المادة    
  1. التوسل المشروع

    وهو ماذكر في الفقرة الثالثة، وهذا النوع من التوسل لا خلاف فيه وَلله الحمد بين العلماء بل هو الذي ينبغي أن نتوسل به إِلَى الله تَعَالَى بعد توسلنا إليه بأسمائه الحسنى. كما علَّمنا ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأخبرنا عن حال أولي الألباب الذين قالوا: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا))[آل عمران:193] وهذا العمل الصالح هو أعظم الأعمال، كما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل أي العمل أفضل؟ قَالَ: (إيمان بالله وبرسوله) فهذا هو العمل المتوسل به والمطلوب في هذا التوسل هو ((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ))[آل عمران:193] ومثل هذا في القُرْآن والسنة كثير، وسوف نذكره إن شاء الله في موضعه.
    والمقصود أنه يبقى نوعان من التوسل هما اللذان فيهما الإجمال أو الإشكال، النوع الأول كقوله: "اللهم بحق نبيك" أو "بحق الشيخ فلان" أو "بحق الوالي فلان"، وهو يقصد بذلك: أن يقسم عَلَى الله تعالى بهذا المتوسل به، وهذا فيه محذوران كما تقدم، ويأتي بعد ذلك إن شاء الله تفصيل الكلام في النوع الثاني.

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن الله هو المنعم عَلَى العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم وترك تعذيبهم معنىً لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً].
    والمقصود بهذا النوع في الحديث: (لا يعذبهم) من حقق كمال اليقين وكمال الإخلاص، وفي الوقت نفسه لم يأت بكبائر الذنوب التي تضعف ذلك وتوهنه. والأحاديث التي وردت في فضل قول: "لا إله إلا الله" عَلَى نوعين:
    النوع الأول: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" عَلَى الروايات المطلقة، والروايات المقيدة {خالصاً من قلبه} أو {غير شاك}، وأمثالها دخل الجنة.
    والنوع الثاني: التي تدل عَلَى أن من قال: "لا إله إلا الله" حرم الله عليه النَّار كما في حديث عتبان الطويل وفيه {فإن الله حرم عَلَى النَّار من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}.
    والوعد بدخول الجنة ليس معناه أنه لا يدخل النَّار إذ يحتمل أن يدخل النار، ثُمَّ يخرج منها، لأنه من أهل التوحيد -كما سبق معنا في أبواب الشَّفَاعَة الماضية-، أما النصوص التي جاءت بتحريم النَّار عليه كما في قوله: {فإن الله قد حرم النار} وقوله: {إلا غفرت لك ولا أبالى} وأمثال ذلك مما جَاءَ فيمن حقق التوحيد فإنها تفيد معنى آخر.
    وهو أن الذي حرم الله تَعَالَى عليه النَّار لاشك أن توحيده ويقينه وإخلاصه وصدقه أعظم من ذلك الذي جَاءَ فيه الوعد بأنه يدخل الجنة.
    وحديث معاذ قوله: {حقهم عليه أن لا يعذبهم} من النوع الثاني ومثل حديث عتبان رضى الله تَعَالَى عنه الذي يفيد أن من حقق التوحيد يحرم عَلَى النار، وهذا كما ذكر شَيْخُ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أن هذا الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأتي بهذه الشهادة مع اليقين والإخلاص والصدق، ولم يأتِ معها بسيئات تضعفها أو توهنها، وهذا يحتمل في حقه حالتين:
    الحالة الأولى:
    أن يكون شهد أن لا إله إلا الله بهذا اليقين والإخلاص والصدق وحقق سائر الشروط، ثُمَّ ظلَّ يقوي إيمانه ويجاهد نفسه وكلما أرادت نفسه أن تضعف درجتها ومنزلتها في التوحيد والإيمان قواها، فلقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو لم يزل عَلَى تلك القوة في الإيمان وفي تحقيق الشهادة، فلذلك حَرُمَ عَلَى النَّار.

    الحالة الثانية:
    ارتكب المعاصي ثُمَّ حقق شروط التوحيد: كمن ارتكب من الموبقات والذنوب والمعاصي ما شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعند قرب الموت تاب توبة نَصوحاً، وشهد أن لا إله إلا الله بيقين وصدق وإخلاص، وحقق شروطها، لقي ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو لم يقارف ما يوهنها من كبيرةٍ أو إصرارٍ عَلَى صغيرة، فهذا حاله يكون من النوع الأخير وهو الذي (حرم الله عليه النَّار) ومن هذه الطائفة السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهَؤُلاءِ هم قمة وذروة من حقق التوحيد من المؤمنين، وبهذا نعرف حقيقةُ مذهبِ السلف الصالح رِضْوُانُ اللهِ تَعَالَى عليهم، ومباينته لما كَانَ عليه الخوارج والمعتزلة من جهة، والمرجئة من جهة أخرى، عافانا الله وإياكم من الضلال.
  2. التوسل الممنوع

    ثُمَّ يقول المصنف: [لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً] أي: أن السبب هو ما جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سبباً، لا ما يتوهمه النَّاس سبباً، فترك تعذيب أهل التوحيد معنى من المعاني لم يجعله الله تَعَالَى سبباً من الأسباب التي نتوسل بها إليه، بل هو مسألة أجنبية بعيدة فقول القائل: "بحق فلان" أو "بجاه فلان" أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فله جاه عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومنزلة عظيمة، لكن هذا القائل أجنبي عن هذا الجاه وعن هذه المنزلة.
    وقد وعد اللهُ تَعَالَى أهل الخير والصلاح والتقوى بالأجر العظيم، فما شأن هذا القائل عندما يتوسل إِلَى ربه بمنزلة غيره؟! وما العلاقة؟! لِمَ يسأل الله بعمل غيره والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا جميعاً عبيداً له، وافترض علينا عبادته وطاعته، وجعل لنا أسباباً مشروعة هي الوسيلة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمرنا أن نبتغي إليه الوسيلة بها، وهي توحيده جل وعلا وطاعته، وشرع لنا ما نتوسل به إليه وهي أسماؤه الحسنى، وكذلك الأعمال الصالحة عَلَى ما يأتي تفصيله إن شاء الله، ولكن المقصود هنا أن السبب هو ما جعله الله تَعَالَى سبباً لا ما جعله النَّاس أو توهموه أنه سبب، وهذا من القول عَلَى تَعَالَى بغير علم، أن يظن بعض النَّاس أن منزلة فلان عند الله تشفع للأجنبي فلان بن فلان!!

    أما إذا قال قائل: "اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي أو باتباعي لرسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لم تعد القضية علاقة أجنبية؛ بل أصبح هناك رابطاً لأن اتباعه ومحبته للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمله، وهو في هذه الحالة يتوسل إِلَى ربه بعمله الذي عمله، وهو محبته له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتباعه له، وهذه هي الوسيلة المشروعة التي شرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والتي وصف بها أولياءه في القُرْآن بأنهم يتوسلون إليه بالإيمان به وبطاعته.