المادة    
وما دام أنه لم يثبت في الحوض هل هو قبل الصراط أم بعده نص صريح ولا يترتب عليه كبير فائدة، فإن العبرة والموعظة قائمة سواء كَانَ ذلك قبله أو بعده، وسنكمل ما يتعلق بذلك عندما نتعرض لكلام العلامة القرطبي في الأخير، لأن المُصنِّفُ فصَل الكلام هنا، فذكر بعضه وأشار إليه في الأول، ثُمَّ أكمل في الآخر.
فقال رَحِمَهُ اللهُ: [والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه، ويُمنع منه أقوام قد ارتدَّوُا عَلَى أعقابهم، ومثل هَؤُلاءِ لا يجاوزون الصراط] هذا هو الرأي الذي اختاره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ:
[وروى البُخَارِيّ ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قَالَ: سمعت رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {أنا فَرَطُكُم عَلَى الحوض}.
قَالَ: والفَرَطُ الذي يسبق إِلَى الماء.].
هذا الحديث متفق عَلَى صحته، ورواه أيضاً الإمام أَحْمَد وغيره وفيه الدلالة عَلَى أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صاحب الحوض وهو أول من يرد عَلَى الحوض، فالفرط هو المقدمة أو الأول، وفي هذا دليل عَلَى ثبوت الحوض، وقَالَ: [وروى البُخَارِيّ عن سهل بن سعد قَالَ: قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنا فرطكم عَلَى الحوض ثُمَّ قَالَ: من وَرَدَهُ شرب منه}] وهناك خلاف في الألفاظ حسب الروايات {ومن شرب منه لم يظمأ أبدا} فمن ورد الحوض سمح له بأن يشرب منه، فإذا شرب منه فإنه لا يظمأ بعد ذلك أبدا، والكيزان: جمع كوز، يعني: آنيته، كما ورد ذلك في الروايات، كعدد نجوم السماء، فهو عَلَى سعته وكبره وحجمه فيه من الآنية بعدد نجوم السماء، أعداد لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  1. هل يسقي النبي صلى الله عليه وسلم الناس بيده

    وليس في هذه الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسقي النَّاس بيده الشريفة، كما يزعم بعضهم فيدعو ويقول: (اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا) فهذا لم يرد في حدود ما اطلعت عليه من الروايات، هذا من جهة النص.
    ومن جهة النظر، فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وحده وبيده الشريفة يسقي هَؤُلاءِ الناس، وبهذا العدد الكبير وعلى هذه السعة العظيمة، ثُمَّ إن ذلك لا يتناسب مع مقام النبوة، فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو سقاء يسقيهم الماء مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أول من يرد، والحوض حوضه.
    ولا يقتضي إعطاءه الحوض أنه يسقي النَّاس بيده، وإنما هو صاحبه الذي يتقدم أمته ثُمَّ يُسر برؤيتهم وهم يشربون مع كثرتهم، وهم يردون من هذا الخير العظيم الذي أعطاه الله إياه، وأكرمه به ويتألم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ما يرى أن قوماً يذادون، إذاً هو لا يسقي لأن التصريح جَاءَ بأنهم يردون ويشربون، وهَؤُلاءِ يطردون؛ بل يذادون.
  2. ذود أناس من أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض

    قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث سهل {أنا فرطكم عَلَى الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ثُمَّ قَالَ: ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يحال بيني وبينهم} وهذه الرواية تصريح بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفهم وأنهم يعرفونه.
    وقد سبق أن قلنا: إن الذين يذادون عن الحوض إن كانوا من عموم أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يقول: {أمتي أمتي} فذلك محتمل أن يذاد أناس من عامة الأمة، وهو أمر واقع ممن ينتسبون إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أمته، ولو بعد وفاته بقرون، وهَؤُلاءِ ليسوا من أمته في الحقيقة بل هم مبدلون ويعرفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلامات التي يعرف بها أمته، أو يكون هذا الحوض له ولأمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحينئذ يتعجب أو يستغرب، لماذا يذادون؟
    وأيضاً كونهم ممن رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورؤه، فهذا الاحتمال أيضاً وارد، ولا تعارض بينهما، ولا ينفي ذلك كما سبق، أو لا يقتضي ما يقوله أهل البدع من الروافض وأشباههم من أن بعض الصحابة ارتدوا بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرف أقواماً، ثُمَّ ارتدوا بعد وفاته، وهَؤُلاءِ ليسوا من الصحابة ولا يشملهم اسم الصحبة، كما وقع ذلك من مسيلمة الكذاب وغيره من المرتدين، فينطبق عَلَى هَؤُلاءِ قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يُحال بيني وبينهم}، وظاهر الفاعل المجهول للفعل "يحال" أنهم ملائكة العذاب يذودون ويطردون أهل الشقاوة، الذين لم يكتب الله لهم ورود الحوض.
  3. ذكر طرق أحاديث الحوض

    سبق ذكر كلام ابن حجر أنه قَالَ: "أحصيت نحو خمسين أو زدت عليها".
    ومنهم من قَالَ: إنها ثمانين، والحديث روي عن عدد من الصحابة وبعض الرواة قد يزيد أو ينقص بحسب الرواية وبحسب المجالس، فقد يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدث بذلك في مجالس متعدده، فلما سمع أبو حازم هذا القدر من الحديث عن النعمان بن أبي عياش قَالَ: هكذا سمعته من سهل قَالَ: نعم.
    قال أبو حازم: وأنا أشهد عَلَى أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه -أي: في موضوع الحوض- أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنهم مني أي هَؤُلاءِ من أمتي، فلماذا يذادون عن الحوض قَالَ: فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، أي أنت تعرفهم ويعرفونك، وهم منك عَلَى عهدك عَلَى حد علمك، وأنت في الدنيا، ولكنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
  4. هل النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره ؟

    وفي الحديث السابق دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، وليس كما يقول أهل البدع: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي في قبره حياة حقيقية، وأنه بجسده وروحه يجوب الأرض ويطلع عَلَى أحوال الْمُسْلِمِينَ ويعرفها ويشفع ويفعل.. وغير ذلك مما يبتدعون، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أنه يعلم بعد موته، لكان أول ما يعلم ما وقع من الردة، فإنها أمر عظيم وخطب جلل كبير، كيف يلتحق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرفيق الأعلى بعد أن جمع الله تعالى جزيرة العرب كلها تحت لواء الإيمان، وأطاعت وانقادت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يموت وإذا بكثير منها من الشرق واليمن يرتدون حتى أنه لم يثبت الثبات الكامل إلا الطائف ومكة والمدينة وبنو عبد القيس، إذاً الموضوع مهم، فكان هذا من أول ما ينبغي أن يعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه قريب عهد به؛ لأن الردة كانت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    إذاً.. فالقول بأنه يطلع عَلَى أحوال الأمة وهو حي في قبره حياته العادية من قول أهل الضلال الذين يريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة إِلَى الشرك من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاستغاثة به من دون الله فيوقعون الأمة في الشرك الأكبر الذي جَاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع الرسل لمحاربته، وللدعوة إِلَى توحيد الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  5. النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب

    وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه، وهذا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد وفاته فإنه لم يبق له في هذا العالم تأثير، وإنما بقيت رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانة في عنق الأمة يجب عليهم أن يتمسكوا ويقتدوا بها، فقد تركنا عَلَى المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولم يتركنا للأوهام والظنون والتخرصات والافتراءات، وإن كَانَ المقصود بها تعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أعظم تعظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن يطاع أمره، وتتبع سنته، ويحب حباً لا يقدم عليه حب شيء من المخلوقات.