المادة كاملة    
في هذا الدرس ما زال الكلام حول مسألة خلق القرآن، فقد تضمن مناقشة بعض الفرق الزائغة في مسألة كلام الله، مع بيان الفرق بين القراءة والمقروء، وتوضيح أنواع الوجودات وتقسيماتها، ومعاني بعض الآيات التي يستدل بها المخالفون لعقيدة أهل السنة والجماعة، كما تضمن -أيضاً- حديثاً عن المجاز وحقيقته في اللغة.
  1. هل كلام الله معنى واحد ؟

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وكثيرٌ من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعددُ والتكثر والتجزي والتَّبَعُّضُ في الحاصل في الدّلالات، لا في المدلولِ، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت "كلام الله" لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عُبِّرَ بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً.
    وهذا الكلام فاسد، فإن لازِمَهُ أن معنى قوله: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى))[الإسراء:32] هو معنى قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))[البقرة:43] . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف.
    والحقُّ أن التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والقرآنَ من كلام الله حقيقة، وكلامُ الله تعالى لا يَتَنَاهى، فإنه لم يَزَلْ يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يَزَالُ كذلك، قال تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) [الكهف:109] وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [لقمان:27].
    ولو كان ما في المصحف عبارةً عن كلام الله وليس هو كَلامَ الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن .
    بل كلامُ الله محفوظ في الصدور مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.
    وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيح حقيقي.
    وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته، فُهم منه معنى صحيح حقيقي.
    وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنى صحيح حقيقي.
    وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب ] إهـ.

    الشرح:
    هذا المذهب الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله تعالى- هو ما ذهب إليه كثير من متأخري الحنفية وهو أن كلام الله عز وجل معنى واحداً ولكن تختلف العبارات فيه، وقد سبق شرح هذا الكلام، فمتأخري الحنفية هم في الحقيقة على مذهب ابن كلاب والأشعري ولم يأتوا في هذا الباب بجديد، وإنما قد تختلف بعض العبارات في التعبير، ولكن الفكرة والغاية واحدة فهم يقولون: إن التعدد والتكثر والتجزء والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول.
    فدَلالة أو دِلالة أو دُلاله بتثليث الدال هي: الألفاظ، والمدلول هو: المعنى.
    فيقولون: إن التبعض والتكثر حاصل في الدلالات في الألفاظ التي عُبِّر عنها، سواء قلنا الذي عبر عنها هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم أو أن الله -عز وجل- خلق التعبير عنها، لكنها في ذاتها شيء واحد، أي: أن كلام الله عندهم صفة ومعنى قائم في ذاته سبحانه وتعالى.
    فمثلاً التوراة والإنجيل والقرآن هذه كتب مختلفة وعبارات متنوعة فآية الكرسي وآية الدين وسورة الإخلاص و((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] إلى آخر هذه العبارات ألفاظها مختلفة، لكنهم يقولون: الأصل أن المعنى واحد ولا فرق فيه بين خبر ونهي ولا توراة ولا إنجيل ولا قرآن من حيث المدلول، أي: أن المعاني واحدة، لكن عند التعبير سواء كان المعبر هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن الله خلق هذا اللفظ الذي يعبر عن الكلام الذي في نفسه-أو في ذاته- عند هذا تختلف العبارات وتختلف الدلالات.
    فيقولون: العبارات مخلوقة، سواءً كانت خلقاً خلقه الله منفصلاًُ، أو من كلام جبريل أو محمد، فهي مخلوقة، ويقولون: سميت كلام الله؛ لأنها دالة عليه ومؤدية لمعناه، فيفهم كلام الله الذي هو المعنى النفسي القائم به من خلال هذه العبارات والحكايات والألفاظ الدالة عليه، وتسميتها كلام الله من قبيل المجاز، فالكلام شيء واحد، والعبارات مختلفة، وكلها مخلوقة، ويطلق عليها كلام الله على سبيل المجاز؛ لأنها تدل على كلام الله عز وجل، هذا ملخص مذهب الحنفية المتأخرين، وهو مذهب غيرهم كـالأشاعرة وأمثالهم .
    1. الرد على من يقول بأن كلام الله معنى واحد

      لقد رد المُصنِّف هنا عليهم بردود سهلة لكل ذي عقل وبصيرة، فَيَقُولُ: [وهذا الكلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)) هو معنى قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب)) [المسد:1].
      وهذا القول لا يقول به عاقل ولا دليل عليه مطلقاً، فليس هناك من داع يدعو إِلَى هذا القول إلا مأزق كلامي أو أغلوطة ألقاها الشيطان في أنفسهم وعجزوا عن جوابها؛ حتى لا يثبتوا أن الحوادث تحل بالله وهذا يقتضي المماثلة والمشابهة وغيرها من التعليلات؛ فهل معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين؟! من المعلوم أن آية الكرسي أفضل وأعظم آية في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وهي تتعلق بصفات الله تعالى، وآية الدين تتعلق بالأحكام، وكذلك هل معنى سورة الإخلاص ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) هو نفس معنى ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) وبينهما من الفرق ما يعرفه كل عاقل! فهما مختلفتان تماماً في المعنى واللفظ، فلا حاجة إِلَى هذا القول الذي يظهر لمن تأمله سقوطه وبطلانه.
      وأما التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكلام الله جملة فبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه الكتب جميعاً هي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يزل يتكلم بما شاء متى شاء وكيف يشاء، يتكلم مع ملائكته الذين يصعدون كل يوم إليه -جل وعلا- بأعمال العباد فيسألهم عنها وهو بهم أعلم، ويتكلم بالأمر الذي يريد أن يقضيه مع من شاء من ملائكةٍ آخرين. فتخر الملائكة صعقاً من خشيته وهيبته، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يتكلم مع من يشاء من عباده، فقد تكلم الله بالتوراة وبالإنجيل وبالقرآن وتكلم فيما مضى ولا يزال يتكلم.
      والتكلم: صفة فعلية لله عَزَّ وَجَلَّ، لكن عَلَى كلامهم أنه معنى واحد في الأزل موجود، وإنما تختلف العبارات، إذا فكيف يمكن الجمع بين هذا الذي ثبتت به النصوص، وبين قولهم: إنه معنىً واحد؟ لا يمكن هذا!! لكنهم لو اتبعوا كلام الله ورسوله وآمنوا بأن هذه النصوص هي الحق والصواب، وأن الله تَعَالَى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، لما وقعوا في هذه الخلط. ويستدل المُصنِّف -رحمه الله تعالى- عَلَى ذلك بقوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) فكلمات الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا تتناهى، فكيف يجعلون لها معنىً واحداً فقط؟!
      وأيضاً قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[لقمان:27] فهذا دليل آخر عَلَى أنها لا تتناهى، فكيف تكون معنى واحداً؟

      ثُمَّ يستدل ببعض الأدلة الفقهية العقلية فَيَقُولُ: [ولو كَانَ ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لما حرم عَلَى الجنب والمحدث مسه] لأنه لو كَانَ مجرد معنى كلام الله عَزَّ وَجَلَّ فهو إذا كَانَ معنىً مخلوقاً مثل سائر المعاني، ومثل كلام البشر الآخرين، فلماذا اختص وحده بأنه يحرم عَلَى الجنب والمحدث أن يمسه؟ لو جئنا بإنسان وكتب عن معنى من معاني سورة من السور كما يفهمها هو في ورقة.
      فإن هذه الورقة يمكن لأيِّ إنسان أن يمسها ولو كَانَ جنباً؛ لأنه ليس فيها كلام الله، إنما فيها المعاني التي يدل عليها كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فهناك فرق بين حقيقة نفس كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين معانيه التي يدل عليها، ويقول أيضاً: [لو كَانَ ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم عَلَى الجنب والمحدث قراءة القرآن] وبالأخص الجنب.
      فنفس الدلالة واحدة، أي: لو كَانَ هذا القُرْآن مجرد معانٍ، فإن المعاني يجوز أن يقرأها الإِنسَان أو يمسها عَلَى آية حال كان؛ لكن حقيقة كلام الله المقروء الذي في المصحف فإنه لا يقرأ، ولا يمس إلا عَلَى طهارة كما هو مذهب المُصنِّف ورجحه هنا.
    2. كلام الله حقيقة وليس مجازاً

      فالمقصود بهذا الكلام الاستدلال به عَلَى أن القُرْآن كلام الله حقيقة، وأما المعاني فهي معاني هذا الكلام، وليس ما في المصحف هو معنى الكلام والمدلول هو في ذات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما يذهب إِلَى ذلك الخلف عموماً، ويقول: [بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال ذلك أبو حنيفة في الفقه الأكبر].
      أراد المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يرد عَلَى من يقول: إنه يطلق عَلَى القُرْآن كلام الله عَلَى سبيل المجاز وليس عَلَى الحقيقة، وأن يقرر: بأن القُرْآن في هذه الثلاث الحالات -حالة كونه في المصاحف مكتوباً، أو بالألسن مقروءاً، أو في الصدور محفوظاً- هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، فهو حقيقة في الثلاث الحالات، لكن الإطلاقات تختلف.
      ولو قلنا: إن فيه خط فلان مثلاً فيكون المعنى حقيقياً وليس مجازياً، ويفيد أن هذا الخطاط كتب كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو أيضاً كلام الله عَلَى الحقيقة؛ لأنه ينسب إِلَى من قاله مبتدءاً، وهو الله عَزَّ وَجَلَّ.
      فنقول: هذا كلام الله؛ لأنه هو الذي قاله وتكلم به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا كلام حقيقي لا مجاز فيه، ونقول: هذا خط فلان وهو حقيقي لا مجاز فيه لأننا نعني عملية رسم المصحف نفسها.
      وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنىً صحيحاً حقيقياً، أن هذا كلام الله، وفيه مداد، وقد كتب به، فهذا معنى حقيقي؛ لأن هذه الحروف كتبت بمداد معين، فالمعنى إذاً حقيقي وليس هناك مجاز في هذه الحالات الثلاث.
    3. بعض إلزامات أهل البدع لأهل السنة في مسألة الكلام . والرد عليهم

