المادة    
ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنواع الشَّفَاعَة: وذكر أن منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع، ومن هذه الأنواع ما يلي:
  1. الشفاعة العظمى

    وهذ الشَّفَاعَة هي الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين سائر إخوانه من الأَنْبِيَاء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذه الشَّفَاعَة العظمى أجمعت عليها الأمة: أهل السنة وأهل البدع من المعتزلة والخوارج وغيرهم، وهي: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحشر عند اشتداد الكرب والهول وعندما يفزع النَّاس إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ولا يجدون من يشفع لهم ويضيق الخلق أجمعون ويشتد الكرب عليهم جميعاً، فيلجئون إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ يريدون منه أن يفصل الموقف، وأن يُدْخِلَ أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار، ففي هذا الموقف العظيم حين يتراجع كل الأَنْبِيَاء أولوا العزم وغيرهم من الخلائق يكون المقام المحمود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  2. الشفاعة في رفع الدرجات

    هناك أيضاً نوع أخر من أنواع الشَّفَاعَة: وهو شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كَانَ يقتضيه ثواب أعمالهم.
  3. موافقة الخوارج والمعتزلة لأهل السنة في هاتين الشفاعتين

    وافقت المعتزلة والخوارج أهل السنة في النوعين السابقين من أنواع الشَّفَاعَة، والسبب في ذلك أنه ليس في هذه الشَّفَاعَة إخراج أحد من النَّار فقاعدتهم -التي سبقت معنا- أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار، والشَّفَاعَة الكبرى شفاعة المحشر يثبتها المعتزلة؛ لأنهم لا يرون فيها تعارضاً مع ما أصَّلوه وهو: أن صاحب الذنب لا بدَّ أن يُجازى بذنبه وجوباً، فيدخل النَّار ولا يخرج منها عياذاً بالله، هكذا قررت عقولهم دون الرجوع إِلَى الآيات وإلى الأحاديث، ووافقهم عَلَى ذلك الخوارج.
    بل وافقهم بعض التابعين مثل: يزيد بن الفقير كما في صحيح مسلم، وطلق بن حبيب كما في الأدب المفرد للبخاري يقول: "كنت أرى رأي الحرورية-أي: رأي الخوارج-ولا أؤمن بالشَّفَاعَة"، أو قَالَ: "وكنت من أشد النَّاس إنكاراً للشفاعة".
    فبعض التابعين الذين لم يكونوا من الخوارج انقدحت في أذهانهم هذه الشبهة وهو أن صاحب المعصية لا بد أن يجازى فكيف يشفع فيه أحد، وذهلوا وغفلوا عن الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن، حتى بيَّن لهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أدركوا ظهور هذه الشبهة وهذه البدعة، وممن أدرك ظهور بدعة إنكار الشَّفَاعَة من الصحابة جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس.
    وقد أخبر عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنه سيأتي قوم ينكرون الشَّفَاعَة" والقصد أن هَؤُلاءِ الخوارج والمعتزلة اثبتوا هذه الشَّفَاعَة لأنه ليس فيها إخراج أحد من النَّار وإنما فيها زيادة استحقاق.