المادة كاملة    
اشتمل هذا الدرس على تتمة للحديث عن مسألة خلق القرآن، ففيه ذكر لمخالفة أتباع المذاهب لأئمتهم، مع بيان مذهب الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة، وحقيقة ما نسب إليه من كلام لم يقله ولم يثبت عنه. ثم الكلام عن مقولة (لفظي بالقرآن مخلوق)، وذكر مذهب المعتزلة في هذه المسألة، وإقرار صوابه والرد على خطئه.
  1. كلام أتباع المذاهب في أصول الدين ومخالفتهم لأئمتهم

     المرفق    
    ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى أن هنالك طائفة من المتأخرين المنتسبين إِلَى الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والفضل يقولون: إنما نتلقى عن الأئمة أحكام الحلال والحرام، وأما ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وأمور الإيمان والغيب، فهذا نأخذه من أهل الكلام مع إطباق الأئمة عَلَى ذم علم الكلام وأهله، كما هو منقول في هذا الكتاب عندما نقل كلام الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام أبا حنيفة وصاحباه، والشَّافِعِيّ وغيرهم في ذم أهل الكلام، وقالوا ذلك في كتب الفتاوى الحنفية كـالفتاوى الظهيرية وغيرها وقد نصت: عَلَى أنه إذا أوقف الرجل وقفاً وجعله لأهل العلم فإن أهل الكلام لا يدخلون فيه، لأن الإمام أبا حنيفة نص عَلَى أن علم الكلام ليس من العلوم الشرعية، وكذلك صاحباه.
    فهكذا ينصون عليه في فتاواهم التي تقتفي أثر أئمتهم السابقين، ولكنهم مع ذلك يدَّعون ويزعمون أن الحق في أمور العقيدة ليس مع هَؤُلاءِ الأئمة، وأن هَؤُلاءِ الأئمة إنما كانوا عَلَى مذهب السلف الذي هو مجرد تفويض المعنى دون علم وفهم للصفات!
    وليس الموضوع خاصاً بالصفات؛ بل بكل أبواب العقيدة؛ فهو متعلق بالإيمان، وبالقدر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبغير ذلك من أبواب العقيدة، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

    ونجد أن كثير اً من المتأخرين من أتباع الأئمة قد خالفوا أئمتهم المتقدمين أعلام الهدى المجمع عَلَى الاقتداء بهم -وكما سبق- أن الانتساب عند المتأخرين أصبحت نسبة ثلاثية، فتجدهم يذكرون ثلاثة ألقاب فيقولون: فلان الحنفي مذهباً الماتريدي عقيدة الجنيدي أو القادري طريقة، فلان بن فلان الحنبلي مذهباً القادري طريقة الأشعري عقيدة، وكذلك المالكي وهكذا، فنجد أن هناك ثلاث نسب: نسبة في الفقه وهذه للإمام.
    والنسبة الثانية: في العقيدة وهذه للمتكلمين والنسبة الثالثة: في السلوك وطريقة العبادة: وهذه يجعلونها لأحد أئمة الطرق الصوفية الذي ارتضوه شيخاً لهم،
    مع أن الأمة عندما أجمعت عَلَى فضل الأئمة الأربعة ارتضوا الآخرين كالإمام الأوزاعي، وابن المبارك، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينه، وسفيان الثوري، والطبري وأمثالهم من الأئمة الأجلاء، فعندما أجمعت الأمة عَلَى فضل هَؤُلاءِ الأئمة والاقتداء بهم لم تجمع عليهم لكونهم أئمة في الفقه فقط فقد يستنبطون أحكاماً دون أن يكون لهم منهج صحيح في العبادة، فلو أن لهم مخالفةً في أمورِ العقيدةِ لنُسِبوا إِلَى البدعةِ، ولُذِكَرَ ما عندهم من المخالفات في العقيدة، ولما كانوا أئمة يحتج بهم، ومجمعاً عَلَى فضلهم.
    ولهذا لما أخطأ الإمامُ أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- في مسألة الإيمان بيِّن الأئمة ذلك الخطأ مع إجلالهم له وإجماعهم عَلَى فضله -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وأنه من الأئمة الذين أجمعت عليهم الأمة، وكذلك الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لا يستطيع أحد أن يطعن في عبادته أو يقلل من تقواه وورعه وزهده، وكان مضرب المثل في عصره ثُمَّ يأتي بعده من يقول: إنه المالكي مذهباً القادري طريقة!!
    وهل الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن لديه من التعبد والزهد والتقوى ما يجعلك لا تجد فيه أسوة في هذا الجانب أبداً؟ وإنما تذهب إِلَى عبد القادر الجيلاني أو الشاذلي أو الجنيد أو إِلَى أي فلان كائناً من كان! هذا الإِنسَان من القرون المتأخرة الذين لا يمكن أن يبلغوا من الفضل والتقى والورع والزهد مبلغ أُولَئِكَ الأئمة.
    وكذلك الإمام الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ حجة في جميع العلوم حتى في اللغة والشعر ومع ذلك يقولون: لا نأخذ عن الشَّافِعِيّ في العقيدة، إنما نأخذ عنه الأحكام.
    فمثلاً فخر الدين الرازي الإمام المتأخر من الأشعرية كتب كتاباً في مناقب الشافعي يُدافع فيه عن مذهب الشَّافِعِيّ في الفروع، ولكنه في الأصول: كمسألة الإيمان يرجح غير ما رجحه الشَّافِعِيّ، وما ذكره الشَّافِعِيّ هو الصحيح، ونقل الإجماع عليه من الأئمة، ومع ذلك يخالفه!

    والعجيب أن أتباع هَؤُلاءِ الأئمة هم من المقلدين المتعصبين للإمام في مسائل نجد أن الأئمة رحمهم الله خالفوا فيها الدليل وهذا لا يستغرب أن أحداً من الأئمة كائناً من كَانَ يكون له فتوى أو رأياً فقهياً مخالفاً للحديث الصحيح، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أسباب ذلك في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وذكر من الأسباب أنه قد لا يبلغ الإمام الحديث، وقد يفهمه عَلَى غير وجهه أو قد لا يرى صحته وغيرها من الأسباب.
    فالمهم أن الإمام قد يخطئ ويكون له بذلك أجر واحد عَلَى اجتهاده. مع أن الأئمة رحمهم الله جميعاً نصوا عَلَى أنه إذا خالف قول أحدهم الحديث الصحيح: فإنه يجب علينا أن نأخذ بالحديث وأن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، لكن أتباعهم خالفوهم في هذا الشأن، فيتعصبون لهم أشد التعصب في مسائل فقهية مرجوحة وضعيفة.
    ومع ذلك فهم لا يأخذون بأقوالهم في العقيدة التي هي مسائل قطعية إجماعية لم يختلف فيها السلف ولم يختلف فيها الأئمة الأربعة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين: كمسألة القُرْآن لم يختلف أحد من الأئمة الأربعة أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق وسنرى ماذا قاله الأتباع وماذا قال أئمتهم.
    فمثلاً يأتي الحنفي فَيَقُولُ: إن شرب النبيذ حلال ما لم يسكر، وأن قليل الخمر الذي لا يسكر حلال.
    فيُقال له: إن هذا خلاف حديث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن الأمر ليس مجرد الإسكار فقط بل الخمر قليلها وكثيرها حرام، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {ما أسكر كثيره فقليله حرام} {وكل مسكر خمر} ومع ذلك يقولون: لا، ويصرون عَلَى كلام الإمام.
    وفي مذهب الحنفية: أنه إذا ضحك أحد في الصلاة يجب عليه أن يتوضأ، مع أن القهقهة لا تنقض الوضوء، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ أبا حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر ذلك فاتبعوه وتمسكوا بقوله أشد التمسك، ولا يقرون بأن أبا حنيفة أخطأ في هذه المسألة، بل الكرخي -أحد أئمتهم المتأخرين- يقول: كل حديث أو قول ليس في مذهبنا فإن الدليل أو الحديث الدال عليه إما منسوخ أو ضعيف أو مؤول والعياذ بالله، ولو كَانَ في صحيح البُخَارِيّ، أو كَانَ غير منسوخ من شدة تعصبهم لكلام الأئمة.
    وكذلك الشافعية يأتون مثلاً إِلَى أمور مرجوحة كمسألة اللمس أو المس. فمجرد ملامسة البشرة للبشرة عندهم تنقض الوضوء، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لمس ولمسته أمهات المؤمنين وقبَّل نسائه ولم يتوضأ} ومع ذلك فهم يقولون: إن مجرد اللمس ينقض الوضوء ويتحرجون من ذلك تحرجاً شديداً حتى أن الإِنسَان إذا توضأ يأخذ عَلَى يده أي شيء حتى لا يلمس يد زوجته وهو لا يقصد الشهوة ولا يقصد أي شيء، لكن هذا من شدة التمسك بالمذهب.
    فنقول لهم: مع هذا التمسك الشديد في الأمور الفرعية أين التمسك بالأصول القطعية المجمع عليها؟ فالإِنسَان في المسائل الفقهية بين الخطأ أو الصواب ولكنه في أمور العقيدة بين الكفر أو الإيمان، وبين السنة أو البدعة، فأيهما أولى بأن نكون حريصاً عليه؟
    إن السلف الصالح رضوان الله عليهم بينوا لنا ذلك، فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم اختلفوا في أحكام فقهية من الصلاة والغسل والوضوء والحج والمورايث وفي أمور معلومة، واختلافهم هذا رحمة بالنسبة لنا، لا كما يفهم بعض الذين ينسبون للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث الموضوع {اختلاف أمتي رحمة} إنما هو من باب: أن ديننا يقبل الاجتهاد والنظر، ولو لم يختلفوا لما جاز لنا أن نجتهد إلا أن نقول كما قالوا، ولهذا فنحن نقول في مسائل العقيدة: إن الصحابة أجمعوا عليها فلا يجوز لنا أن نجتهد عَلَى الإطلاق، والصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- ومع اختلافهم في هذه المسائل فقد اتفقوا عَلَى محاربة أهل البدع.
    فعندما ظهرت الخوارج قاتلهم أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتالاً بالسيف، ولما ظهرت الشيعة وجاءوا إِلَى عَلِيّ وَقَالُوا: أنت هو، قَالَ: من هو؟ قالوا: أنت الله، فحفر الأخاديد وأحرقهم بالنار ولم يخالفه أحد من الصحابة إلا أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: لو كَانَ الأمر إليَّ لقتلتهم بالسيف ولم أحرقهم لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا تعذبوا بعذاب الله} .
    فخالفه في الكيفية ولم يخالفه في نفس العمل أي: أنهم متفقون عَلَى أنهم يقتلون، واتفقوا كذلك عَلَى زجر القدرية وهجرهم وتبديعهم لهم والبراءة منهم، كما ورد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فنجد أنهم مع اختلافهم في بعض الفروع فقد اتفقوا الاتفاق التام في العقيدة والأصول ومحاربة أهل الضلال والزيغ والابتداع.
    وورث الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الْمُسْلِمِينَ وأئمتهم وفضلائهم؛ ما كَانَ عليه الصحابة والتابعون في هذا الشأن، حتى نبغ هَؤُلاءِ المتأخرون وخالفوا في ذلك، وقالوا كما ذكر المصنف: نأخذ من الأئمة ونتلقى عنهم الأحكام فقط، وأما في أمور العقيدة وأصول الدين والإيمان فإننا نأخذها من المباحث العقلية التي حررها فلان، وفلان من أهل البدع ومن أهل الكلام، وهذا الذي من أجله أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن يرد عَلَى مذهب الماتريدية الحنفية بكلام الطّّحاويّ وكلام الإمام أبي حنيفة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-.
  2. الإمام أبو حنيفة وكتاب الفقه الأكبر

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
    [والذي يدل عليه كلام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه الأكبر فإنه قَالَ: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن عن موسى عَلَيْهِ السَّلام وغيره من الأَنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس، فإن ذلك كله كلام الله إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) انتهى.
    فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له من صفاته يعلم منه أنه حين جَاءَ كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى كما يفهم ذلك من قوله تعالى:((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) [الأعراف:143] ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: الذي هو من صفاته لم يزل رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] إهـ.

    الشرح:
    في طبعة الشيخ الأرنؤوط أن المتن الذي نقله المصنف، نقله من نفس متن شرح الفقه الأكبر وقد سبق الحديث عن كتاب الفقه الأكبر، ونسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة صحيحة عند الحنفية، وأما إذا نظرنا إِلَى رجال السند فإنه يشك في نسبته إليه، بل لا يصح السند لأنه مروي من طريق أبي مطيع البلخي وهو الحكم بن عبد الله أحد فقهاء الحنفية في القرن الثالث، وهو ضعيف في الرواية؛ بل قد اتهم بأكثر من الضعف، ومع ذلك فهو من فقهاء الحنفية المعتبرين في الفقه، وهم يوثقونه، ويرون أن ما ينسبه إِلَى الإمام أبي حنيفة فهو كلام موثوق مقبول.
    وكتاب الفقه الأكبر -على ما فيه من بعض الأخطاء التي هي من وضع أبي مطيع البلخي؛ إلا أن الذي يبدو عند التحقيق أن الكتاب له أصل عن الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا مطيع البلخي أضاف إليه من عنده أشياء ونسبه كله للإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ولو أن الحنفية -على ما في الكتاب من بعض المخالفات كما في مسألة الإيمان- التزموا بما فيه لكان أهون، ولكنهم ليسوا متمسكين بما في الفقه الأكبر مع أنهم يصححون نسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- وليسوا أيضاً عَلَى ما في هذه العقيدة الطّّحاويّة (المتن) مع أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ من كبار أئمتهم المعتبرين المعدودين، وهم مع ذلك قد خالفوا هَؤُلاءِ الأئمة.
    1. مذهب الإمام أبي حنيفة في الكلام عن القرآن

