المادة    
الحديث الثالث من أدلة الحوض: هو حديث الإمام أَحْمَد-الذي قلنا: إنه من ثلاثيات المسند- عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {أغفى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءة فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه نزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ))[الكوثر] } وقام متبسماً بهذه البشرى العظيمة وهذا الاختصاص وهذا الفضل الجزيل الذي امتن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - به عليه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أيضاً مِنِّة عَلَى الأمة جميعاً، لأن هذا الحوض تشرب منه هذه الأمة المصطفاة المختارة من بين الأمم.
  1. خلاف الفقهاء في البسملة

    بعض الفقهاء استدلوا بهذا عَلَى أن (بسم الله الرحمن الرحيم) هي آية من كل سورة؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ فقَالَ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) هذه قضية فقهية فرعية، لكن لا بأس أن نقول: إن هذا الاستدلال ليس راجحاً، لأن الإِنسَان يمكن أن يقرأ البسملة قبل أي سورة، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثُمَّ يقرأ بالبسملة فتكون قراءته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) ليست لأنها نزلت عليه مع السورة.
    ولكن لأن الإِنسَان إذا أراد أن يقرأ فإنه يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك كالعادة المتبعة في القرآن، وليس لخصوص أن الله أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) فالمهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم) ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)).
  2. معنى الكوثر

    {سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم} فهم لا يعلمون الغيب ولا يعرفون شيئاً حتى يخبرهم ويطلعهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عن طريق الوحي الذي يأتي به رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {هو نهر أعطانيه ربي - عَزَّ وَجَلَّ - في الجنة}.
    وهذا ينطبق عَلَى ما جَاءَ في حديث الإسراء أنه رأى ذلك النهر العظيم في الجنة {عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد الكواكب} والآنية والأباريق والكيزان -كلها جاءت في الروايات- عدد الكواكب: أي: عدد نجوم السماء، وذلك لكثرتها، فالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أعطى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحوض عريضاً واسعاً وعذباً شهياً أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وهذا النهر ترابه المسك وحصباؤه الدر والياقوت، وهذا شيء عظيم لا يمكن أن يتخيل.
  3. هل الكوثر مشقوق في الأرض

    والكوثر ليس مشقوقاً في الأرض كما جَاءَ في بعض الروايات وإنما يجري فوق الأرض، حتى يكون الأخذ منه أسهل، ويكون الامتنان به أعظم، وهو أغرب للعقل البشري بأن يرى الإِنسَان نهراً يجري هكذا فوق الأرض وليس مشقوقاً، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا ممن يَرِدُه إنه عَلَى كل شيء قدير.
    يقول: {يُخْتَلجُ العبدُ مِنْهُم}، والاختلاج يشبه الانتهاب أو الاختلاس، يأتي أناس يردون فيتقدمون ليشربوا من الحوض فيختلجون ويجذبون من بين الذين يردون عَلَى الحوض.
    فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يا رب! إنه من أمتي} فانظر إِلَى شفقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بأمته! يرجوا أن لا يختلج ولا يذاد ولا يطرد أحد عن الحوض.

    فيقال لي: {إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك} العلة في طردهم أنهم أحدثوا بعدك أموراً تقتضي أن يطردوا وأن يذادوا.
    ثُمَّ ذكر لفظ مسلم: {إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ} والحوض في العرصات يشخب فيه ميزابان يصب من النهر الذي ورد كما في حديث الإسراء أنه في الجنة في السماء السابعة، فهو نهر غريب بصفته، وكذلك في أرضه كما يذكر القرطبي -رحمه الله تعالى- أن الأرض التي يكون عليها هذا النهر ليس في هذه الأرض وإنما هي الأرض المبدلة ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ))[إبراهيم:48] فهو في السماوات المبدلة التي تكون يَوْمَ القِيَامَةِ.