حنيفة وصاحبيه -رضي الله تعالى عنهم- ليبين أنهم على منهج السلف، وأن من انتسب إليهم في الفقه يجب عليه أن يكون على مذهبهم في العقيدة، والطريقة من باب أولى؛ لأن ما أحدث من الطرق الصوفية هو أكثر وأوغل في البدعة، حتى جعلوا الفقه -مع أنه يقبل الاجتهاد مع المرونة التي فيه- لا يتعلق بالتعبد، فالأئمة الأربعة وكل علماء الإسلام لم يكن لهم في التعبد إلا منهج واحد فقط،
فالعبادة أوضح شيء في حياة المسلم لأنها عمل يومي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يعملونه يومياً ولذلك طبقته الأمة ونقلته بالتواتر حتى جاء هؤلاء الصوفية فغيروا طريقة التعبد في الصلوات وتلاوة القرآن وقراءة الأذكار النبوية، فكتبوا الأوراد وجعلوها كتباً عقيمة سقيمة، تحفظ غيباً ولا يفهمها أحد ولا يفقه معناها، وأرغموا بها الناس وجعلوها ورداً للطريقة تتبع ويتقرب بها إلى الله في اليوم آلاف المرات.
فهؤلاء الانتساب إليهم لا أصل له بإطلاق؛ لأن الانتساب في الفقه أصله أن رجلاً رأى إماماً من أئمة الفقه والعلم فانتسب إليه، لكن هذا ينتسب إلى أي شيء عندما يقول: أنا طريقتي شاذلي، أو قادري، أو رفاعي، ماذا عمل الشاذلي، أو الرفاعي، إن كانت عبادات وأذكار مشروعة يعملها المسلمون، فنحن والحمد لله نأخذ هذه العبادات من مصادرها الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولماذا نفرق أنفسنا فنجعل هذا قادري وهذا شاذلي وهذا رفاعي؟
من الذي شرع هذا الاسم بالذات؟ وشرع لي هذا الانتماء، وهذا الانتساب بالذات؟
وإذا لقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فقلت له: يا رب أنا عبدتك على الطريقة الشاذلية، فإن قبلها الله -عز وجل- وقال: نعم هذا هو المقبول، إذاً لن يقبل لا رفاعياً ولا نقشبندياً ولا... ولا... آلاف من الطرق، وإن قلت: يقبل الجميع، فعلام التفرقة؟
لكنهم يقولون: كلها طرق تؤدي إلى الله، سبحان الله! وهل قال الله عز وجل: "وأن هذه طرقاً تؤدي إلي" أو قال: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)) [الأنعام:153] فالصراط واحد، والرسول واحدٌ أرسله الله إلينا، فكيفما تعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعبد، وكيفما ذكر الله نذكر، وما ورد به الأمر سعة فنحن في السعة من الأذكار والحمد لله.
ويرد المصنف على هؤلاء بأن الإمام أبا حنيفة وصاحبه رضي الله عنه قالوا: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسولك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك وهذا هو المنقول عنهم، وكرهوه لأنه بدعة، والكراهية في كلام العلماء المتقدمين لا تعني بالضرورة ما اصطلح عليه الفقهاء، فكلمة: كره عند السلف كانوا يطلقونها على "الأمر الحرام" يقول أحدهم: أكره كذا، وكانوا يفعلون ذلك -رضي الله تعالى عنهم- أي التعبير بالكراهة، لأن أحدهم كان يستصعب أن يقول: هذا حرام وإن كان يعلم أنه حرام، ويعلم الناس أنه لو قال: أكرهه فإنه حرام، حتى لا يتجرأ على الله، أو يقول أحدهم: كانوا يكرهون كذا فيحيل إلى من قبله من العلماء من الصحابة والتابعين، ويفتي في ذلك ليعلم السامعون أن هذا الأمر لا يجوز، أو أنه بدعة، لكن فيما بعد أصبح من الجهال ممن يقولون على الله بغير علم من يقول: هذا حلال وهذا حرام بدون تفصيل، وبلا دليل وقد قال الله تعالى:((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِب)) [النحل:116].