      يقول الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-كما في كتابه الفقه الأكبر: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقه، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن حكاية عن موسى وغيره من الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى، إخباراً عنهم.
      وكلام الله غير مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تَعَالَى فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) اهـ.
      هذا هو النص الموجود في الفقه الأكبر وفي شرحه للملا علي القاري أحد الحنفية المتأخرين المتوفي في القرن العاشر، وقد نقل المُصنِّف هذا الكلام ليستدل به عَلَى أنه مطابق لما ذكره -أيضاً- الإمام الطّّحاويّ في المتن، فعندنا الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي أصَّل المذهب الذي يُنتسب إليه الأحناف المتوفي سنة (150هـ)، والإمام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- المتوفي سنة 321هـ والإمام ابن أبي العز هَؤُلاءِ الثلاثة هم من عمد المذهب، الأول إمام المذهب، والثاني من الأئمة المشهورين في عصره، والثالث كَانَ من كبار قضاة الحنفية بل وغيرهم في زمانه؛ لأنه وُلي ما يُسمى "قاضي القضاة"، أي رئيس القضاء الأعلى في البلد في أيام المماليك.
      فهَؤُلاءِ الثلاثة يقولون قولاً واحداً وهو أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ويخالفون في ذلك الماتريدية
      ، وقلنا إن أبا منصور الماتريدي: رجل عاش في القرن الرابع في بلاد ما وراء النهر وينتسب إِلَى الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الفقه لكنه تعلق بعلم الكلام، وناظر المعتزلة وناقشهم وأكثر من مخالفتهم، وكان متأثراً بالمنهج الكلامي في الجملة، فخرج عن كثير مما قرره الإمام -أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ، وأصبح الأحناف ينتسبون إليه في العقيدة وينتسبون إِلَى الإمام أبي حنيفة في الفقه.
      والمصنف يريد هنا أن يبين أن الحنفية مخطئون عندما يتبعون أبا منصور، ويتركون كلام الطّّحاويّ، والإمام أبو حنيفة الذي ينتسبون إليه، فيأتي من الفقه الأكبر بما يدل عَلَى مطابقته لكلام الطّّحاويّ؛ لأن بعض الحنفية يشرحون العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً، ويؤولون الألفاظ والكلمات التي جاءت فيها، ولا يستغرب ذلك لأنهم قد أولوا الآيات، وأولوا الأحاديث، فلا يستغرب أن يؤلوا أيضاً كلام الإمام الطّّحاويّ أو كلام الإمام أبي حنيفة لكن من كَانَ له فهم وعقل سليم فإنه يستطيع أن يقارن الكلام ويفهم، فهذا النص الذي قرأناه واضح كل الوضوح، في مخالفته لكلام الماتريدية.
      والشراح المتأخيرن الذين شرحوا عقيدة الطّّحاويّ، وَقَالُوا: إن الإمام أبا حنيفة وأبا جعفر الطّّحاويّ يقولان بالكلام النفسي، وذلك أن في هذا النص كلمة وهي قول الإمام: [فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] قالوا: ومعنى ذلك: أن الإمام أبا حنيفة يقول: إن الله تَعَالَى لما كلم موسى كلَّمه بالكلام الذي هو من صفاته في الأزل وليس هناك من صفاته في الأزل إلا الكلام النفسي، أما الكلام الذي هو حروف وأصوات مسموعة فهذا ليس في الأزل، فحرفوا كلام الإمام مع أن أوله واضح كل الوضوح، أن القُرْآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء.
      وكذلك نص أكثر من مرة أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله، وهم يقولون: كلام الله هو الكلام النفسي فقط، أما الحروف فإنها مخلوقة.
      فكلام الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- واضح في الرد عَلَى هذا القول، لكنهم وجدوا هذه الكلمة فأخذوا يحرفونها ويحرفون بها بقية الكلام، فأتى الإمام هنا ليرد عليهم، ويقول: إن قوله: [ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] يُعلم منه: أنه حين جَاءَ موسى، كلمه الله تَعَالَى لا أنه لم يزل ولا يزال أبداً يتكلم؛ لأن كلمة (في الأزل) مضمونها أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اتصف بهذه الصفة في الأزل، ولو كَانَ عَلَى كلامهم أن الصفة التي في الأزل كلم بها موسى، لكان لا يزال وما يزال أبداً وأزلاً ينادي يا موسى يا موسى يا موسى، وهذا لا يقول به عاقل.

      وإنما لما جَاءَ موسى كلمه، وهنا تكون الخصوصية لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه سمع كلام الله، أما إذا كَانَ كلام الله هو ما في نفسه، والذي سمعه موسى كلاماً مخلوقاً خلقه الله، فإنه لا ميزة لموسى بكونه كليم الله؛لأن الله خلق الكلام في عمرو وفي زيد وفي فلان وفلان وأنا أسمع كلام الله الذي خلقه في فلان وفلان عَلَى قولهم، فعلى هذا ليس هناك أي فرق بين موسى عَلَيْهِ السَّلام وبين أي إنسان آخر، إلا أن يكون موسى سمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكلمه وليس بينه وبين موسى ترجمان ولا واسطة، فإذاً هذا الكلام يرد عَلَى قول الماتريدية، والحنفية المتأخرين عموماً.
      فقولهم -كما يقول المصنف-: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء) فيقولون: من المُحال أن يسمع كلام الله، لأن كلام الله صفة أزلية قائمة بنفسه تعالى، فكيف يمكن لأحد أن يسمع شيئاً في نفس الباري جل شأنه؟
      لا يمكن هذا أبداً، فالإمام أبو حنيفة ينص عَلَى أن الله كلم موسى عَلَيْهِ السَّلام كما هو في القرآن، ويقول الماتريدي: إن الله يخلق صوتاً في الهواء فيسمعه المخاطب فيقول هذا كلام الله، فيقول المُصنِّف رداً عليه: أين الدليل عَلَى أن الله خلق الصوت في الهواء؟ من كَانَ منكم حاضراً من أهل الكلام عندما كلَّم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى موسى حتى تقولوا إن الله خلقه في الهواء! فهذا من التحريف والقول عَلَى الله بغير علم ومن الافتراء عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فيقولون: لم يكن متكلماً ولكن حدث له الكلام بعد ذلك، فيقول الإمام ابن أبي العز: إن هذا الكلام من أبي حنيفة هو رد عَلَى أُولَئِكَ لأنه قَالَ: إنه القُرْآن كله كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ ذكر أنه كلم موسى بكلامه الذي هو له صفة وذكر أن الله تَعَالَى متصف بهذا الكلام في الأزل، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء، فهذا هو الرد عَلَى من يقول: إنه حدث له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.

      فاتضح بذلك أن كلام الإمام أبو حنيفة موافق لما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وكذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ وهو الذي رجحه هنا، وأن بقية الأقوال مرجوحة.
    2. الرد على من زعم أن أبا حنيفة قال : ( لفظي بالقرآن مخلوق )

      أما قول الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في قوله: (القرآن كلام الله) حيث قَالَ: (لفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق) فهذه الكلمة لا بد أن تشرح وأن يعقب عليها؛ لأن الإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: (ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) والإمام أبو حنيفة يقول هنا: (لفظي بالقرآن مخلوق).
      فنقول: أولاً: أننا لا نستطيع أن ننسب إِلَى الإمام أبي حنيفة كل كلمة وردت في كتاب الفقه الأكبر، وإنما الراجح المؤكد أن أبا مطيع البلخي أدخل كلمات كثيرة ضمن كلام الإمام أبي حنيفة ومن الأدلة عَلَى ذلك هذه الكلمة (لفظي بالقرآن مخلوق)؛ لأن الكلام في قضية اللفظ: هل يُقال مخلوق أو غير مخلوق؟ لم يحدث إلا بعد حدوث الفتنة بفترة، أي: بعد سنة مئتين وعشرة هجرية.
      والإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- توفي سنة مائة وخمسين هجرية، فلا يمكن أن يتكلم الإمام أبو حنيفة بشيء لم يكن قد وقع الخلاف فيه بعد،
      وإنما حدث هذا الكلام في بداية أيام المعتزلة الأوائل الذين كانوا قبله أو معاصرين له، فبدؤا يثيرون هذا الكلام بينهم، ولكن لم يصل الأمر إِلَى حد أن يتعمقوا في مسائل خلق القُرْآن وعدمها إِلَى أن يصلوا إِلَى القول بأن اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، إذاً: لا يصح ذلك عن أحد من الأئمة قبل وقوع الفتنة.
      ثانياً: أن هذه العبارة تحتمل معنىً خطأً ومعنىً صواباً والإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- يريد بقوله: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع" أن يقطع ويحسم المادة نهائياً فلا يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا قال بعضهم: حيَّرنا هذا الرجل ماذا نقول؟ إن قلنا: مخلوق لا يرضى، وإن قلنا: غير مخلوق لا يرضى إذاً ما الذي يرضيه؟!
      نقول: إن الذي يرضي الإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويرضي علماء السلف هو ما يرضي الله ورسوله وهو أننا نقف عند كلام الله ورسوله ولا نزيد عليه.
      فنقول: القُرْآن كلام الله غير مخلوق ونثبت لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا الكلام وننفي عنه ما أثبته له المبتدعة وغيرهم، ولا نجاوز ذلك إِلَى أن نتعمق في أمور أخرى هذا هو الأصل الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بذلك؛ لكن لما أن توسع النَّاس في هذا الكلام وتجادلوا واختلفوا فحينئذ لا بد أن نفهم ما الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بهذه الكلمة وما حكم من يقولها.

      ذكر الإمام أَحْمَد-رَحِمَهُ اللَّهُ- أن الجهمية يقول أحدهم: لفظي بالقرآن مخلوق، وهم يريدون أن نقر بأن القُرْآن مخلوق؛ لأن الجهمية والمعتزلة والأشعرية -كلهم يسمون جهمية- لا يثبتون لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صفة الكلام، ويقولون: إن القُرْآن مخلوق، والقرآن هو ما نقرؤه ونحفظه ونكتبه، ومع ذلك يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، ومعنى كلامهم أن القُرْآن مخلوق فيتوصل بهذه التورية إِلَى أن يقول عقيدته ويجاهر بها، فالإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللَّهُ- تنبه لهذا فقَالَ: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
      ولكن الآخرين الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق فهَؤُلاءِ وقعوا في بدعة أخرى، أرادوا أن ينزهوا كلام الله ولكنهم وقعوا في بدعة لم يقلها أحد من سلف الأمة؛ لأنه لم ينزه الله تَعَالَى بهذه اللفظة أحداً؛ لأن كلام البشر مخلوق، ولأن قراءة وكتابة البشر مخلوقة، فإذا قال السُني -الذي يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق- يقصد من ذلك: أن كلام الله تَعَالَى الذي أقرأه غير مخلوق، لكن يأتي الجهمي فَيَقُولُ: انظروا إِلَى هَؤُلاءِ الذين يقولون: إن حروفهم وأصواتهم أزلية وتعرفون أن الأشعرية الجهمية والمعتزلة يقولون: إن الحنابلة والحشوية يقولون: المداد قديم، والورق قديم، ولفظهم قديم وقد علق بعضهم في شرح عَلَى العقائد العضدية فقَالَ: فما بقي إلا أن يقولوا: إن الكاتب أزلي قديم.
      فهم يعيبون أهل السنة ويسمونهم حشوية؛ لأنهم يقولون إن قراءتنا للقرآن لا تنفي عنه أنه كلام الله ولا يخرجه من كونه كلام الله. وكلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي قديم، فيقولون: أنتم تقولون حروفكم أزلية، والمداد المكتوب به أزلي، إذاً: كل شيء أزلي حتى الكاتب فأنتم خرجتم وجئتم بكلام لا يقبله أي عاقل عَلَى الإطلاق.
      ومقصود أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ليس هو هذا، وإنما مقصودهم: أن القُرْآن الذي نقرؤه نحن، سواء كَانَ مقروءاً بألسنتنا أو مكتوبا بأيدينا فهو غير مخلوق، ولا يعنون نفس الكتاب والمداد ونفس الحروف التي نخرجها من أفواهنا، وإنما يقصدون بذلك المضمون الذي هو القُرْآن نفسه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- لا يريد هذا ولا ذاك، وإنما نقف حيث وقف السلف الصالح.

      لكننا نفصل القول ونبين فنقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق ويقصد بذلك أن قراءته وحروفه أو أصواته مخلوقة، فهذا صحيح ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق أي: أن القُرْآن مخلوق -ولا قرآن إلا هذا الذي نقرأه ونتلفظ به- وليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة التكلم وإنما كلامه الذي خلقه فينا أو في الشجرة أو غيرها فهذا جهمي.
      وكذلك الذي يقول: إنه غير مخلوق، نقول: إن كَانَ يريد بقوله: غير مخلوق، الكلام النفسي، فهو غير مخلوق فهذا الكلام صحيح، وإن كَانَ يريد به كلامه وأصواته وقراءته هو له، فهذا مردود؛ لأن القُرْآن يطلق ويراد به القراءة، ويطلق ويراد به ما في المصحف الذي هو كلام الله (المقروء).

      وكلمة قرآن في اللغة العربية: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرأ قرءاناً، وجاء ذلك في شعر العرب كقول أحدهم:
      يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
      أي يقطع الليل تسبيحاً وقراءةً؛ بل جَاءَ ذلك في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حيث يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)) [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر، ليس المقصود هنا القُرْآن الذي هو كلام الله، بل قرآن الفجر: قراءته، وأيضاً منه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {زينوا القُرْآن بأصواتكم} أي: زينوا قراءتكم بالتجويد والترتيل، ويأتي القُرْآن بمعنى كلام الله كما قال الله تعالى:((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ))[الواقعة:77] أي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالذي يقصد القراءة فالقراءة مخلوقة بلا شك، والذي يقصد القُرْآن الذي هو كلام الله فكلام الله غير مخلوق بلا شك.
  3. قول المعتزلة في مسألة الكلام

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
    [وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به،فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما] اهـ.
    الشرح:
    ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أن المعتزلة قالوا: إن القُرْآن مخلوق، ثُمَّ قالوا بعد ذلك: إنه يتعلق بقدرته ومشيئته، أي أنه متى شاء خلق الكلام، ثُمَّ قالوا: إنه يتكلم متى شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، ومعنى هذا: أنه يخلق الكلام متى شاء شيئاً بعد شيء.
    1. توضيح كلامهم وشرحه

      ولتوضيح كلامهم عندنا مقدمتان أولاً: قولهم: إن الكلام مخلوق، وثانياً: قولهم: إنه يكون شيئاً بعد شيء، وأنه متعلق بالقدرة والمشيئة؛ فنأخذ الصواب ونرد الخطأ، فأما قولهم: إنه تَعَالَى يتكلم متى شاء، ويكون كلاماً بعد كلام فهو صحيح، لكنهم اخطاؤا باعتباره مخلوقاً، أي: لما قالوا إنه مخلوق، والماتريدية والأشعرية لما عكسوا فَقَالُوا: إن الكلام هو ما في النفس فقط.
      وبناءً عَلَى ذلك قالوا: إنه ما دام أنه في النفس فهو صفة له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل بقية الصفات التي نثبتها لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأن الصفة لا تقوم إلا بالموصوف لا كما يقول المعتزلة: إن الصفة تقوم بغيره!
      نقول لهم: إثباتكم أنه تَعَالَى موصوف بالكلام والتكلم وأنه صفة أزلية له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا حق لكنكم نفيتم الكلام الذي هو حروف وأصوات وقلتم: إن القُرْآن هذا المحفوظ والمقروء حكاية، أو عبارة عن كلام الله، أو دلالة عَلَى كلام الله النفسي، وليس هو كلام الله عَلَى الحقيقة، فنقول -كما نقول دائماً-: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يظلمون أية طائفة ولا فرقة من الفرق؛ بل يبينون ما عندها من الخطأ وما عندها من الصواب، فهم شهداء لله قائمون بالقسط لا يحيفون ولا يجورون في أحكامهم. فلذلك نقول للمعتزلي قد أصبت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك ونقول للأشعري والماتريدي: أحسنت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك، ولا نقول: إنه يجب الأخذ بما في قول كُلٍ منهما بمعنى أننا لم نعرف الحق إلا عن طريقهما.
      فمقصود المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أنه يجب الاعتراف أو الإقرار بما في قول أي منهما من الحق، وليس المعنى: أنه يجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وأنه يجب علينا أن نتبع ما قالته المعتزلة أو الأشعرية من الصواب؛ لأننا في غنى فالحق والصواب لا يمكن أن يخرج عن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فما كَانَ صواباً لدى أية فرقة من الفرق فإنه موجود عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لكن ما عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.. من الصواب ومن الحق لا يوجد عند أية فرقة من الفرق. فقول المصنف:[يجب الأخذ بما في قول كل منهما] أي الإقرار بصحته.
      ولا نقول: كل كلام المعتزلة باطل، ولا كل كلام الأشعرية باطل، بل نقول: إثبات اتصاف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالكلام صفة ذاتية وصفة أزلية، هذا حق كما قالت الأشعرية، وكما قالت الماتريدية ونقول: إن كونه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن كلامه يأتي بعد كلام، وأن خطابه لموسى عَلَيْهِ السَّلام غير خطابه للملائكة، وغير خطابه لآدم، والقرآن غير التوراة والإنجيل والإنجيل غير التوراة وهكذا هذا أيضاً حق وصواب، فنأخذ الصواب ونرد الخطأ والباطل من أي كان، وهذا منه -رَحِمَهُ اللَّهُ- مشياً مع مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين هذا شأنهم ودينهم في كل أمر من الأمور، لا يجورون ولا يحيفون في أحكامهم رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم.
    2. قيام الحوادث بالله من الألفاظ المجملة

      قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
      [فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به.
      قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تَعَالَى من الأئمة؟ ونصوص القُرْآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً مع صريح العقل] اهـ.

      الشرح:
      إذا قال أهل البدع: يلزم من إثبات أنه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء أن تقوم به الحوادث وقيام الحوادث ممتنع
      فنقول لهم أولاً: إن كلمة قيام الحوادث كلمة مجملة وطريقة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في أمور العقيدة في الدين: أنه إذا جَاءَ أحد بلفظ مجمل نقول له فصِّل ما تقول: فإن أتى بمعنى حسن قبلنا منه ذلك المعنى وقلنا: المعنى هذا صحيح ومقبول، ولكنَّ يجب أن تستخدم اللفظ الشرعي الصحيح فلا تقل: قيام الحوادث بالله تعالى، وقل كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] هذا الذي نقوله: ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن قَالَ: أعني بقيام الحوادث أنه يغضب ويرضى ويضحك وينزل فنقول: هذا المعنى غير صحيح وغير مقبول عندنا،

      والمصنف يقول لهم هنا: من أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى الصحيح الذي لا مشابهة ولا تمثيل فيه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي وصف نفسه بأنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] وهو الذي أخبرنا عن نفسه أنه كلم الملائكة وكلَّم موسى ويكلم من يشاء من عباده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فليس فيه تشبيه.
      فنقول: من الذي أنكر قبلكم هذا المعنى والنصوص وكلام الأئمة تدل عليه؟ هذه بدعة محدثة أول من أحدثها هم أهل الكلام؛ وإلا فغيركم من الأئمة ممن تقدمكم من أهل الفضل والتقى الذين يقتدى بهم كانوا عَلَى ما في القُرْآن والسنة وقرؤا الآيات والأحاديث في ذلك ولم ينكروا منها شيئاً أو يردوا أو يؤولوا أي شيء، فأنتم ابتدعتم في دين الله ما لم يأذن به الله، فنرد هذه الكلمة وهذا المعنى، فلا تقولوا: قيام حوادث ولا هذه أعراض والأعراض لا تلحق به ولا تقولوا: حيز ولا جوهر ولا عرض ولا كمية ولا غيرها من المصطلحات الكلامية، فهذا الكلام هذا كله مما أخذتموه عن الفلاسفة ومما لا تفهم عقولكم غيره، أما نَحْنُ فنؤمن بالله كما أخبر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونعلم أن العقول عاجزة عن إدراك حقيقة صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما أنها لا تدرك ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  4. من الأدلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
    [ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس، وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه؛ بل الذي أفهموهم إياه: أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها في حديث الإفك: {ولشأني في نفسي كَانَ أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى} ولو كَانَ المراد من ذلك كله خلاف مفهومه، لوجب بيانه، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره.
    فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا وكذلك سائر الصفات وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة وقد قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} فهل يقول عاقل: إنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاذ بمخلوق؟
    بل هذا كقوله: {أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك}.
    وكقوله: {أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر}.
    وكقوله: {وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا} كل هذه من صفات الله تعالى.
    وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها وإنما أشير إليها هنا إشارة] إهـ.

    الشرح:
    ومما يبين أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله: أن الأَنْبِيَاء جميعاً كما ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أخبروا أممهم بأن ربهم -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كلمهم، وبينوا ذلك للناس، وأن الوحي الذي أنزل عليهم إنما هو كلامه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولم يقل نبي من الأَنْبِيَاء حتى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كلام الله مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه وإنما كَانَ الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- يفهمون من قولهم: كلام الله أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتكلم كلاماً يليق بجلاله.
    1. مقولة عائشة بعد نزول القرآن فيها بتبرئتها

      ولقد فهمت أم المؤمنين عَائِِِشَةَ-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- كما جَاءَ في حديث الإفك الطويل أنها كانت تتوقع براءتها لأنها تعلم أنها بريئة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وبرأها الله وطهرها، ولعن من رماها بالإفك قديماً أو حديثاً لعناً كبيراً، فعندما برأها الله لم تكن تتوقع أن ينزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها قرآناً يتلى إِلَى قيام الساعة.
      ولم تكن تظن أن مسلماً يُؤمن بالله ورسوله يتهمها بالفاحشة عياذاً بالله، فربما وإن اتهمها المنافقون الذين اتهموها في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنها لا يمكن أن تتخيل أنه يأتي لهَؤُلاءِ المنافقين من يعقبهم ويخلفهم في هذا القول ويقتدي بهم وهو ينتسب إِلَى الإسلام وإلى أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت ترى أن الأمر أقل وأحقر من أن ينزل فيها قرءاناً.

      لكن العجيب أنه بعد أن أنزل الله فيها القُرْآن لا يزال الرافضة قبحهم الله ولعنهم يتهمون أم المؤمنين عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها ويكذِّبون كلام الله وينسبون إليها ما برأها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى منه وهذا من أعجب العجب.
      وليس العجب من شأنهم هم، فإن أعداء الإسلام من يهود ومجوس يفترون عَلَى الله ورسوله وأصحابه مثل ذلك وأعظم، ولكن أشدُّ العجب هو ممن يسمعهم يقولون ذلك في حق أم المؤمنين ويقرأ ذلك في كتبهم ومع ذلك يخطر بباله أن هَؤُلاءِ من أهل القبلة والعياذ بالله.

      فتقول رَضِيَ اللهُ عَنْها: "لشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى"
      والشاهد مما في مقامنا هنا هو: أن الأَنْبِيَاء -صلوات الله وسلامه عليهم- علَّموا أممهم وعلموا أصحابهم أنه -جل شأنه- يتكلم بالوحي وأن هذا الكلام هو الذي يقرأ وهو الذي يتلى، فالآيات التي نزلت في براءتها في سورة النور مثلها في ذلك مثل سائر القرآن، كله كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزله وحياً يُتلى، فنحن نتلوه ونقرأه وهو كلامه جل شأنه.
      فلو أن ما تقوله الأشعرية وغيرهم هو الحق، لَمَا جاز للأنبياء أن يسكتوا عن بيانه؛ بل الواجب عليهم أن يقولوا للناس: إذا قرأتم آية فيها كلام الله، أو أن الله يتكلم، فأولوها بأنه خلقه، أو أن الشجرة هي التي تكلمت به أو غير ذلك!!
      وإن لم يقولوا أو يبينوا للناس هذا، فما بلغوا رسالة الله كما قال تعالى:
      ((وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس))[المائدة:67] فأمر الله تَعَالَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وحفظه وعصمه من النَّاس حتى لا يمنعه الخوف، فَيَقُولُ: لو بلغت لربما آذوني أو قتلوني. فالأذى يحصل لكنه ابتلاء ولم يصل إِلَى حد القتل؛ لكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أمره فقَالَ: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[المائدة:67] فإن لم يقولوا ولم يفعلوا لكانوا كاتمين غير مبلغين للحق، وحاشاهم من ذلك وسيدهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الذي بلغ ما أنزله إليه ربه، فتركنا عَلَى البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

      يقول المصنف: [ولا يعرف في لغة ولا عقل، قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام] سبق أن بينا ذلك وقلنا: المتكلم هو من فعل الكلام، أما إذا قلنا: إن المتكلم هو من قام الكلام بغيره، فأنا أتكلم الآن، ويمكن أن ينسب كلامي هذا إِلَى فلان والآخر إِلَى فلان لأنه قام الكلام بغيره، فهذا لا يقول به عاقل لكن كما قال الإمام أبو حنيفة: يتكلم لا ككلامنا، ويعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا.