المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وإن كَانَ مراده الإقسام عَلَى الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق عَلَى المخلوق لا يجوز فكيف عَلَى الخالق؟ وقد قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من حلف بغير الله فقد أشرك } ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رَحِمَهُ اللهُ لما بلغه الأثر فيه، وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك.
ومراده لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كَانَ هذا هو التوسل الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما خرجوا يستسقون: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كَانَ ذلك مراداً لكان جاه النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأعظم من جاه العباس] إهـ.

الشرح:
صور التوسل تنحصر في ثلاث صور إما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو بجاه نبيك مثلاً، أو بجاه فلان من النَّاس عندك.
وإما أن يقول: أسألك باتباعي لنبيك، أو بمحبتي له.
وسبق أن قلنا: إن الإِنسَان إذا قَالَ: اللهم بحق نبيك، هكذا مجملة من غير أن يأتي بالفعل "اعطنا كذا" "اغفر لي" -أو بحق أي مخلوق- يحتمل الأمر وجهين: أن يكون سؤالاً وأن يكون إقساماً، فعلى هذا يكون الجاه "بحق" متعلقة بأي شيء لنقدر الفعل "أسأل" فكأنه قَالَ: اللهم إني أسالك بحق فلان، وإذا كانت كذلك كَانَ الاحتمال الآخر فكان الجاه متعلقه بفعل هو "أقسم" فكأنه يقول: أقسم عليك يا ربي بحق فلان، سواءً كَانَ ذلك النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره، أما إذا كَانَ الإقسام سؤالاً بالحق كَانَ يقول رجل: اللهم إني أسألك بحق نبيك مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بحق فلان من النَّاس عندك أن تغفر لي فهذا الوجه من التوسل البدعي إذ لا مناسبة ولا علاقة بين كون هذا الرجل له حق عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبين أنك أنت ذلك الأجنبي البعيد تدعو الله أو تسأله بحق فلان عندك، ما العلاقة بينك وبين فلان؟
فاللهُ تَعَالَى له عباد طائعون وله عباد عاصون، وله أولياء وله أعداء، ويجازي هذا بطاعته وبتقربه ويجازي ذلك بمعصيته.
فما العلاقة أن مقصراً أو عاصياً يقول: يا رب! أسألك بحق فلان -عبدك الذي أطاعك- أن تغفر لي. ما العلاقة بينهما؟ إن هذا الشيء محذور وبدعي؛ لأنه لا يثبت أصلاً لأحد عَلَى الله حق، وإنما كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك عَلَى نفسه، وجعله حقاً يجازي به ذلك المحسن، فما علاقة المسيء الذي يريد أن يدعو ربه من خلال حق فلان عنده؟ هذا هو الوجه الأول.

وقد استطرد المُصنِّفُ في الكلام السابق وتعرض لحديث: {أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين} وقد بينا أن هذا الحديث لا يحتج به ولا يثبت بحال من الأحوال، وعلى تقدير ثبوته فإنه لا وجه فيه للاستشهاد، لأن قوله: (بحق ممشاي وبحق السائلين) يدخل في عمل العبد نفسه، وأنه عمل المشي، وهو من جملة السائلين فهذا لا يدخل ولا يصلح دليلاً لما يستدلون به عَلَى جواز أن يقول الإِنسَان: أسألك بحق فلان؛ لأن كون الإِنسَان من جملة المجاهدين أو الحاجين أو المصلين، ويسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بذلك،هذا أقرب إِلَى أن يكون التوسل مباحاً؛ لأنه هو الذي عمل هذه الطاعة فهو يرجع في الحقيقة إِلَى النوع الثالث المباح الذي سوف نبينه إن شاء الله، وهو أن يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعمل الصالح، أو باتباع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته، وهذا لا خلاف في جوازه، بل هذا هو كل العبادة وهذه حقيقة العبادة، وهي ابتغاء الوسيلة إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ ذكر المُصنِّفُ أن هذه الأدعية البدعية توجد في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرُّقية وسبق أن التوسل الموجود فيها هو في الحقيقة من النوع الشركي؛ لأنه توسل بأسماء مجهولة، وهي في الغالب أسماء شياطين من الجن، يتقرب إليهم أصحاب الهياكل والحروز بهذه التوسلات، وغيرها من أنواع التعبدات، في مقابل أن يقدموا لهم أي خدمة، كَانَ يدخلوا في إنسان ثُمَّ يتركوه، أو يعطوه أمراً كخبر عن غائب، المهم أن يخدموه في أي قضية من القضايا التي هي من باب الاستمتاع الذي ذكره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  1. الدعاء من أفضل العبادات

    ختم المُصنِّف هذه الفقرة بقوله: [والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها عَلَى السنة والاتباع، لا عَلَى الهوى والابتداع] وحينما يكون دعاء أكثر الْمُسْلِمِينَ الذين وقعوا في هذه البدعة "اللهم وبجاه نبيك" أو "بحق نبيك" كلما جلس أو قام، وكلما تذكر أن له حاجة، يتحول الأمر إِلَى اعتداء وابتداع، في حين أن الأدعية المشروعة المأثورة في القُرْآن والسنة كثيرة جداً، ومع ذلك فالدعاء المباح بابه واسع.
    وكون الدعاء من أفضل العبادات يدل له أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الدعاء هو العبادة} فحقيقة العبادة بجميع أنواعها هي التقرب إِلَى الله لنيل رضاه واجتناب سخطه هذه هي: التي من أجلها يسعى الساعون جميعاً، من الأَنْبِيَاء والملائكة إلى أدنى عباد الله، هذا هو غايتهم، إذاً فالدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء في حقيقتها.

    والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو الذي شرع لنا الدين، وأمرنا بعبادته، وجعل لنا هذا الطريق المشروع الواضح إليه، وأرسل رسله ليبينوه، فهل يضيِّقون علينا طريق دعائه، وطريق الوسيلة إليه، فلا يكون إلا عن طريق التوسل بالذوات المخلوقة، قلنا: هذا لا يمكن. وقد ذكر الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان هَؤُلاءِ الجُّهال عند تفسير قوله تَعَالَى من سورة المائدة: ((أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ))[المائدة:35] قَالَ: وليست الوسيلة ما يزعمه جهال الملاحدة من الصوفية وأمثالهم أنها الواسطة، وبين أن من الوسيلة هي: العمل الصالح فقوله:((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) أي: تقربوا إليه وتوسلوا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بما شرع.
    وكما بين المصنف: أن العبادات مبناها عَلَى السنة والاتباع فنتقرب إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ونتوسل إليه بالاتباع بما شرع، لا بالأهواء والبدع.