إنَّ التيار الوارد السؤال عنه لم ينشأ في فراغ، فإننا أحياناً نكثر في الحديث عن الغزو الفكري، وعن خطط الأعداء، وهذا أمر مهم جداً، ولكنه ينبغي علينا أن لا نهمل الأمر الذي يمكن كيد الأعداء منا، ذلكم هو الخلل الذي يرتكبه المسلم على مستوى الأمة أو الفرد فتحل العقوبة، وقد حدث على اجتهاد بسيط من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أُحد أن نزلت آيات قرآنية ترسم منهج المحاسبة: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[آل عمران:165].
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[والله ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله تبارك وتعالى .((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))[آل عمران:152] ]] فالشاهد أنه لم ينشأ هذا التيار وغيره من الأفكار الضارة إلا حين ابتعد أهل السنة والجماعة عن المنهاج الرباني، وحين سيطرت الخرافة على معظم رقعة العالم الإسلامي، حتى جاء في وقت من الأوقات كان المدخل الوحيد لهذا الدين هو الصوفية، ويرددون مقولتهم المشهورة: من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان.
وذكر الشيخ محمد رشيد رضا طرفة مضحكة مبكية: أنه لما قدمت جحافل استالين للاستيلاء على الممالك الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفييتي، ذهب الناس في تلك الفترة إلى العلماء فقالوا: هاهي الجيوش الملحدة قد قدمت، فما الحل تجاه الكفرة الملاحدة؟
فانظروا إلى الإجابة، وانظروا إلى الواقع العملي، إن هؤلاء العلماء لم يرشدوا الأمة إلى مصدر العزة وإلى الرجوع إلى دين الله، والاعتصام بالحبل المتين، وإنما لجئوا إلى الخرافة، فقال لهم الشيوخ: المسألة بسيطة، نذهب إلى قبر الولي النقشبندي، فإذا اقتربت الجيوش طفنا بقبر "نقشبند" ونستغيث به فبلحظة يخرج يده ثم بإشارة يمسح هذه الجيوش الملحدة.
فذهبت هذه الجموع المستغفلة لتطوف بقبر "نقشبند"، وتقول: يا نقشبند انقذنا من استالين، يا نقشبند انقذنا من استالين، وينتظرون اليد المباركة متى تخرج لتدمير جحافل استالين، وفي أول ضربة تقول الإحصائيات في العشرة الأيام الأولى أنه ذهب ثلاثة ملايين قتيل.
إذاً غفلة أهل الحق هي التي تسمح بانتشار الباطل، والتيار الذي نتحدث عنه هو أنه نشأ جيل يسمى جيل الهزيمة، موجود في قلوبهم حب للإسلام، ويريدون التلفيق -ولا أسميه التوفيق- بين الحضارة الغربية التي بهرت الناس وبين هذا الإسلام، فينظرون إلى الكافر على أنه في المكان العالي، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم أقزام، وحققوا ما صبا إليه الاستعمار، من أنه وجد في هذه الفترة التي نشأ فيها هذا التيار جيل ينتسب إلى الإسلام تربى على المبادئ والأفكار الغربية.
ونشأ هؤلاء الذين يريدون أن يبرزوا للناس أنهم علماء متحضرين أو كما يسمون الإسلام "المودرن"، ويطوعون الفتاوى المطلوب تطويعها؛ لأن هناك صنماً يخشى من جبروته وهو الاستشراق، فيبررون بهذه الفتاوى ما يجعلهم يقفون أمام المستشرقين وأذنابهم على أنهم أصحاب رقي، وأصحاب تطور، ويمكن أن يوفقوا بين الحضارة الغربية، والإسلام وهؤلاء يقول فيهم الشاعر:
لكيما يقال الشيخ حرٌ ضميره            فيبلغ عند القوم مرتبة كبرى