المادة    
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] موضوع إثبات العلو من أجلى وأبين موضوعات الصفات، فإثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هو أحد الموضوعات المهمة في باب الصفات، وكل صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يجب علينا أن نؤمن بها، لكن هناك بعض الصفات كثر فيها الحديث، وكثر فيها الاختلاف، مع جلاء دليلها وبيانه وظهوره، ومن ذلك العلو، وتليها صفة الكلام، وقد سبقت إشارات كثيرة في موضوع العلو وسوف يأتي -إن شاء الله- تفصيل البحث في آخر الكتاب، فقضية العلو من أهم القضايا في الصفات، وهي من أجلى أمور العقيدة من حيث الأدلة، لأنه كما نقل الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أن الأدلة عَلَى إثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تعد بالمئات؛ بل بالألوف، وجميعها تثبت علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مخلوقاته، ومنها هذا الحديث العظيم.
والأحاديث الكثيرة التي تثبت الإسراء والمعراج كلها تثبت علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مخلوقاته، فيقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [إن في حديث المعراج دليل عَلَى إثبات صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره] وهذا الاستطراد الذي ذكره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: يدلنا عَلَى أن عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عقيدة متكاملة يصدق بعضها بعضاً، فإذا تحدثنا في موضوع الإسراء والمعراج، نجد ما يؤيد العلو، ونجد ما يؤيد الكلام، ونجد ما يؤيد النبوات، فكلها يدل عليها حديث الإسراء والمعراج، وكلها يُصدّق بعضها بعضاً، أما المتكلمون والفلاسفة والمجادلون فلابد أن يتناقضوا فعندما يثبتون قضية ما يتناقضون إذا تعرضوا لموضوع آخر.
  1. بعض الأدلة البديهية على إثبات علو الله تعالى وبيان تناقض أهل البدع

    من أمثلة تناقض أهل البدع :
    الفخر الرازي ينكر العلو عَلَى مذهب الفلاسفة، كما ذكر ذلك في أساس التقديس، وهو من المصرحين بالقول: بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وأن إثبات الجهة يخالف دين الإسلام، وهو مما يجب أن تؤول الأدلة فيه، ويقول وهو في مجال النسيان والغفلة والذهول عما قرره في أساس التقديس وغيره من إنكار العلو: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رفع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كَانَ منه قاب قوسين أو أدنى، وخسف بقارون حتى تجلجل في أعماق الأرض) وهو يتحدث عن موضوع: كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع من يشاء ويخفض من يشاء!! فنسي أنه هو الذي يقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يثبت له العلو.
    إذاً: هناك بُعدٌ عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهناك قرب منه، فهذا الذي كتب أساس التقديس، وهو الذي دافع الدفاع الطويل العريض لإثبات أن تأويل آيات وأحاديث العلو ضرورة شرعية لابد منها وقع في التناقض، وتأبى الفطرة إلا أن تظهر نفسها، وتقر بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عالٍ عَلَى جميع المخلوقات.

    وكذلك قصة أبي جعفر الهمذاني مع أبي المعالي الجويني عندما كَانَ أبو المعالي الجويني يخطب عَلَى المنبر فسئل عن العلو، فقَالَ: كَانَ الله ولا عرش، وهو الآن عَلَى ما عليه كان، أي: أنه تَعَالَى لا يحتاج إِلَى العرش، ولا يحتاج إِلَى مكان ولا يحتاج إِلَى زمان، فإذاً ليس هو مستوٍ عَلَى العرش، وليس هو عالٍ فوق المخلوقات، وكان أبو جعفر الهمداني رَحِمَهُ اللَّهُ جالساً بين القوم في الحلقة، فَقَالَ له أيها الشيخ: دعنا من الجدال ومن قضية العلو والحاجة إِلَى العرش وعدمها، ولكن ما هذه الضرورة التي يجدها الإِنسَان في نفسه إذا أراد أن يدعو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فإنه لا يتجه إلا إِلَى السماء إِلَى جهة العلو؟ فكيف ندفع هذه الضرورة؟
    والضرورة عند علماء الكلام ينبغي التسليم لها بدون حاجة إِلَى تفكير، لأن من العلم ما يسمى بالعلم الضروري، وهو ما يسبق إِلَى الذهن الإيمان به قبل التفكير فيه، كما تعلم أن الواحد أقل من الاثنين، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه وهي: أنه إذا أراد أن يدعو الله، أو يتوجه إليه، أو يستغيث به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل إذا ذكر الله بقلبه، فإن شعوره وإحساسه بالضرورة يتجه إِلَى جهة العلو قبل أن يعرض الموضوع عَلَى عقله. فضرب أبو المعالي بكُمِه ولطم وتحير، وقَالَ: حيرني الهمداني حيرني الهمداني، ونزل من عَلَى المنبر.

    فهذا الموضوع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والفطرة السليمة ولا يحتاج أمره إِلَى نبوة فهناك أناس كانوا يعيشون في الفترات بين بعثات الأَنْبِيَاء يُقرون بالعلو، منهم أمية بن أبي الصلت فإنه أقر بذلك في شعره، ولم يكن مؤمناً، والعرب تقر بذلك إقراراً في جميع أشعارها وأخبارها، حتى أن عنترة الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له :
    يا عبل أين من المنية مهرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
    وعنترة جاهلي مشرك كافر لكنه أثبت أمرين مهمين مما جادل فيه المجادلون: العلو والقدر.

    أما الاستواء فإنما ثبت بالنقل، أي أنه: لو لم يخبرنا الله أنه استوى عَلَى العرش لما عرفنا أن له عرشاً استوى عليه، والقول بأنه في كل مكان ليس عليه دليل حقيقة، لكن قد يشتبه أمره عَلَى ضعاف العقول، الذين لم يفهموا حقيقة هذا الدين، ولم يفهموا حقيقة الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، فيشتبه عليهم قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) [الحديد:4] وهذه شبهة ضعيفة جداً، لكنها قد تقع، فإذا جليت الشبهة، ذهبت أمام الحقائق الواضحة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس معنا بذاته، وإنما بعلمه فهذا الموضوع الثالث فيه شبهة ضعيفة.
    أما الموضوع الرابع الذي لا دليل عليه ولا شبهة عَلَى الإطلاق، هو قول من يقول: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله فهذا القول ليس عليه دليل من الكتاب والسنة، ولا من العقل ولا شبهة في التفكير، وإنما هو قول اختلقه فلاسفة اليونان ثُمَّ تبعهم من تبعهم، وبقي عليه أكثر المعتزلة والأشاعرة وأهل الكلام.
    العروج: تَجَاوزَ السماوات السبع، حتى كَانَ بتلك المنزلة العظيمة التي لم يبلغها ولن يبلغها بشر بعده، وبعد ذلك: نزوله إِلَى موسى، ثُمَّ رجوعه إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ وقوف جبريل عند حد معين، ثُمَّ مجاوزة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، هذا دليل عَلَى أن القرب من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بلغ منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة لم يبلغها أحد، ولو كانت المسألة كما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه فكيف يتصور هذا عقلاً!!
    وكذلك إذا كَانَ في كل مكان، كيف يكون هذا أقرب من هذا، أو هذا بلغ درجة أعلى من هذا، واستفتاح جبريل لمن في السماوات، وفي كل مرة يفتح له عَلَى من هو أعلى منها، وهما في الطريق إِلَى سدرة المنتهى، الذي يشعر اسمها: المنتهى بأنه ليس وراءها شيء من هذه المخلوقات، ولم يبق وراءها إلا الحجاب الذي قال عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نور أنى أراه} أو {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجل جلاله
    .