ولا يجوز للإنسان أن يتكلم إلا بعلم وببينة في هذا الأمر وفيما عداه،
فكرهوا أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام، أو المشعر الحرام وغير ذلك، لأن كل ذلك لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا على ألسنة الصحابة الكرام، بل الذي ورد إنما هو عن العرب في الجاهلية، فكانوا يقسمون بغير الله، ويسألون بغير الله، ومن جملتها السؤال بالحق، والإقسام بالحق، فيأتي الإسلام فيحرم ويمنع منعاً باتاً الإقسام أو الحلف بغير الله سبحانه وتعالى، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة الإقسام بحق أي أحد من الخلق، وهذا مما يدل على أن الأمر فعلاً بدعة الجاهلية، فهذا طرفة بن العبد صاحب المعلقة المشهورة يقول:
ولولا ثلاث هن من شيمة الفتى            وحقك لم أحفل متى قال عوج
لولا ثلاث حاجات منها:
سقي العاذلات بشربة كؤوس            متى ما تغلى بالماء تزبد
أول شيء شرب الخمر، هذه الشربة الحمراء الأرجوانية التي إذا غليت بالماء يكون لها زبد، وهؤلاء الشعراء هم أفضل ما كانت القبائل في الجاهلية تعتد بهم، فلولا الخمر والزنى والسلب والنهب لما بالى طرفة متى يموت.
فالمقصود أن الحلف بالحق كان معروفاً عند العرب في الجاهلية، فلما كان الحلف بغير الله لا يجوز بأي حال من الأحوال، كان هذا الحلف بالحق لا يجوز كالحلف بالأمور المعظمة عند المسلمين، كأن يحلف الرجل بالكعبة أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بحق الكعبة أو بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بحق الأنبياء أو بحق الرسل أو بحق المشعر الحرام أو ما أشبه ذلك، لأنه لم يرد عن السلف، مع أن هذه مما عظمها الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج:32].
لكن لا يجوز أن نقسم ولا أن نحلف بغير الله تبارك وتعالى، فمن حلف بذلك أو سأل الله بذلك فلا يجوز له، لأن سؤاله هذا إن كان سؤالاً فلا يجوز، وإن كان إقساماً فهو أيضاً لا يجوز، فعلى كلا الحالين لم يرد، ولهذا كرهه العلماء رضي الله تعالى عنهم ونهوا عنه، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، وكل العلماء الذين يعتد بقولهم في هذا الشأن لم يقل أحد منهم أن ذلك جائزاً، ولكن وُجِدَت روايات في كتب تروي الضعاف والمنكرات ولم يصح منها شيء .
  1. أبو حنيفة وكراهيته للإقسام بشيء مخلوق

    يقول المصنف: حتى كره أبو حنيفة ومحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك].
    الإمام أبو حنيفة معروف، وصاحباه هما مُحَمَّد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وقول المُصنِّف أن: أبا حنيفة ومحمد كرها أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، أما أبو يوسف فلم يكرهه لأنه بلغه الأثر فيه، وهما كرهاه لأنه لا يوجد فيه أثر.
    وتبقى مسألة هل صح هذا الأثر أم لا؟ الذي توصلت إليه أن هذا الأثر لا يصح.
    فلا يجوز أن يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمعقد العز من عرشه؛ لكن نقول: هذا لم يثبت إِلَى حد الآن بحسب علمنا أنه ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول الشيخ ناصر: [قلت: هو حديث مرفوع موضوع كما بينه الزيلعي في نصب الراية (4/ 203)] يعني: كونه مرفوعاً إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا موضوع كما قال الشيخ ناصر.
    وتبقى أيضاً مسألة هل هو موقوف عَلَى أحد من الصحابة أو من كلام أحد التابعين أو من أمثالهم؟ وهذا لم يثبت، لكن لو ثبت عن صحابي أو عن تابعي فإن الحجة هي فيما يثبت عن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، وما صح فنحن تبع له كما فعل هَؤُلاءِ الأئمة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين.