المادة كاملة    
في هذا الدرس دحض لشبه القائلين بالكلام النفسي، مع تفنيد آرائهم تفنيداً لا شبهة فيه، مع الاستناد إلى ما ذكره ابن أبي العز -رحمه الله- من ردود عليهم.
  1. شبه القائلين بالكلام النفسي

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
    [وأما من قال إنه معنىً واحد، واستدل عليه بقول الأخطل:
    إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما            جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
    فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء عَلَى تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به.
    فكيف وهذا البيت قد قيل: إنه موضوع منسوب إِلَى الأخطل وليس هو في ديوانه.
    وقيل: إنما قَالَ: " إن البيان لفي الفؤاد"، وهذا أقرب إِلَى الصحة.
    وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النَّصارَى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت أي شيء من الإله بشيء من الناس؛ أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟!
    وأيضاً: فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به، ولم يسمع منه، والكلام عَلَى ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة.
    وهنا معنى عجيب وهو أن هذا القول له شبهٌ قويٌ بقول النَّصارَى القائلين باللاهوت والناسوت، فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النَّصارَى في عيسى عَلَيْهِ السَّلام، فانظر إِلَى هذا الشبه ما أعجبه] إهـ.

    الشرح:
    استدل الذين يقولون: بأن كلام الله هو الكلام النفسي، بأن القُرْآن المتلو والمحفوظ والمسموع والمقروء الذي بين أيدينا في المصاحف مخلوق، وأن الكلام الذي هو صفة الله هو المعنى القائم في نفسه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ومن جملة الشبهات التي أوردوها: عَلَى ذلك البيت المنسوب إِلَى الأخطل وهو:
    إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما             جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
    يقولون: إن هذا الشاعر يعبر ويشرح معنى الكلام ويقول: إن الكلام لفي الفؤاد، فالكلام في الحقيقة هو ما في النفس، أي: ما يقوله الفؤاد وما يقوم في القلب من المعنى، وأما اللسان فإنما هو مُعبِرٌ عمَّا في الفؤاد فقط، ولذلك فهم عندما يقولون: إن القُرْآن ليس هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فإن هذا المعنى صحيح؛ لأنه يتفق مع هذا البيت، وقد أخذ العلماء في رد هذا القول من عدة أوجه كما ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا جملة من ذلك.
    1. الوجه الأول : أن البيت مصنوع

      هذا البيت موضوع كما في بعض النسخ، والأفضل أن يُقَالَ: إنه مصنوع؛ لأن كلمة موضوع خاصة بمصطلح الحديث وهو الأولى، فالحديث المكذوب عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقال له: الموضوع؛ لأنه وضع عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وأما الأبيات المنتحلة أو المكذوبة، كأن يقول الرجل أبياتاً من عنده، وينسبها إِلَى أحد الشعراء، فيُقَالَ: إن هذه القصيدة مصنوعة أو منحولة، يُقَالَ: شعرٌ منحول أو شعر مصنوع، والذي في بعض النسخ مصنوع وهو الأرجح.

      فإذا هذا البيت لم يقله الأخطل، فالقول الأول في رده: أنه لم يثبت أن هذا الشاعر قاله.
    2. الوجه الثاني : ورود البيت برواية أخرى

      ورد فيما نُسبَ إِلَى الأخطل برواية أُخرى غير رواية
      إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
      وهي:
      إنَّ البَيَانَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
      والبيان غير الكلام، وإنما الخلاف والنقاش في موضوع الكلام، وأما البيان فهذا أمر آخر، فاللسان يعبر عما في الفؤاد من البيان بمعنى: أن الإِنسَان يسوغ الفكرة في قلبه، ثُمَّ يعبر عنها باللسان، أو بالكتابة، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه ولا غبار عليه.
    3. الوجه الثالث : أن الأخطل نصراني ولا يستدل بقوله

      إذا قدرنا أن هذا البيت صحيح، وأنه بنفس لفظة (الكلام) فإنَّ الاستدلال به لا يجوز شرعاً؛ لأن الأخطل شاعر نصراني، ومعلوم أن شعراء العهد الأموي ثلاثة -الذين هم الطبقة الأولى-: جرير، والفرزدق، والأخطل وقد كَانَ الأخطل تغلبياًً نصرانياً من ديار بكر وتغلب التي تسكن في شمال العراق، وكانت النصرانية قد دخلت العرب؛ لمجاورتهم للروم حيث دخلوا في دينهم، فكانوا عَلَى تلك الملة، والإِنسَان لابد أن تظهر عقيدته في كلامه وفي شعره وفي نثره، فإذا قال هذا الشاعر النصراني:
      إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما
      فلا غرابة في ذلك؛ لأن هذا اعتقاده ودينه الذي يدين به.
      فالنَّصَارَى قد ضلوا في مفهوم الكلمة، حيث إنهم جعلوا عيسى عَلَيْهِ السَّلام هو نفس الكلمة، فهم يقولون: الكلمة تجسدت في عيسى، وعندهم أن عيسى هو كلمة الله بمعنى أنه هو ذات كلمة الله.
      أما نَحْنُ فإننا نعتقد أن عيسى كلمة الله كما أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في قول الملائكة لمريم ((إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) [آل عمران:45]، وكما جَاءَ أيضاً في الحديث الآخر الصحيح {وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه}، وسمي بالكلمة: لأنه وجد بكلمة من الله، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- قال له: كن، فكان ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [آل عمران:59] فليس عيسى هو نفس كلمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولكن لأنه وجد بالكلمة، فأطلقت عليه الكلمة، وليس هو نفس ذات الكلمة، فهو خارج عن العادة في الخلق، فالعادة أن يُخلق النَّاس من أم وأب إلا أن آدم خلقه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنه أول الخلق من غير أم ولا أب، وخلق المسيح من أم بلا أب، فهذا مثل هذا من حيث أنه وجد بكلمة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس بالعادة والسنة الإلهية التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كل مولود.
      فـالنَّصَارَى تقول: إن عيسى هو نفس الكلمة، وعيسى الذي هو كلمة الله هو بشر من ناحية، وهو إله من ناحية أخرى، فاتحد الناسوت باللاهوت، أي: اتحد عنصر الناسوت الإنسي البشري باللاهوت وهو العنصر أو الأقنوم الإلهي، فتركب منهما عيسى عَلَيْهِ السَّلام، ولذلك يقول النَّصَارَى كما في الأناجيل وكما يرددونه في الإذاعات: إن المسيح لمَّا ركبَ في الزورق هو وطائفة من أصحابه، فهاج بهم الموج، فخافوا من الغرق، فكان عيسى لمَّا خاف من الغرق في الحالة الناسوتية -أي: أنه بشر مثل البشر خاف أن يغرق- وبعد قليل قال عيسى عَلَيْهِ السَّلام للزورق: اهدأ فهدأ البحر وهدأ الزورق ونجا هو وأصحابه، فَقَالُوا: في هذه الحالة كَانَ يتكلم باسم الحالة اللاهوتية.
      وعندما يقولون: إنه صُلِبَ، فقد ردَّ اللهُ عَلَى كذبهم بقوله: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))[النساء:157] فيقولون كما في بعض الأناجيل: إنه لما وضع عَلَى الصليب قَالَ: إيلي إيلي باللغة السريانية يعني إلهي إلهي! أو يا ربي يا ربي! أو يا الله يا الله! لماذا تركتني؟! فلما نادى عيسى هذا النداء في هذه الحالة كَانَ في الحالة البشرية الناسوتية؛ لأنه دعا الله، لكن بعد ثلاثة أيام من الصلب كما يزعمون عاد ورجع وخاطب النَّاس ورأوه وكان في صورته الإلهية.
      فـالنَّصَارَى هذا دينهم وهذا مفهومهم في الكلمة فكيف نأخذ كلامهم،
      حتى لو قال الأخطل هذا البيت وثبت عنه فلا نأخذ بكلام شاعر نصراني هذه عقيدته في الكلام وفي المسيح عَلَيْهِ السَّلام ويقول المُصنِّف في ذلك: [أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام عَلَى معنى الكلام، ويُترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب] وهذا غير ممكن.
    4. الوجه الرابع : أن معنى البيت غير صحيح

      لأن لازمه أن يكون الأخرس متكلماً كما قد أوضحنا ذلك مراراً، فإذا كَانَ الكلام هو ما في الفؤاد، وليس ما ينطق به اللسان، فإن الأخرس الذي لا يتكلم بلسانه يسمى متكلماً؛ لأنه بطبيعة الحال يفكر بقلبه، ويحدث نفسه بأشياء ويتكلم في نفسه عَلَى هذا المفهوم، ثُمَّ يؤشر بإشارة ويُعبر فيفهمُ النَّاس أنه يريد كذا أو يريد كذا.
    5. الاستدلال بخبر الآحاد والرد عليهم

