المادة    
إن من أنكر الإسراء والمعراج، فإنه ينكر شيئاً ثابتاً في القرآن، وهناك قاعدة معروفة صحيحة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أن من أنكر شيئاً ثبت في القُرْآن فإنه كافر، وكذلك في السنة.
وأما دلالات الآيات التي في القُرْآن فقد تختلف، وأعظم دليل عَلَى الاختلاف اختلاف أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُرْآن وهم أفضل النَّاس عقلاً وفهماً فقوله سبحانه: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب)) [آل عمران:7] هذه آية واضحة وجلية لا نقاش فيها ولا خلاف، ((وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7]
فمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما عليه السلف: هو الإيمان والتصديق بالمحكم، والإيمان بالمتشابه ورده إِلَى المحكم
، ولهذا فإن أهمية السنة أنها تفسر القُرْآن فتبينه وتحدد مدلولاته، فهي كالشرح والإيضاح للقرآن، أما القُرْآن فهو حمال وجوه، قد تحتمل الآية أكثر من معنى وأكثر من وجه.
نقول: ما الذي ذكره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القُرْآن صريحاً؟ وما الذي ذكره ضمناً؟ فالإسراء ذُكِرَ صريحاً ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء:1] إذاً لو أن أحداً أنكر الإسراء فإنه يكفر رأساً، لأنه بمجرد أن يقرأ الآية أو يسمعها يفهم دلالتها، فيكون منكر الإسراء كافراً.
وإنما حصل الخلاف والإشكال فيمن ينكر المعراج، لأن الدلالة ليست جلية، وهذا يستلزم منا أن نجليها وأن نوضحها من خلال سورة النجم، فمنها نستطيع أن نبين هذه الحقيقة، فتصبح أيضاً يدل عليها القُرْآن دلالة لا شك فيها ولا شبهة، فقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))[النجم:13] أين رآه؟ ((عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصرُ وَمَا طَغَى))[النجم:14-17].
فجملة ((مَا زَاغَ الْبَصرُ)) تبين أن العروج ليست بمجرد الروح كما يقولون، بل هي حقيقة واضحة ببصره صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآية الكبرى التي أراه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك الموضع، فنستطيع أن تجلي دلالة القُرْآن فتكون دلالته صريحة، ثُمَّ نؤيد ذلك بالأحاديث الكثيرة المتواترة التي تثبت الإسراء والمعراج، فنقول: إن من أنكر المعراج فهو أيضاً كافر بعد بيان الحجة عليه.
ومن المعتزلة من فرق بين الإسراء والمعراج وهذا من الحماقة والغباوة، وهم أعمى من قريش في موضوع الإسراء والمعراج؛ لأن قريشاً لم تجادل فيه، إنما أرادت أن تجادل في الشيء الواضح الذي تعرفه، ولا تعرف خبر السماء، ولا تدري ما هي سدرة المنتهى ولا أي شيء، لكنها تعرف بيت المقدس، وتعرف أن المسافة إليه قد تصل إِلَى شهر أو شهرين بالإبل، فلما أثبته النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تولوا وأفحموا ولم يستطيعوا أن يستمروا في المناظرة ولا في المحاورة، لكن هَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم فتنوا كما قال الله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس))[الإسراء:60] فُتنوا كما فتن بعض دعاة الإيمان، وكذلك المُشْرِكُونَ الذين فتنوا بها.
فبعض الْمُشْرِكِينَ ازداد بعداً عن الإيمان لما سمع بقصة الإسراء والمعراج، لأن موضوع النهي عن عبادة الأصنام لأنها حجارة لا تضر ولا تنفع كل هذا كلام عقل، لكننا الآن دخلنا في متاهة أخرى وهي موضوع السماوات، فازداد بُعداً عن الإيمان، ومن ضعاف الإيمان من كَانَ قد أعلن إسلامه، فلما جاءت هذه الحادثة تركه وتخلى عنه، وهَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم الذين أخذوا يمارون ويجادلون في مسألة الإسراء والمعراج، فحكمهم -إذا أقمنا الحجة عليهم- أنهم يكفرون بعد ذلك، وهذا هو القول الذي لا يجوز العدول عنه إِلَى قول آخر.
لكن مبدئياً نقول: إن من أنكر المعراج، أو تأوله بأنه بالروح أو غير ذلك بناءً عَلَى أن العقل ينفيه، نستطيع أن نطلق عليه الضلال، لأن كلمة الضلال تشمل الكفر ولا تقتضيه بالضرورة، فالضلال يطلق عَلَى الخروج عن الطريق المستقيم عامة، فيدخل فيه الكفر وقد لا يقتضيه بالضرورة، فقد لا يكون الإِنسَان كافراً وإن كَانَ ضالاً، وكذلك الفسق، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ))[البقرة:34] وفي آية: ((فَفَسَقَ)) [الكهف:50].
إذاً: الفسق قد يطلق عَلَى معنى الكفر، ((فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه))[الكهف:50] أي: كفر به وخرج عنه، والخروج عن أمر الله قد يكون خروجاً كلياً وقد يكون خروجاً عن الاتجاه المستقيم إِلَى البدع والضلالات، ومن أطلق عليهم الضلال، فإنه لا يعني أنه ينفي عنهم الكفر،
لكن أطلق عليهم أو حكم عليهم بالحكم الذي يرى أنه قد يعفيه من تبعة إقامة الحجة، وهم بلا شك عَلَى ضلال، لكن إذا محصت الأدلة، وقامت الحجة، فإن من ينكر الإسراء والمعراج أو أحدهما يكون كافراً.

فـالجهمية وبعض المعتزلة قد ينكرون المعراج، لكن غالبهم أو بعضهم يثبت الإسراء، لأنه جَاءَ في القرآن. ثُمَّ يؤول المعراج بأنه كَانَ في المنام، أو أنه بالروح، أو ما أشبه ذلك، لدلالة أن العقل يمنع أن بشراً يخترق هذه السماوات ثُمَّ يعود في ليلة، هذه شبهتهم وهذا دليلهم، كما أولوا العلو بنفس الاستدلال. وقد بينا أن المسألة إذا كانت مجادلة بالعقل، فالمُشْرِكُونَ أيضاً جادلوا، وأنكروا الإسراء والمعراج وَقَالُوا: هذا غير معقول، كيف نضرب إليها أكباد الإبل في الشهر أو الشهرين، ويبلغها في ليلة. وهذه هي شبهة المعتزلة نفسها، أمر مستحيل لا يمكن أن يقع.
حقيقة النبوة براهين يُصدِّقُ بعضها بعضاً، فالسحرة الذين ناظروا موسى عَلَيْهِ السَّلام وبارزوه تلك المبارزة العظيمة، فجاءوا بشيء في أول الأمر -أن الحبال والعصي تسعى وتتحرك- فسحروا أعين النَّاس بها، وظن النَّاس أنها حق، حتى أن موسى عَلَيْهِ السَّلام خاف، وهو الذي جَاءَ بأمر من الله وواثق من الله، ومتأكد من صحة نبوته وصدق آيته التي أعطاه الله.
كما قال الله تعالى:((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) [طـه:67] فلما ألقى العصا قال الله تعالى: ((فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ))[الشعراء:45] فذهب الزيغ وانكشف الباطل، فالذي لا يريد أن يقر بهذه ليس مقراً بنبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من يريد أن يعرض كل شيء عَلَى عقله وعلى فكره وعلى رأيه! إذاً فنقول له: أنت ما آمنت بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنت بما قاله أفلاطون وأرسطو وجعلته حكماً ومعياراً لما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  1. ملاحظات حول بعض ما كتب في الإسراء والمعراج