      قال المصنف: [وإذا قيل: المداد في المصحف] وأتى بها المُصنِّف لأن الأشعرية والماتريدية ومن نحا نحوهم، يقولون لأتباع السلف نلزمكم بأحد قولين:
      إما أن تقولوا مثل قولنا: إن القُرْآن مخلوق.
      وإما أن تقولوا بكلام الحلولية.
      فأنتم إذاً حلولية! لأنكم تقولون: إن ما في المصحف كلام الله.
      إذاً كلام الله الذي هو صفة الله يحل في المصحف فهذه شبهة شيطانية ألقاها عَلَى أولئك،
      ولكنَّ ردها من أسهل وأبسط ما يمكن، فقد تطرق لها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا.
      فَيَقُولُ: إذا قيل: المداد مخلوق؟
      نقول: نعم مخلوق.
      وإذا قيل: المداد في المصحف.
      فنقول: نعم صحيح.
      فيقولون: كلام الله في المصحف؟
      نقول: نعم.
      يقولون: إذاً فكلام الله مخلوق؟
      نقول: لا.
      يقولون: لماذا فرقتم بينهما؟
      نقول: "في" كلمة الظرفية تختلف من كلمة إِلَى كلمة، ومن معنى إِلَى معنى، وكلها حقيقة.
      فإذا قلنا: المداد في المصحف فالظرفية هنا حقيقة؛ لأن الظرف في اللغة العربية هو الوعاء أو المكان أو الزمان فالظرفية كأنها شيء يحويه أو يستوعبه، ويكون حالّاً فيه مكاناً أو زماناً، والمداد الذي هو الحبر في المصحف لأن هذا القُرْآن الذي هو كلام الله كتب بمداد، إذاً هذا إطلاق حقيقي بالنسبة للمداد، لكن هذا الإطلاق يختلف عن قولنا: القرآن: فيه السماوات والأرض، وفيه: محمد، وعيسى عليهما السلام ونحو ذلك.
      وقولنا: فإن معنى هذا: أن فيه لفظ السماوات، والأرض وفيه كلمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه كلمة عيسى عَلَيْهِ السَّلام أو فيه خبرهما، فهنا كلمة "في" موجودة لكن لها هنا معنى وهو معنى حقيقي، ولها هناك معنى آخر.
      فإذا قلنا: القُرْآن فيه كلام الله فهذا معنى ثالث، أي هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما لو جئنا بكتاب مثلاً: ديوان شعر فقلنا هذا الكلام فيه شعر امرؤ القيس أو هذا شعر امرؤ القيس فالكلام صحيح في كلا الحالتين؛ لأنه ديوانه الذي فيه شعره، فالذي قاله مكتوباً في هذا الديوان، فلو قلت: هذا كلام امرؤ القيس فالكلام صحيح ولا مجاز فيه، فيتبين بذلك أن كلمة "في" تختلف بحسب الإطلاق.
      فالظرفية تختلف من معنى إِلَى معنى آخر، وكون المداد بالمصحف، لأن الورق يحويه فهو ظرف له حوى المداد، ففيه القُرْآن وفيه السماوات والأرض، أي: فيه "كلمة السماوات والأرض" وليست نفس السماوات والأرض بحقيقتها في المصحف، لكن المداد نفس حقيقة المداد موجود في المصحف، وهذا المعنى حقيقي وذاك المعنى حقيقي، ولكن يختلف عن هذين المعنيين بمعنى أنه هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فعلى هذا فالكلمة تختلف من إطلاق إِلَى إطلاق.
    4. الفرق بين القراءة والمقروء

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
      من خط كاتب معروف، لقال هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كل شيء حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى] اهـ.

      الشرح :-
      أتى المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بمثال ليبين ويوضح به الفرق بين القراءة والمقروء، فيطلق كلام الله عَلَى المقروء وعلى القراءة، وذكر هذا المثال الذي فيه عدة معانٍ كلها حقيقة ليس فيها مجاز، وهي البيت المشهور عن لبيد:
      ألا كل شيء ما خلا الله باطل
      وهي التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل}
      ، فَيَقُولُ: لو أن إنساناً وجد هذا البيت، مكتوباً في ورقة، فقَالَ: هذا كلام لبيد، فالكلام هذا حقيقة؛ لأنه شعره الذي قاله وأنشأه وابتدأه، مثلما نقول في القرآن: إن هذا كلام الله لأنه هو الذي قاله، وتكلم به وابتدأه، وإن قال شخص هذا خط أحد الطلاب أو المدرسين مثلاً كتب هذه الكلمة من كلام لبيد، ووضعها في ورقة فهذا إطلاق حقيقي أيضاً وليس فيه مجاز، ولذا قَالَ: [وهذا كل شيء حقيقة].
      معناها أصدق كلمة قالها شاعر، وهي كلمة يشير إِلَى اللفظة ولا يشير إِلَى كل الأشياء التي خلقها الله في هذه الورقة، فكلمة كل شيء حقيقة فعلاً، لأنه أراد اللفظ وأراد الكلام، ثُمَّ يقول: [وهذا خبر حقيقة] أي أن أحد علماء البيان أو البلاغة قَالَ: هذا خبر حقيقة، وقصد البلاغي أن قول لبيد:
      ألا كل شيء ما خلا الله باطل
      ليس استفهاماً، ولا نهياً، ولا أمراً، وإنما هو خبر حقيقة وليس مجازاً، فانظروا كيف اختلفت الإطلاقات مع أن الشيء واحد وكلها حقيقة ليس فيها مجاز.
      فالمقصود أن العبارات تتعدد في التعبير عن شيء واحد، وتكون كلها حقيقة لأن الإطلاقات تختلف باختلاف النظر ففي حالة ننظر إِلَى المعنى، وفي حالة ننظر إِلَى اللفظ، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي أنشأه أول مرة، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي كتبه وهكذا، فحسب تعدد هذه الحالات يتعدد الكلام، وجميع الحالات حقيقي.
      إذاً: كلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو كلام الله حقيقة في حالة كونه مكتوباً أو محفوظاً أو مقروءاً، ولا خلاف في ذلك، ولله الحمد وليس مجازاً في أي حالة من الحالات.

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى :
      [والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)) [الإسراء:78] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {زينوا القُرْآن بأصواتكم} وتارة يذكر ويراد به المقروء قال تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))[النحل:98] وقال تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))[الأعراف:204]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن هذا القُرْآن أنزل عَلَى سبعة أحرف} إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني، وذهني، ولفظي، ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان، والفرق بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في رق منشور أو لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون: واضح.
      فقوله عن القرآن: ((وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)) [الشعراء:196] أي ذكره ووصفه والإخبار عنه كما أن محمداً مكتوب عندهم، إذ القُرْآن أنزله الله عَلَى محمد، لم ينزله عَلَى غيره أصلاً، ولهذا قَالَ: في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق؛ لأن "الزبر" جمع "زبور" والزبر هو الكتابة والجمع.
      فقوله: ((وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)) أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ويبين كمال بيان القُرْآن وخلوصه من اللبس وهذا مثل قوله: ((الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ)) [الأعراف:157] أي: ذكره بخلاف قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ))[الطور:3] أو ((فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)) [البروج:22] أو ((فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)) [الواقعة:78]
      لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر: مكتوب في كتاب أو في رق، والكتاب: تارة يذكر ويراد به محل الكتابة وتارة يذكر، ويراد به الكلام المكتوب، ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه، فإن تلك إنما يكتب ذكرها، وكلما تدبر الإِنسَان هذا المعنى وضح له الفرق] اهـ

      الشرح:
      القرآن في الأصل مصدر، والمصدر تارة يذكر ويراد به القراءة، وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا موجود في كلام العرب، فالقرآن بمعناه الاصطلاحي الذي هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- المقروء فهذا لم يعرف إلا بعد نزول الوحي عَلَى نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن كلمة قرآن موجودة في كلام العرب من قبل. ويقصدون بها القراءة، وكلمة قرأ قرآناً، أو قرأ قراءةً مترادفتان، فالمعنى واحد ومن ذلك قول الشاعر :
      ضحوا بأشمط عنوان السجود له            ويقطع الليل تسبيحاً وقرءاناً
      فهذا الشاعر يتكلم أو يصف أمير المؤمنين عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا قتله أُولَئِكَ الثوار الفجرة الظلمة المعتدون، وذلك أنهم قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ والمصحف بين يديه وهو يتلو كتاب الله، أي: يقطع الليل قراءة.
      وهذا البيت جارٍ عَلَى كلام العرب قبل نزول القُرْآن أنه بمعنى: القراءة، وإن كَانَ الشاعر قالها في الإسلام، فالمقصود أن في لغة العرب يطلق القُرْآن عَلَى القراءة؛ لكن بعد نزول القرآن، وتسميته بهذا الاسم غلبت عليه كلمة القُرْآن عند الناس، وصار في أذهانهم أن المقصود به هو كلام الله، أي: ما في المصحف، وأما من حيث اللغة، فيصح أن تستخدم كلمة القُرْآن بمعنى القراءة، فنقول مثلاً: هذا قرآني لهذا الشيء أي: قراءتي لهذا الشيء ولا حرج في ذلك من حيث اللغة، ولا من حيث الشرع، وليس هذا محرماً؛ لكن لاشتهار القُرْآن حتى أصبح علماً عَلَى كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا تستخدم هذه الكلمة لغيره؛ لأنها أهملت من الاستعمال لغيره.

      ومن حيث الشرع فقد جَاءَ ذلك أيضاً في القرآن، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)) [الإسراء:78] أي: قراءته، وليس المقصود هو المصحف الذي هو كتاب الله وإنما قراءة القرآن، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {زينوا القُرْآن بأصواتكم} أي: زينوا قراءتكم للقرآن بأصواتكم بأن يقرأه الإِنسَان محسناً مجوداً مرتلاً.
      وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا هو الغالب، وهذا الذي يطلق عليه القرآن، والقرآن بمعنى المقروء الذي هو كلام الله الذي نقرأه، فقوله تَعَالَى :((فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [النحل:98] أي: إذا ابتدأت تقرأ القرآن، فالقرآن هنا بمعنى المقروء الذي سوف تقرؤه من كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، ابدأه بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
      وقوله تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الأعراف:204] ومعروف أنه سماع المقروء، ومعناها إن قرأ أحد كلام الله عز وجل فأنصت له واستمع، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن هذا القُرْآن أُنزل عَلَى سبعة أحرف} معناه: إن هذا القُرْآن يقرأ، أو مقروء عَلَى سبعة أحرف، تقرؤونه بسبعة أحرف، المقصود هنا هو المقروء، وهناك آيات وأحاديث تدل عَلَى أن هناك فرقاً، بين القُرْآن بمعنى القراءة، وبين القُرْآن بمعنى المقروء.
    5. أنواع الوجودات

      انتقل المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى التفريق بين الأعيان وبين المعاني أو الكلام من حيث وجودها أو ظرفيتها في الشيء كما عبر في آخر الكلام السابق، والمراد بهذه المعاني الأربعة؟
      يقول: إن الحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي، والكلام هذا قد يبدوا أنه صعب لكنه في الحقيقة سهل وبسيط إن شاء الله.
      فبين أن الأشياء لها عدة وجودات وجود عيني، ويعني به: وجود العين الحقيقية ذاتها، فمثلاً الجبل وجوده العيني هو المشار إليه عندما تقول: هذا جبل وهو أمامنا، ونحن عَلَى الطبيعة فوجوده هنا اسمه للوجود العيني، والوجود الآخر وجود ذهني، كأن أقول لك: أنا في ذهني جبل معين أتخيله وأتصوره، فهذا تصور ذهني لذات جبل ما، والوجود اللفظي هو عندما أقول: جبل، فأنا لم أقل: شجرة ولا زيد ولا عمرو، وإنَّما قلت: جبل.
      وعندما أشير إليه وأقول: هذا جبل فأنا أقصد هذه الألفاظ أي: "جيم وباء ولام" حتى لا يشتبه عندك أني أقول مثلاً جمل، فوجوده هنا وجود لفظي، وهناك وجود آخر يسمى الوجود الرسمي، يعني: الرسم والخط والكتابة كأن أكون كتبت كلمة جبل، فأقول لك هذا جبل، معناه: هذا رسم أو شكل كلمة جبل.
      فنجد في كل إطلاق أن المعنى يختلف؛ لكن في المجموع الكلام كله صحيح وكله حقيقي، وليس فيه مجاز يقول: لكن الأعيان الحقيقية الخارجية تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فالكلام كأنه مر بأربع تعيينات في الوجود وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي وكتابتها في المصاحف هي المرتبة الرابعة.

      يقول: [وأما الكلام، فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة؛ بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان].
      والمقصود أن الكلام ليس مخلوقاً متشخصاً قائماً بذاته نشير إليه، فنقول: هذا هو الكلام، وإن أشرت فلا بد أن أشير فقط إما إِلَى الوجود اللفظي الذي أتكلم به، وإما أن أشير إِلَى الوجود الرسمي الذي هو الكتابة أو الحروف، فأقول لك: هذا كلام فلان أي: هذا كلام فلان الذي نطق به، أو هو مكتوب، فلا واسطة بين هذا وذاك بوجود حقيقي بذاته، كما قال هاهنا في الأخيرة: إن الكتاب يذكر تارة ويراد به محل الكتابة، ويذكر تارة ويراد به الكلام المكتوب.
      ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتابة، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، فعندما أريد أن أكتب (جبل) إما أن أرسمه -كلمة جبل اكتبها- فهذا عين موجود في الخارج، لكن لا يمكن أن نقول: إن كتابة الجبل أو كتابة السماء أو كتابة الأرض أو كون السماء أو كون الجبل في كتاب، معناه ذكر حقيقتها العينية، لا؛ بل نقطها وحروفها، أما الكلام فإن حقيقته هي التي تكتب يعني الكلام نفسه يكتب؛ لأنه ينطق به اللسان فيكتب في الكتاب كما هو فيطلق عَلَى المكتوب، ويطلق عَلَى المنطوق، فهذا واضح المخالفة للأعيان.

