المادة    
تقدم ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه وقوله: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))، ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) [النجم:13].
يقول: [صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها] ومر في مبحث الرؤية ذكر اختلاف الصحابة رضوان الله تَعَالَى عنهم، فلا نستطيع أن نجزم بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه، لأن ما قيل عن ابن عباس مثلاً يحتمل، ونقل عن عثمان بن سعيد الدارمي -رَحِمَهُ اللهُ- اتفاق الصحابة عَلَى أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ير ربه بعين رأسه، وفي كلام الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- ما يشير إِلَى ذلك.
وأما الرؤية بفؤاده فإنها قد ثبتت في غير ليلة الإسراء والمعراج، وهي الرؤية المنامية التي ذكرها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث اختصام الملأ الأعلى {رأيت ربي أو أتاني ربي الليلة في أحسن صورة فقَالَ: يا مُحَمَّد فيما يختصم الملأ الأعلى -فأخبره بعد ذلك- فقَالَ: في الكفارات والنذور} فهذه الرؤية رؤية منامية.
  1. توجيه ما نسب إلى ابن عباس أنه قال: "رآه العين"

    وأما ما نُسب إِلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أنه قَالَ: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)) [الإسراء:60] قال في هذه الآية: هي رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به كما في كتاب التفسير من صحيح البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
    فإن هذه تدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن كلمة الرؤيا هنا تطلق رؤيا عَلَى المنام، وعلى الرؤية الحقيقية البصرية، وأكثر إطلاقها عَلَى المنامية، فخشي عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يفهم أحد من قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] أن يفهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج به في المنام فقَالَ: رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به، يعني: عرج به بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أنه عرج في المنام.
    ولا يدل عَلَى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه -عَزَّ وَجَلَّ-أي: أنه لم يخالف في ذلك ابن عباس وسائر الصحابة والأدلة عَلَى ذلك واضحة، كحديث أبي ذر وغيره، والمقصود أننا لا نستطيع أن نقول: إن ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -بناءاً عَلَى هذا الحديث- يرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينيه، وإنما يقول: رؤيا عين أي: كانت في اليقظة عَلَى الحقيقة، هي وكل ما وقع في ليلة الإسراء عامة، وليس خصوص رؤية الله عَزَّ وَجَلَّ.
  2. الأدلة على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعينه

    وأما رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ فإن من أصرح الأدلة عَلَى امتناعها وعدم وقوعها حديث أبي ذر في الصحيح، وهو سؤال صريح في محل النزاع: وهو أن أبا ذر سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: {هل رأيت ربك يارَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه} وهذا تصدقه رواية أخرى وهي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه}.
    ومن ذلك أيضاً الحديث المتفق عليه وهو حديث عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: "ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية" تعني: ثلاثاً عظيمات جداً، والثنتين الأخريين أعظم من هذه؛ لأن هذه قضية خبريه لكن تلكما قضية اعتقادية وهي أهم.
    أما الأولى قالت: "من حدثك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً مما أوحى إليه فقد أعظم عَلَى الله الفرية" فرية عظيمة لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ-يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67] وفي ذلك رد عَلَى الذين يقولون بالعلم الباطن، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختص به بعض الناس، كما يقولون: إن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث مع أبِي بَكْرٍ وكنت كالزنجي بينهما" يعني: مثل الأعجمي لا يفهم شيئاً؛ لأنهم يتكلمون في أمور الأحوال والمقامات كما تقول الصوفية.
    وكما تقول الروافض أنه كتب العلم في الجفر واختص بهذا الجفر علياً وبعض آل البيت، وهذا الجفر مخبوء وتناقلوه إِلَى جعفر ثُمَّ إلى مُحَمَّد بن الحسن العسكري صاحب السرداب ولا يعلم أحد ما فيه، سُبْحانَ اللَّه!
    إذاً: هذا علم مكتوم فهذا من أعظم الفرية عَلَى الله وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقول بأن شيئاً من الشريعة إما باطن وإما العلم اللدني أو الجفر كتمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا بد فيه من أحد أمرين:
    إما أن يقول: إن هذا الشيء كتمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك ما قد قلنا.
    وإما أن يكون ذلك خرافة لا أصل لها، وهذا هو الصحيح، وذلك أنه لما سُئل عنه عَلِيّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "هل خصكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم"، فالمقصود أن هذه هي الأولى.

    وأما الثانية: فهي قولها رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) لقوله تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ))[النمل:65].
    وقولها: فقد أعظم عَلَى الله الفرية أي: افترى عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ-افتراءاً عظيماً، إذاً هل الأولياء أو السحرة أو الكهان يعلمون الغيب؟
    الجواب: لا. لأنه مادام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب فكيف يعلم الغيب هَؤُلاءِ؟ وأما ما يخبر به الكهان من أمور المغيبات فقد سبق الحديث عنه.