      هنا قضية مهمة لابد أن نعلمها وهي من أهم الأصول في مسائل العقيدة وهي موضع الفصل بين أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من جهة، وبين غيرهم من الطوائف من جهة أخرى، وهي ما أشار إليه المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى بقوله: [ولو استدل مُستدلٌ بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء عَلَى تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به] أي: لو جئناهم بحديث من الصحيحين قد اتفق العقلاء عليه وعلى تلقيه بالقبول، وقلنا لهم: هذا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يقولون: هذا خبر آحاد وخبر الآحاد لا يحتج به في العقيدة، هذا مذهب عموم أهل الكلام والمعتزلة والأشعرية.
      فيحتجون كما يقولون بالبراهين القطعية الثابتة، أما الأدلة الشرعية، فهم يقولون: إن ما جَاءَ في القرآن، وما جَاءَ في السنة فإنها عَلَى أحد نوعين:
      النوع الأول: إما أن تكون الآيات أو الأحاديث متواترة.
      النوع الثاني: أن تكون الأحاديث التي رويت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آحاداً، أما الآحاد فلا يشتغلون بها نهائياً، حتى قال قائلهم وهو أبو المعالي الجويني: إن اشتغلنا به عَلَى سبيل التبرع فنؤوله، وإذا أولناه فلا ننظر إليه نهائياً مادام أنه في باب العقيدة، لكن لو اشتغلنا به فهو تبرع منا أو تطوع ونؤله، هذا موقفهم من خبر الآحاد حتى أن بعض زعماء المعتزلة يقول: المتواتر هو: ما رواه سبعون عن سبعين إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقل من هذا العدد، فلا يحتج به، وهذا المتواتر إذا خالف البراهين العقلية، فإنهم يؤلونه، والحجة عندهم هو: ما نقلوه عن أفلاطون وأرسطو وأمثالهما.
      وأما القُرْآن والسنة فنؤلهما لتوافق هذه القواعد.
      إذاً ما الفائدة من إنزال القرآن؟ أمن أجل أن نشتغل بتأويله ليوافق ما قاله أرسطو وأفلاطون! ومن ثُمَّ ننظر ما ثبت متواتراً منها اشتغلنا بتأويله وما كَانَ آحاداً رددناه! فهذا مضيعة مشغلة، وكان الأولى أن نشتغل ونجعل الوقت والجهد كله فيما قرره هَؤُلاءِ من القواعد والبراهين وننتهي من إضاعة العمر في رد ونقض القُرْآن والسنة وتأويلها لتوافق ما قالوا.
      هذا هو لازم لهم بأي حال من الأحوال ولا يمكن أن يحيدوا عنه أبداً والواقع معلوم، وكما يعلم كل ذي لب من مؤرخ أو مفكر مؤمن وغير مؤمن أن علم اليونان وعلم غيرهم كَانَ موجوداً قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان متداولاً حتى في بعض الأقطار التي فتحها الْمُسْلِمُونَ مثل بلاد الشام وبلاد مصر وكانت هذه الفلسفات معروفة فماذا أغنت عنهم وما أعطتهم من الحق والهدى؟ لم تعطهم إلا الضلال والحيرة والعياذ بالله، فلا بد إذاً من الرجوع إِلَى الكتاب وإلى السنة
      ولو نظرنا إِلَى ما يمكن أن نرد به على هَؤُلاءِ من واقع دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسنجد الإمام البُخَارِيّ رحمه الله تعالى عقد باباً في صحيحه سماه أخبار الآحاد وأيضاً كتاباً آخر أسماه الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد تعمد الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يعقد هذا الباب لينبه إِلَى هذه المسألة المهمة، ويبين لنا خطر ما يدعو إليه أُولَئِكَ المتكلمون وذكر فيه جملة من الأحاديث التي تبين وتقطع ببطلان دعوى التواتر.
      ومن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا بعث الرسل إِلَى ملوك الأرض قاطبة ليبلغهم العقيدة فبعث دحية الكلبي إِلَى هرقل ملك الروم وهو رجل واحد ولم يبعث عشرين ولا ثلاثين ولا سبعين.
      وبعث إِلَى الفرس أيضاً رجلاً واحداً.
      وبعث كذلك إِلَى المقوقس ملك، أو عظيم القبط رجلاً واحداً، ولنفرض أنهم رجلين، فهذا لا يؤثر، فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن ثُمَّ أبا موسى الأشعري وهم آحاد ولم يصل العدد إِلَى حد التواتر، وقد كَانَ يأتي إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل مثل عامر بن الطفيل الدوسي ومثل ضمام الذي قال أنا ضمام أخو بني سعد بن بكر، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التوحيد والإيمان ثُمَّ رجع وأنذر قومه وبلغهم.
      وكثير من هَؤُلاءِ الصحابة الذي كَانَ يذهب الواحد منهم ويعود إِلَى قومه ويبلغهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك أهل المدينة كيف دخلوا في الإسلام، هل أرسل لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدد التواتر؟
      إنما بعث إليهم مصعب بن عمير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رجلاً واحداً أدخلهم في الإسلام حتى أنهم استقبلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأحضان من أول يوم وصل المدينة، وإذا به سيد المدينة، وحاكمها المطلق، فآمنوا واهتدوا وهم أفضل الأمة بعد المهاجرين بدعوة رجل واحد.

      فدعوى من يقول: إن العقيدة لا تؤخذ عن الخبر الواحد دعوى واضحة البطلان، ومن ذلك ما يقول به كثير من النَّاس اليوم، الذين يردون بعض الأحاديث الصحيحة، كحديث الذباب فيجدر بنا أن نتنبه إِلَى خطورة هذه القضية: بعض النَّاس قد يكونون إسلاميين أو دعاة أو ما أشبه ذلك، ولكنهم منحرفون في هذه القضية ولا يضرنا ذلك ومن ذلك ما راج من بدعة إنكار آحاد السنة وبالذات حديث الذباب الذي صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} فردوا هذا الحديث مع أنه حديث صحيح ثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إن العلم يثبت أن هناك ميكروبات، فكيف يردونه؟
      قالوا: هذا آحاد، لم يثبت بالتواتر، سُبْحانَ اللَّه! ولو أننا من أجل حديث الذباب لا بد أن نأتي برواية أربعين عن أربعين، أو ثلاثين عن ثلاثين، أو سبعين عن سبعين، فمعنى ذلك أن لا إله إلا الله والصلاة لابد له من رواية ألف عن ألف عن ألف، حتى تثبت وهذا شيء عجيب، وإذا كانوا يريدون التواتر في الذباب إذاً متى يقبلون منَّا خبر الآحاد؟ ولماذا يجهد البُخَارِيّ ومسلم والإمام أَحْمَد أنفسهم ويجمعون الطرق.
      وبعض الصحابة ما روى إلا حديثاً واحداً عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لقيه إلا تابعي واحد أو اثنان، فمعنى ذلك: أن من كَانَ الراوي له من التابعين واحد أو اثنان أو أقل من التواتر فإننا نرد جميع أحاديثه، ومن ذلك بعض أمهات المؤمنين؛ لأنه لم يكن يدخل عليهن أو يخاطبهن إلا بعض أقاربهن فمعنى ذلك أن نرد كل ما روي عنهن؛ لأنه لم يرد عنهن عدد التواتر سبعين أو أربعين أو ثلاثين مثلاً مع الخلاف الذي بين المعتزلة، فهذه من أبطل الدعاوى وأكثرها بهتاناً وإفكاً فالغرض منها هو هدم الدين من أساسه ولكن غلَّفوا ذلك الهدم باسم أننا نريد التواتر ونريد أن نستوثق؛ لأن الراوي الواحد قد يخطئ وقد ينسى وقد يضل وغيرها من الاحتمالات ونحن لا ننكر أن بعض الرواة يخطئ، وهذا موجود!
      وقد قال علماؤنا في نقدهم للأحاديث في المتون: هذه الكلمة مدرجة، وأخطأ الراوي في هذه الكلمة، وأصاب فلان، وَقَالُوا: هذا الحديث شاذ، والشاذ هو ما خالف فيه الثقة ثقات آخرين، فهم يعرفون هذا، فما قلنا ولم نقل: إن كل من روى له البُخَارِيّ أو مسلم أو كل من قال العلماء: إنه ثقة أو صدوق أنه معصوم لا يخطئ، لم يقل ذلك أحد من العلماء بإطلاق؛ لكن هل يرد حديثه بناءً عَلَى أنه غير معصوم؟!
      ونضرب عَلَى ذلك مثالاً واقعياً: الآن هل يوجد طبيب في الدنيا معصوم لا يمكن أن يخطئ في أي علاج، لا، بل كل طبيب يمكن أن يخطئ، فلو جَاءَ وقَالَ: ما دام أنه كذا فتغلق جميع المستشفيات وجميع العيادات ولا نقبل أي شيء لأنه من الممكن أن يخطئ فمن الممكن أن يذهب أحد النَّاس ويعطي له إبرة أو حبوب أو شيء فيموت، فما دام أنَّ احتمال الخطأ وارد فلا نقبل من أي طبيب عَلَى الإطلاق، ويصبح النَّاس لا يتداوون ولا يتعالجون، فيقول النَّاس عن هذا: إنه مجنون فلو أنه أخطأ مرة أو مرتين فالخطأ يمكن أن يتدارك، ولو لم يتدارك فجانب المنفعة عظيم جداً والخطأ نزر وقليل فيغتفر ويحتمل.
      فكذلك عندما يقولون ألستم تعترفون أن الرواة قد يخطئون نقول: قد يخطئ، فهل ما دام أنه قد يخطئ إذاً لا نقبل أي حديث، سُبْحانَ اللَّه!! هذا الكلام لا نقبله منهم، بينوا لنا أنه أخطأ في هذه اللفظة، ونحن لا نقول بهذه اللفظة، أعطونا الدليل عَلَى ذلك، قولوا: قال أَحْمَد، قال البُخَارِيُّ، قال ابن معين، قال ابن المديني، قال النَّسَائِيُّ، قال أبو داود: إن هذا أخطأ في هذه اللفظة ونحن نقبل هذا الكلام ولا مشاحة في ذلك؛ لأن هذا علم اسلكوا طريقه وتعلموه ثُمَّ ناقشونا به، لكن الرد بدون علم لا نقره، ولا يقره أي إنسان في أي علم فضلاً عن أشرف العلوم بعد كتاب الله، وهو علم السنة التي تكفل الله تَعَالَى بحفظها عن طريق هَؤُلاءِ الأئمة الثقات الأثبات.

      وهناك لفتة عجيبة أشار إليها المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذلك لما قَالَ: [وهنا معنى عجيب وهو أن هذا القول له شبه بقول النَّصَارَى].
      وهذا اتضح حينما قلنا: إن النَّصَارَى يقولون: حلَّ الناسوتُ باللاهوت، وهذا بمعنى أنه يقوم مقامه ويتكلم باسمه، فكذلك يقول هَؤُلاءِ: إن الكلام المخلوق الذي في المصحف هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فالعلاقة بين المعنى القائم بالنفس، وبين الكلام المخلوق أو النظم الموجود بين الدفتين في المصحف تُشَابِهْ تماماً العلاقة التي تقولها النَّصَارَى بين الناسوت واللاهوت ففي هذا مشابهة عجيبة ودليل عَلَى أن هذه الفكرة أصلها ومنشأها من غير الإسلام.

      وقد أشرنا إِلَى ذلك عندما استعرضنا في أول مبحث الكلام وهو: أنهم أخذوه من النَّصَارَى وأرادوا أن يردوا عَلَى النَّصَارَى فاضطروا إِلَى القول بأنه مخلوق، فسواء كَانَ التأثير مباشراً، أو ردة فعل عكسية، فأيا كَانَ الأمر فإن هذا القول غريب عن دين الإسلام والْمُسْلِمِينَ.
  2. الرد على القائلين بالكلام النفسي

     المرفق    
    قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
    [ ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: {إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس} وقال: {إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة} واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
    وأيضاً ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به} فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ففرق بين حديث النفس وبين الكلام وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: {وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم}.
    فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة، والتابعين لهم بإحسان وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر.
    ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك ] اهـ

    الشرح:
    يستمر المصنف -رحمه الله- تعالى في بيان هذه الحقيقة وهي: أن القول أو الكلام وما يتفرع عنه من الفعل أو المصدر أو اسم الفاعل، إذا قلنا: قال فلان أو يقول أو قولاً أو تكلم كلاماً كل هذا فإن المراد به الكلام المعروف المعهود عند الناس وهو المنطوق باللسان أي: يشمل اللفظ والمعنى معاً ولم يعهد عن أحد من السلف من التابعين أو الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنه قال بالفرق بينهما كما تقدم بيانه وأن هذا إجماع منهم.
    وهذه القاعدة تؤكدها الأحاديث الثابتة الواردة بإبطال قول من يقول: إن الكلام هو ما في القلب ويستدل عليها بقول الشاعر النصراني ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس} هذا جزء من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه والذي بيَّن فيه عدة من الأحكام مثل علو الله -عز وجل- وهذا الحُكم من أحكام الصلاة وأثبت فيه أيضاً الكهانة والطيرة وهو حديث عظيم رواه الإمام مسلم وغيره وهو من أحاديث العقيدة المهمة فلما أن عطس الرجل فشمته معاوية بن الحكم السلمي بصوت عالي، فتأثر الصحابة رضي الله عنهم وضربوا على أفخاذهم، فقال: ما لكم، فتأثروا أكثر، فاضطر أن يسكت، فلما انتهى تعجب ما الذي جرى فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه بلطف وقال له: {إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس} فإذا كان الكلام هو ما في الفؤاد فمن من المسلمين -إلا من عصمه الله من السلف الأولين أو من أشباههم- لا يكلم نفسه في أثناء الصلاة.
    وقد اتفق العلماء والفقهاء جميعاً على أن حديث النفس حتى ولو بشيء من أحاديث الدنيا أو بأي أمر من الأمور، فإنه لا يبطل الصلاة، فيجب أن نفرق بين الخشوع وبين البطلان فالكلام هنا في البطلان فمن تكلم بكلام أو قول أي أظهر لفظاً أو نطق بكلام لغير مصلحة الصلاة بطلت صلاته عند جميع الفقهاء لكنه لو تكلم بهذا الكلام في نفسه، فإن صلاته لا تبطل ولكن ينقص الخشوع .
    فالكلام النفسي موجود دائماً ولا يخلوا إنسان من أن يحدث نفسه هذا أحد الأدلة .
    والدليل الآخر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة} وهذا الحديث يدل على ما يدل عليه حديث معاوية بن الحكم: أن الصلاة في أول الأمر كان الكلام فيها جائزاً ثم مما أحدث الله -عز وجل- أن الكلام منع في الصلاة وهذا من أدلة النسخ فإن بعض الأحكام تكون جائزة ثم تنسخ فتصبح محرمة أو العكس، وكذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به} هذا من فضل الله عز وجل ورحمته علينا.
    فالله تجاوز عن حديث النفس الخواطر والهواجس فإذا تكلمت به وعملت به فإنها تؤاخذ بما تكلمت وعملت، ولكن من شك في بعض ما أخبر الله به أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشك استيقن به صاحبه، حتى أصبح عنده حقيقة، فكيف ينطبق عليه هذا الحديث؟ هو لم يتكلم ولكن هذا الشك انتشر حتى صار مؤكداً وحقيقة في نفسه أنه يكذب أو يشك في شيء مما جاء عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطوى قلبه على عقيدة باطلة بخلاف ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من عمل القلب، وينطبق عليه الحديث؛ لأنه قد عمل قلبه به لأن عمل القلب الشرعي مثلاً: اليقين وقد حل محله الشك فيكون من عمل القلب الكفري الذي هو ضد العمل الإيماني، وكذلك الإخلاص مطلوب وهو من أعمال القلب الواجبة فإذا حل محله الرياء فإن عمل القلب هنا يفسد، فإذاً سواء كان العمل قلبياً أو عملاً بالجوارح فلا يؤاخذ الله -عز وجل- بالخواطر والهواجس وإنما يؤاخذ بالعمل، إذا كان عملاً بالقلب أو عملاً بالجوارح أو كلاماً يتفوه به الإنسان، لأنه إذا تفوه وتكلم به فإنه قد تقرر به أما الشبهة العارضة، فإنه يطرده، ولا يستقر في قلبه، وما دام يدافعه فلا حرج عليه، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان لا يزال يأتي الإنسان حتى يقول الله: هذا خلق الله، فمن خلق الله}، فالشيطان يأتي الإنسان بالشكوك حتى أن أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- روى هذا الحديث لمَّا جاءه رجل فسأله هذا السؤال فضحك أبو هريرة -رضي الله عنه- وعجب، وقال: {صدق خليلي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك، وها هو قد قيل ما كان وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم} فالشيطان يأتي يلقي الشبهات والشكوك والواجب على المؤمن أن يحاربه وأن يقاومه فهو يدعو إلى الفحشاء والمنكر.
    وهذا من الفوارق الدالة على أن الكلام هو: القول واللفظ، وليس مجرد حديث النفس، ولذلك فالعبارة الأخيرة التي ذكرها المصنف هنا: إن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس مما نحتاج فيه إلى قول شاعر أي: مثل هذه المعاني الواضحة في الكلام العام لا نحتاج إلى الاستدلال عليها بقول شاعر ولا حتى بغير ذلك كالرأس والرجل واليد والسماء والأرض والجبل..لا نحتاج أن نأتي عليه بشاهد لا من كلام العرب ولا من غيره؛ لأنه معروف ومعلوم لدى كل عربي أن هذا يسمى جبل، وهذه تسمى سماء، وهذه أرض، وهذا لا يحتاج فيه إلى شاهد، فهو ثابت بالتواتر بالجمع الغفير جداً، وهو كل من يتكلم بهذه اللغة.
    ومن ذلك أن كلمة الكلام والقول إنما تطلق على ما يتلفظ به وما يُقال باللسان، فلا يحتاج إلى قول أحد ويشهد لذلك الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد من حديث معاذ المعروف الذي قال في آخره: {يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكبُّ الناس في النار على وجوههم -وقال في رواية أخرى: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم}.
    فدل ذلك على أن القول المؤاخذ به الذي يكب في النار هو ما يقوله اللسان لا مجرد ما يخطر في القلب فهذا من أحد الشواهد .
    والأدلة المتظافرة من الشرع والعرف واللغة على أن الكلام هو ما ينطق به وما يتلفظ به .
    قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
    [ ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر فإن الله تعالى يقول: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ))[الإسراء:88] أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو هذا إلى المتلو المسموع ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع وقوله (( لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ )) أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق؛ بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية ولو كانت هذه التلاوة حكايةً لكان الناس قد أتو بمثل كلام الله فأين عجزهم؟!
    ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة قال تعالى: ((فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات)) [هود:13]: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ))[العنكبوت:49] ((فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ)) [عبس:13، 14].
    ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات قال صلى الله عليه وسلم: {أما إني لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولا م حرف وميم حرف} وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين ]اهـ.

    الشرح:
    يذكر المصنف -رحمه الله- أن من قال: إن كلام الله معنى نفس وأن ما في المصاحف المتلو هو حكاية أو عبارة عن كلام الله وهم الحنفية والأشعرية والماتريدية ومن قال بهذا القول، فقد قال بخلق القرآن شعر أم لم يشعر.
    وسبق أن قلنا: إن كتب المتأخرين وكذلك الشروح والحواشي المتأخرة صَّرحت بذلك، قالوا: إن القرآن مخلوق ولكن لا يُقال مخلوق إلا في مقام التعليم، فلو قال أحد: مخلوق أمام العامي الذي لا يدري فقد يظن أنك تعني ما في ذات الله وما في ذات الله غير مخلوق أما هذا الذي في المصحف فهو مخلوق وتقول مخلوق أمام من يفهم الفرق بينهما.
    فهذا ليس فقط وهو لا يشعر؛ بل هم قد قالوا ذلك، وأقروا به، والتزموا به، ولم يعودوا ينكرونه؛ بل هم يصرحون به حتى المعاصرين منهم في هذا الزمان
    ، ويرد عليهم رحمه الله بأن الله سبحانه وتعالى تحدى العالمين الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)) [الإسراء:88].
    فما الذي تحدى الله -عز وجل- به المخلوقين أهو ما في ذاته؟ أم هو هذا المكتوب المتلو المحفوظ ؟ فالإشارة في هذا لو فكر أي عاقل لوجد أنها بلا شك إلى هذا الذي يقرأه الناس ويتلونه ويسمعونه، فهذا هو كلامه الذي يتحدى أن يأتي بمثله.
    أما إن كان التحدي لِمَا في ذات الله فَمَا في ذات الله -عز وجل- لا يشار إليه بهذه الآية ولا غيرها ولا هو منزل ولا متلو ولا مسموع، كما يقولون: إنه ليس بحرف ولا صوت، وإنما هو شيء في الذات معنىً قائم بالله تعالى فكيف يتحدى به وأين الوصول إليه وكيف يعلم حتى يؤتى بمثله.
    فعندما يتحدى الله -عز وجل- أن يأتوا بمثله فهو شيء موجود بين أيدينا يقول: هذا هو القرآن اقرؤه وأتوا بمثله ولن تأتوا أبداً! أما إذا كان التحدي بالمعنى القائم في الذات، فأين الوصول إليه؟ وذاته بالاتفاق لا يمكن لأحد أن يعلمها، أو يسمعها، أو يحيط بها، فشيء لا سمعناه ولا عرفناه ولا ندركه كيف نُتَحدى أن نأتي بمثله، فهذا دليل على أن الكلام والقرآن إذا أُطلق وتُحديَّ به، هو ما في هذا المصحف، فهو كلامه -عز وجل- حقيقة لا عبارة ولا حكاية ولا مجاز ولا شيء من هذه الضلالات، فإن قالوا: لا، نحن نقصد أن التحدي جاء بهذا الذي هو عبارة أو حكاية عن الكلام المعنى القائم بالنفس، فيقول المصنف: إذا قالوا ذلك فإن هذا اعتراف بأن القرآن مخلوق .

    ومن ناحية أخرى: أن قولكم في هذا أشد من قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن خلقه الله كأي خلق من الخلق، أما أنتم فتقولون: إن الله -عز وجل- له صفة قائمة بذاته هي الكلام، وهذا القرآن تعبير أوحكاية أو مجاز عنه، فأنتم تقولون: إن من صفات الله -عز وجل- ما يحكى أو يتشبه به كما يقول المصنف: إن حكاية الشيء تكون بمثله أو بشبهه، فمن هذا الذي يحاكي كلام الله؟! فسواءً قالوا جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم حاكى كلام الله بكلام مثله أو بشيء يشبه.
    فإذاً لا داعي للتحدي لأن جبريل، أو محمداً صلى الله عليه وسلم هو من المخلوقات، وقد حاكى الصفة التي يقولون إنها قديمة وهي في ذات الله وهذا مما يتناقضون به ويكذب ويبطل دعواهم لأن صفات الله -عز وجل- ليس فيها ما يمكن أن يحاكى أبداً.

    الشيء الآخر: أن الكلام الذي يثبته هؤلاء المؤولة فيقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى، ليس بحرف ولا صوت؛ أليس هذا القرآن الذي بين أيدينا المقروء المحفوظ المتلو حروفاً وأصواتاً ؟
    وهذا تناقض؛ لأنكم شبهتم الشيء الذي ليس بحرق ولا صوت، بأنه حُكي وعُبِّرَ عنه بشيء هو حرف وصوت، وهذا تناقض ودليل ملزم لهم، فالقرآن إذا أُطلق إنما هو هذه الآيات المحفوظة والمتلوة والمسموعة كما جاء في هذه الآيات التي ذكرها المصنف رحمه الله حيث استدل على الحرف بالحديث الذي أخرجه الترمذي وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} فهذا القرآن حروف وأصوت وقد سبق، وأن ذكرنا الدليل عليه في الحديث الصحيح: {إن الله -عز وجل- يتكلم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب} .

    قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
    [ قال الشيخ حافظ الدين النسفي -رحمه الله- في المنار إن القرآن اسم للنظم والمعنى .
    وكذا قال غيره من أهل الأصول وما ينسب إلى أبي حنيفة -رحمه الله- أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية، وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى أو زنديقاً فيقتل، لأن الله تكلم به بهذه اللغة والإعجاز حصل بنظمه ومعناه]
    إهـ.
    الشرح:
    يستدل المصنف هنا على أصحاب أتباع مذهب الحنفية بكلام أحد أئمتهم المشهورين وهو حافظ الدين النسفي -رحمه الله- واسمه: عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي أبو البركات -رحمه الله- الذي توفي سنة 710هـ وله من المؤلفات التفسير المعروف بـتفسير النسفي الذي سماه مدارك التنزيل وله كتاب المنار في أصول الفقه وهذا الذي نقل منه المصنف هذا الكلام وله في العقيدة كتاب عمدة العقائد أيضاً، كما هو مترجم له في كتاب الأعلام للزركلي (4/67)، وهناك توجد المصادر التي نقل، منها كُتب طبقات الحنفية.
    الحافظ النسفي يقول في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى، فهو يردُّ هنا على أصحابه القائلين بالكلام النفسي، وقال: [وما يُنسب إلى أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: من قرأ في صلاته بالفارسية أجزأه] إذا قرأ بمعنى القرآن بلغة غير العربية فإن ذلك يجزئه في صلاته، فالإمام أبو حنيفة رجع عن هذا القول كما يقول الإمام المصنف ابن أبي العز وهو من أئمة المذهب، وهو يعلم المذهب ويعلم الأقوال فيه، وقد يسلم الإنسان في هذه اللحظة، وهو لا يجيد اللغة العربية، فلا نلزمه أن يصلي باللغة العربية، وهو إلى الآن لم يتعلمها، ولكن ينبغي أن يتعلمها في أسرع ما يمكن.
    ثم قال الأئمة الحنفية: ما حكم من قرأ بغير العربية؟
    قالوا: إما أن يكون مجنوناً فيداوى -يُعالج حتى يشفى- أو زنديقاً فيُقتل -إنسان ساخر هازل زنديق فهذا يقتل- لأنه قرأ بغير اللغة العربية، قال: لأن الله تكلم بالقرآن، وأنزله بهذه اللغة بلسان عربي مبين كما قال تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)) [الزخرف:3] والإعجاز حصل بلفظه ومعناه، فإذا غير إلى لغة أخرى فإن ذلك إبطال للإعجاز والتحدي فهؤلاء الأئمة في الفقه لم يفرقوا بين اللفظ والمعنى، فيقولون: إن المعنى قائم بالنفس، وأن اللفظ مخلوق أو مصنوع أو عبارة وحكاية عنه.
    فهذا مما يَستدِلُ به المصنف -رحمه الله- على الماتريدية
    وقد نبهنا لماذا نقول ذلك؛ لأن العقيدة الطحاوية شرحها ماتريديون ينتسبون إلى نفس المذهب الحنفي لكنهم على مذهب أبي منصور الماتريدي فأولوها وحرفوها كما أولوا كلام الله، فهو هنا يَردُّ عليهم: أن هذا الذي قاله أبو جعفر الطحاوي هو الصحيح وهو الذي عليه الإمام أبو حنيفة وهو الذي عليه النسفي وهو الذي عليه نفسه رحمه الله، وكل علماء المذهب الحقيقين هم على هذا المذهب وعلى هذا القول الصواب الذي كان عليه السلف في مسمى الكلام وفي مسمى القول .