      وإذا قالوا: إنكم تقولون بالحلول فنقول: لا نقول به؛ لأن هناك فرقاً بين الأعيان والذوات المتعينة في الخارج وبين الكلام فالكلام هو اللفظ وهو المكتوب، وليس هناك وجود له خارجي متشخص، فإذا قلنا: كتبنا كلام فلان فيعني ذلك أننا نقلناه من لفظه الذي تكلم به إِلَى الواقع لكن الأعيان إذا قلت: كتبت الجبل أو كتبت السماء أو كتبت زيداً فمعنى ذلك أننا كتبنا اللفظ أو الاسم الذي يدل عَلَى زيد أو السماء أو الجبل، فكتبت الوجود الرسمي الذي عبرنا عنه بالوجود اللفظي، والذي هو في الحقيقة تعبير عن شخصية حقيقية موجودة.
      فهم عندما يقولون: القُرْآن عبارة عن كلام الله وهذا المكتوب أو هذا الملفوظ ليس هو كلام الله وإنما كلام الله شيء أخر، فهم الذين تصوروا وافترضوا أن القُرْآن ذات متشخصة موجودة في الخارج، فلما أردنا أن نذكرها ونضعها في المصحف كتبنا وجودها اللفظي أو وجودها الرسمي، وهذا واضح البطلان، فإن القُرْآن أو الكلام بالجملة ليس له وجود عيني متشخص، وليس له ذات خارجية حقيقية، وإنما هو مباشرة من المتكلم إِلَى الورق، وهذا هو المقصود من هذه العبارات أيضاً:
    6. وقفة مع قوله : (( وإنه لفي زبر الأولين ))

      إن المخالفين لعقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق، ويقولون: لقد جَاءَ عن القُرْآن أنه في زبر الأولين، وأنه في رقٍ منشور، وأنه في لوح محفوظ، وأنه في كتاب مكنون، إذاً كيف تطلقون هذا وهو حلول.
      فنقول: أنتم لا تفهمون معاني كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالإطلاقات تختلف فكل إطلاق في كل موضع له معنى غير المعنى الذي أطلقناه عليه في الموضع الأخر.
      فقوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ))[الشعراء:196] لا يعني أن نفس الكلام والقرآن موجود في كتب الأولين أو في صحفهم أو في زبرهم، إنما معنى ذلك أنه يوجد فيها خبره وذكره كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل)) [الأعراف:157] وكذلك يجدون خبر القُرْآن مكتوباً عندهم في زبر الأولين، وفي صحف الأولين.
      وأما كونه في رقٍ منشور، أو لوح محفوظ، أو كتاب مكنون، فيكون هنا بحسب العامل، ومعلوم في اللغة العربية أن الظرف يُقدر له عامل، فالعامل قد يكون عاما -الأفعال العامة- مثل الكون والاستقرار والحصول، فمثلاً إذا قلنا: مُحَمَّد في المسجد، أي: مُحَمَّد مستقر في المسجد، أو مُحَمَّد حاصل في المسجد، فغالباً كلمة "في" الظرفية تختلف بحسب العامل، فقد يكون العامل عاماً "الكون والاستقرار"، وهذا هو الغالب فبإمكانك في أي وقت من الأوقات تجد كلمة "في" أن تقدر: كائن أو يكون أو يستقر أو يحصل، وعلى كلا المعنيين ليس جائزاً أن تقدر متعلقاً عَلَى فعل الكون العام، فمثلاً تقول: القُرْآن في اللوح المحفوظ أي موجود ومستقر وحاصل وكائن في اللوح المحفوظ ....الخ هذه حقيقة، فتقدر فعل أخص بأن تقول: القُرْآن مكتوب في اللوح المحفوظ أو في رق منشور هذا أيضاً معنى صحيح، إِلَى أن يقول: [أن الكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة] أي: ظرف الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب نفسه أو الكلام المقروء.
      فمثلاً: إذا قلنا: أنهينا قراءة شرح العقيدة الطّّحاويّة أي أننا قرأنا الكلام الذي كتب في هذا الكتاب، وإذا قلت هذا هو كتاب العقيدة الطّّحاويّة وهذا شرح فلان للعقيدة، فمعنى ذلك: أنه المحل الذي يحوي هذا الكتاب وهو الظرف الذي حصل فيه.