    وأما الثالثة: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية) فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً: لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه
    وأما آيات النجم فلو تدبرناها لعلمنا أنها واضحة الدلالة إن شاء الله والآيات هي: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)) [النجم:1-5] فالقضية قضية هذا الوحي، فالكفار يقولون: إنما يعلمه بشر، أساطير الأولين اكتتبها، ويقولون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كاهن، ساحر، شاعر، كل ذلك قد قاله الكفار فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، ومن الذي يعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تبين ذلك الآيات الأخرى ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) [الحاقة:40]
    إذاً: الرَّسُول الكريم هو رَسُول ((شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:5-11] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أتاه جبريل بالوحي خاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصلت له فترة من الوحي، كما جَاءَ في الحديث الصحيح كما في كتاب بدء الوحي في البُخَارِيّ، فخاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يدر ما هذا، فقد يكون شيطاناً وقد يكون ملكاً، وقد يكون ... فلا يعلمه لأول مرة، فمنّ الله تَعَالَى عليه في المجيء الثاني لجبريل بعد فترة الوحي بأن أتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، ويتقاطر منه مثل الدر والياقوت عَلَيْهِ السَّلام فرآه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حقيقته فاطمأنّ.
  3. رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام

    هذا الوصف ثابت لجبريل عَلَيْهِ السَّلام في صحيح البُخَارِيّ إِلَى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قد سد الأفق] كما في كتاب التفسير عند هذه الآية وفي الكتب الأخرى، فاطمأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك أن هذا رَسُول من عند الله حقاً، وأنه نبي لله حقاً، بعد هذه الهيئة التي نزل عليها، وجاء بها جبرائيل عَلَيْهِ السَّلام، وهذه هي المرة الأولى بالنسبة لرؤية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى صورته الحقيقية.
    وهناك لطيفة في قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] ذكرها الطّّحاويّ وسبق أن ذكرنا أنّ الأصل في هذه الآية أن يوضع محلها في الشرح قوله تعالى:((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] لأن قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:11] في الرؤية الدنيوية، وهذه الدقيقة اللطيفة يوضحها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ في شعب أجياد، كما في هذه الرواية الصحيحة، ورأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله تَعَالَى عليها استيقن فؤاده واطمأن، فالقضية هنا أنسب إِلَى نظر الفؤاد، وليس إِلَى نظر العين، نعم رأته العين لكن قوله:((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] فيها تواطئ القلب والعين فحصل بذلك اليقين عَلَى أن هذا وحي من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه هي الوجهة الأولى.
    ثُمَّ قال تعالى: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:13-17] إذاً الإسراء والمعراج يناسبها ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] فهناك ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))[النجم:13] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى خلقته التي خلقه الله عليها مرتين:
    الأولى: هذه التي في أجياد بعد فترة الوحي.
    والثانية: عند سدرة المنتهى، وهذا من فضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليه،
    وفيها حكم يضيق المقام عن شرحها، ولكن نذكر منها: كونه يكون عَلَى خلقته التي خلقها الله تعالى، ومع ذلك يتقاصر دون درجة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أعظم من أنه كَانَ عَلَى خلقة رجل ثُمَّ يكون أقل؛ لكن عَلَى نفس الخلقة التي هي أعظم خلقة له، ومع ذلك فإن رَسُول الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغ إِلَى درجة أعلى منه عَلَيْهِ السَّلام، فهذا تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وبعدها رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند هذه السدرة الآيات العظيمة العجيبة ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) كونه في الملأ الأعلى هذا، ولهذه المناظر المهيبة العجيبة مدعاة أن يزيغ البصر، أو أن يذل، أو أن يطغى، ويتجاوز الحد، فرأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الآيات رؤية حقيقية بصرية
    . وبملاحظة هذا التفسير الموجز السريع للآيات نجد أنها جميعاً في جبريل عَلَيْهِ السَّلام، وليست في الجبار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والروايات الصحيحة كرواية قتادة وأنس أيضاً تدل عَلَى ذلك، إذاً قول شريك هذا لا يعتد به.
    فمن الأخطاء التي في شرح العقيدة الطّّحاويّة هذا الخطأ، وهو أن قوله: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في الإسراء] الواقع أنه واحد فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فإنه قَالَ: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)) [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] الواقع أن هذه العبارة: [وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] هذه العبارة لو حذفناها بالمرة ثُمَّ قرأنا الكلام فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي].
    ثُمَّ يقول: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهو جبريل رآه مرتين، مره في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى] فتكون العبارة صحيحة والكلام سليم ولا غبار عليه، وأُدخلت هذه العبارة نتيجة لرواية شريك، وهي الرواية المنتقدة التي لم يوافقه عليها بقية الرواة [فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى] إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر عن ابن عباس رواية قَالَ: إنها حسنة فيها إثبات ذلك؛ ولكن غاية ما في الأمر إذا صح سندها أن نقول: إنها شاذة، وإذا كَانَ المخالف ضعيفاً، قلنا: إنها منكرة عَلَى الاصطلاح المشهور في علم المصطلح.
    وقد ذكرنا الأوهام العشرة التي ذكرتها رواية شريك ذكرها المُصنِّف هنا نقلاً عن الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ، وكما قلنا: إن الحافظ ذكر أن ابن القيم ذكر أن فيها عشرة أوهام إذاً: لا يعول عَلَى رواية شريك هذه.
    والخلاصة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء والمعراج لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه، ولم يثبت أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وإنما هذه رواية شاذة أو منكرة، ونبقى عَلَى ما في الروايات الصحيحة، أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرب من ربه -عَزَّ وَجَلَّ- ودنى منه إِلَى درجة لم ولن يبلغها أحد، ففرض عليه الصلوات الخمسين التي أصبحت فيما بعد خمس، وما يتعلق بكون الإسراء بالجسد في اليقظة هذا قد سبق أن شرحناه.