إذا قدرنا أن هذا البيت صحيح، وأنه بنفس لفظة (الكلام) فإنَّ الاستدلال به لا يجوز شرعاً؛ لأن
الأخطل شاعر نصراني، ومعلوم أن شعراء العهد الأموي ثلاثة -الذين هم الطبقة الأولى-:
جرير، و
الفرزدق، و
الأخطل وقد كَانَ
الأخطل تغلبياًً نصرانياً من ديار بكر وتغلب التي تسكن في شمال
العراق، وكانت
النصرانية قد دخلت العرب؛ لمجاورتهم للروم حيث دخلوا في دينهم، فكانوا عَلَى تلك الملة، والإِنسَان لابد أن تظهر عقيدته في كلامه وفي شعره وفي نثره، فإذا قال هذا الشاعر النصراني:
إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
فلا غرابة في ذلك؛ لأن هذا اعتقاده ودينه الذي يدين به.
فالنَّصَارَى قد ضلوا في مفهوم الكلمة، حيث إنهم جعلوا عيسى عَلَيْهِ السَّلام هو نفس الكلمة، فهم يقولون: الكلمة تجسدت في عيسى، وعندهم أن عيسى هو كلمة الله بمعنى أنه هو ذات كلمة الله.
أما نَحْنُ فإننا نعتقد أن عيسى كلمة الله كما أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في قول الملائكة لمريم ((إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) [آل عمران:45]، وكما جَاءَ أيضاً في الحديث الآخر الصحيح {وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه}، وسمي بالكلمة: لأنه وجد بكلمة من الله، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- قال له: كن، فكان ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [آل عمران:59] فليس عيسى هو نفس كلمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولكن لأنه وجد بالكلمة، فأطلقت عليه الكلمة، وليس هو نفس ذات الكلمة، فهو خارج عن العادة في الخلق، فالعادة أن يُخلق النَّاس من أم وأب إلا أن آدم خلقه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنه أول الخلق من غير أم ولا أب، وخلق المسيح من أم بلا أب، فهذا مثل هذا من حيث أنه وجد بكلمة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس بالعادة والسنة الإلهية التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كل مولود.
فـالنَّصَارَى تقول: إن عيسى هو نفس الكلمة، وعيسى الذي هو كلمة الله هو بشر من ناحية، وهو إله من ناحية أخرى، فاتحد الناسوت باللاهوت، أي: اتحد عنصر الناسوت الإنسي البشري باللاهوت وهو العنصر أو الأقنوم الإلهي، فتركب منهما عيسى عَلَيْهِ السَّلام، ولذلك يقول النَّصَارَى كما في الأناجيل وكما يرددونه في الإذاعات: إن المسيح لمَّا ركبَ في الزورق هو وطائفة من أصحابه، فهاج بهم الموج، فخافوا من الغرق، فكان عيسى لمَّا خاف من الغرق في الحالة الناسوتية -أي: أنه بشر مثل البشر خاف أن يغرق- وبعد قليل قال عيسى عَلَيْهِ السَّلام للزورق: اهدأ فهدأ البحر وهدأ الزورق ونجا هو وأصحابه، فَقَالُوا: في هذه الحالة كَانَ يتكلم باسم الحالة اللاهوتية.
وعندما يقولون: إنه صُلِبَ، فقد ردَّ اللهُ عَلَى كذبهم بقوله: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))[النساء:157] فيقولون كما في بعض الأناجيل: إنه لما وضع عَلَى الصليب قَالَ: إيلي إيلي باللغة السريانية يعني إلهي إلهي! أو يا ربي يا ربي! أو يا الله يا الله! لماذا تركتني؟! فلما نادى عيسى هذا النداء في هذه الحالة كَانَ في الحالة البشرية الناسوتية؛ لأنه دعا الله، لكن بعد ثلاثة أيام من الصلب كما يزعمون عاد ورجع وخاطب النَّاس ورأوه وكان في صورته الإلهية.
فـالنَّصَارَى هذا دينهم وهذا مفهومهم في الكلمة فكيف نأخذ كلامهم، حتى لو قال
الأخطل هذا البيت وثبت عنه فلا نأخذ بكلام شاعر نصراني هذه عقيدته في الكلام وفي المسيح عَلَيْهِ السَّلام ويقول المُصنِّف في ذلك: [أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام عَلَى معنى الكلام، ويُترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب] وهذا غير ممكن.