      فَيَقُولُ: فالتفريق واجب بين كتابة الكلام في الكتاب وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، أما كتابة الكلام، فلا فرق بين اللفظ وبين الرسم، وأما كتابة الأعيان، فلا تكتب الحقائق ذاتها - الجبل - الشجرة- مُحَمَّد - حسين - عمرو- بمعنى لايوضع هو بنفسه في الورق، وإنما يكتب خبره أو رسمه أو أي معنى من هذه المعاني.
      فالخلاصة: أن القُرْآن هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، والله تَعَالَى تكلم بالتوراة، وتكلم بالإنجيل وبالقران وبالزبور ويتكلم بالأمر وبالنهي وبالخبر ويكلم من شاء كيف شاء في الماضي، والحاضر، والمستقبل فالأمر يعود إِلَى مشيئته وإرادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس شيئاً من كلام الله مجازاً، ولا يطلق عَلَى القُرْآن في أي حالة من الحالات أنه مجاز، سواء كَانَ محفوظاً في الصدور، أو متلواً بالألسن، أو مكتوباً في الأوراق ولكن الإطلاقات تختلف.
      ونرد عَلَى الذين يقولون: بأن هذا يقتضي الحلول بما سبق أن أوضحناه من اختلاف معنى الظرفية ومعنى الحالية واختلاف الإطلاقات التي تطلق عَلَى القرآن، فتارة يطلق عَلَى القراءة، وتارة عَلَى المقروء، وتارة يطلق عَلَى فعل العبد، وتارة عَلَى كلام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا معارضة بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، والرق المنشور، وبين كون الذي قرأه فلان أو الذي سمعه فلان، فهذه كلها عَلَى الحقيقة، وإنما تختلف من حال إِلَى حال بأن يكون المقصود في موضع خبره، وفي موضع كتابته، وفي آخر قراءته عَلَى المسموعة، وأمثال ذلك من الإطلاقات.
  2. المجاز في كلام الله

     المرفق    
    قال المصنف ابن أبي العز:
    [وحقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يُقَالَ: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارئ كلام الله، وقد قال تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ))[التوبة: 6] وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله، والآية تدل عَلَى فساد قول من قَالَ: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تَعَالَى قال:((حَتَّى يَسْمَعَ كَلام))، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، والأصل الحقيقية.
    ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله، أو حكاية كلام الله، وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً] اهـ.

    الشرح:
    حقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية هي ما يُسمعُ منه جل شأنه، أو من المبلغ عنه، مثلما يسمع منه جبريل -عَلَيْهِ السَّلام- أو سمع منه آدم أو الملائكة أو موسى أو نحو ذلك، ويُسمع منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بلا واسطة، أو يسمع عنه بواسطة المبلغ كما نقرأ القرآن، أو كما سمع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآن من المبلغ الذي هو الروح الأمين جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
    فالكلام هنا وهنا حقيقة ككلام الله تَعَالَى مسموع معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها وليس في شيء منها مجاز فهذه الفقرة لإيضاح أنه ليس فيه مجازاً، كما تقوله متأخرة الماتريدية والحنفية والأشعرية يقول المصنف: [والمجاز يصح نفيه] وهذه قاعدة مهمة وهي من أهم الأمور التي نستدل بها عَلَى إبطال المجاز، وأنه ليس في القُرْآن مجاز، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.
    1. الرد على القائلين بالمجاز في كلام الله

      إن البلاغيين الذين قالوا بالمجاز يعلمون أن أول من أحدثه وتكلم به هم المعتزلة بخلاف كلمة المجاز في لغة العرب قبل ذلك، فإنها تطلق بمعنى مكان العبور، أي: معبر تجوز منه وتعبر منه إِلَى مكان آخر، هذا أصله في اللغة.
      ويقولون مثلاً: إذا دخل رجل كريم: دخل البحر، بمعنى الرجل الكريم أو الكثير العلم شبه بالبحر لكرمه أو لغزارة علمه، والمجاز يجوز نفيه، فيجوز أن يأتي أحدٌ ويقول هذا ليس بحراً، ولكنه رجل، وكلام هذا المعترض لنا صحيح، وكلام المتكلم صحيح مجازاً لكن كلام النافي صحيح وهذا هو الذي يهمنا؛ لأنه نفى ما قلته أنت عَلَى سبيل المجاز، وأثبت الشيء عَلَى حقيقته لأن هذا الرجل ليس بحراً، أي ليس ماءاً وإنما هو رجل.
      إذاً: المجاز يجوز نفيه، فهذه القاعدة يجب علينا أن نعرفها لنرد بها قول من يقول: إن في القُرْآن مجاز ولا سيما في آيات الصفات، فإذا جَاءَ أحد وقال في معنى قوله تعالى: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] أن المعنى: نعمه وإفضاله، والقرينة الدالة عَلَى ذلك قوله تعالى: ((يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)) [المائدة: 64] وهذه قرينة تدل عَلَى أن المقصود هو الإنفاق، وجاء آخر عَلَى مذهبهم، وقَالَ: ليس لله يدان، وهذا هو حقيقة مذهب الذين ينفون صفات الله عز وجل، لكن لو جَاءَ أحدٌ من علماء السلف من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وقال لنا: معنى قوله تعالى: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء))[المائدة: 64] أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كريم ينفق كيف يشاء ويعطي ويتفضل عَلَى عباده، فنجد مثل هذا الكلام.
      فيأتي المبتدعة ويقولون: إذاً لسنا نَحْنُ الذين أولنا، بل حتى -مثلاً- ابن جرير الطبري ومجاهد وعكرمة وابن عباس يقولون مثل قولنا.
      فنقول لهم: لابد أن تعرفوا الفرق بين من نَظَرَ إِلَى معنى الآية ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ))[المائدة: 64] وأن: معناها الإنفاق والتكرم والإنعام، والتفضل، ولكن هل اعتبر ذلك مجازاً ونفى الصفة؟ هل ابن عباس ومجاهد والطبري نفو الصفة؟
      الجواب: لا، إنهم لم ينفوا الصفة، أما أنتم فإنكم تعبرون بالمعنى عَلَى أساس أنه مجاز وتنفون الحقيقة فتقولون: ليس له يد.
      لذا يقول الإمام الدارمي رَحِمَهُ اللَّهُ: اليهود أثبتوا اليدين وقالوا يد الله مغلولة كما قال الله عنهم: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة: 64]، والله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: اليد مبسوطة فجاء المعطلة وَقَالُوا: ليس له يد، فهم خرجوا عن كلام الله، وعن كلام اليهود، فما كَانَ قصد اليهود نفي الصفة، ولا رد الله عليهم بإثباتها، فالخلاف هنا كَانَ بين الغلول وبين البسط، فجاء نفاة الصفات فنفوا وجود اليد نفسها.
      يقول: وبهذا يتضح لك مخالفتهم للحق وخروجهم عن الطريق المستقيم،
      ونعود إِلَى قاعدة أن المجاز يجوز نفيه، فنقول: يقول الله تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) [التوبة:6] :فيجوز أن يأتي أحد من النَّاس فَيَقُولُ: هذا ليس كلام الله، هذا عبارة عن كلام الله، فلا أسمعه ولا يسمعه المشرك لأنه ليس كلام الله فلذلك يتضح لنا فساد وبطلان هذا المذهب، فإذا جَاءَ رجل يهين المصحف عياذاً بالله، فتقول له: هذا كلام الله، فيقول لك: لا هذا مجاز وليس هو كلام الله إنما هو عبارة عن كلام الله، وهكذا في أي موضع يمكن أن يسمع القُرْآن يتلى أو يحفظ.

      فالكلام حقيقةً سواء سمع من المتكلم بلا واسطة -كما سمع جبريل أو موسى من الله عَزَّ وَجَلَّ- أو بواسطة كما في هذه الآية: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ))[التوبة:6] فلم يقل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله والأصل في الكلام هو الحقيقة، إذاً فالمجاز يجوز نفيه عند علماء البلاغة.

      والقضية الثانية: الأصل في الكلام هو الحقيقة، فمثلاً عندما نقول: بحر والبحر هو الماء، وعندما أقول أسد أعني الوحش المفترس، ولا أعني الرجل الشجاع، هذا هو الأصل في اللغة ولا يخرج عن ذلك إلا بدليل، فعندما يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ))[التوبة:6] فإن هذا يحمل عَلَى الحقيقة لا عَلَى المجاز لأن الحقيقة هي الأصل، وإن كَانَ لا يسمع كلام الله منه، ولكن ممن يبلغه عنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو حقيقة في كلا الحالتين في حالة سماعه بواسطة، وفي حال سماعه بلا واسطة.
      يقول: ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة أو حكاية عن كلام الله، وليس فيها كلام الله -أي: الحقيقة- فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً، فإنه لم يأت لا في كتاب الله، ولا في سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حتى من أحد من السلف والصحابة أنهم قالوا: إن هذا هو ليس حقيقة كلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، أو ما أشبه ذلك أبداً.
      وإنما كانوا يؤمنون أنه كلامه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، هذا هو ما جَاءَ به الكتاب، وما جاءت به السنة في أحاديث كثيرةٍ لا تحصى، وما هو مشهور ومعلوم عند الْمُسْلِمِينَ خاصتهم وعامتهم في الصدر الأول لم يخالف فيه أحد حتى ظهر ابن كلاب وظهر معه من قَالَ: إنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو ما أشبه ذلك من المعاني التي ابتدعوها، ووضعوها، وقالوها عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بغير علم نتيجة الجهل، أو نتيجة محاولة إفحام المبتدعة والرد عليهم بغير منهج الكتاب والسنة، فالمبتدعة يرد عليهم بالكتاب والسنة أو بما دل عليه، لا بالهوى، ولا يرد عَلَى بدعة ببدعة.