قد كان العرب يعيشون في تلك الجاهلية والظلمات لا قيمة لهم بين الأمم، كان الفرس والروم يحيطون بهم من كل جهة، وكان العرب يعيشون السلب ويعيشون النهب، ويأكل بعضهم أموال بعض:
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذ ما لم نجد إلا أخانا
والقافلة الوحيدة، والركب الوحيد الذي لا يستطيع أحد أن يمسه أو أن يقربه، هو قافلة كسرى، فكان كسرى ملك الفرس يرسل قافلة تأتي فتجول بلاد العرب وتمر بأسواق العرب،
عكاظ، و
مجنة، و
ذي المجاز، وغيرها، لا يستطيع أحد أن يتعرض لها، لأنها قافلة كسرى، وما كان الفرس يعدون العرب أمة، حتى أنهم ترفعوا أن يجعلوا عليهم ملكاً يحكمهم من قبلهم، لأنهم شذر مذر هباءً لا قيمة لهم، ولما بلغ كسرى كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعوته، أرسل إلى عامله بـ
اليمن: '' أنه بلغنا أن رجلاً من العرب قد خرج، فأرسل إليه رجلين جلدين يأتياني بخبره''.
سبحان الله! كان في نظر كسرى أن هذا الرجل -داعية الحق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول رب العالمين- لا يستحق جيشاً ولا كتيبةً وإنما في نظر كسرى أن رجلين فقط يستطيعان أن يأتيا به ولكن الحق لا بد أن يظهر ولا بد أن ينتصر.
فدمَّر الله تبارك وتعالى عرش كسرى وملكه، ودخله
سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، بجند محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
في أيام
عمر رضي الله عنه، دخلوا
المدائن ودخلوا البيت الأبيض كما بشَّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل
سعد ومن معه، وعجبوا من هذه الزينة، ومن هذا الترف، وعجبوا من هذه اللآلئ واليواقيت والجواهر، وأخذ
سعد رضي الله عنه يشكر الله ويذكره ويقرأ قوله تعالى -وهو ساجد لله تعالى شكراً-: ((
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُون *
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ))[الدخان:25-28].
فبماذا كان ذلك؟
كان بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يخفى علينا ماذا حصل لـقيصر ولغيره على يد دعاة الهدى أيضاً، فقد كانوا أضل أمة، ثم جاءت عصور وقرون من الانحراف أيضاً، وكانت
نجد -وسط
جزيرة العرب- أشد بقاع العالم الإسلامي ظلاماً وجهلاً وجاهليةً وظلماً وفحشاء وفجوراً، فجاءت الدعوة من جديد وأغاثها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالدعوة من جديد، فجاءت دعوة الإمام الشيخ
محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وإذا بهذه الدعوة تنطلق وتنتشر وتظهر في الأرض بإذن الله تعالى، ويظهر لها قوة عظيمة، وفروع في غرب
أفريقيا، وجنوب شرق
آسيا و
تركستان، و
بلاد الترك، و
مصر و
السودان , و
اليمن، وفي بلاد
المغرب، وفي كل مكان، الكل يدعو إلى دعوة التوحيد، إلى دعوة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الشرك، وإذا بأولئك يصبحون قادة، وإذا بتلك البلاد تصبح خير بلاد الدنيا، تمسكاً وهدىً وتقوى، ولله الحمد والفضل والمنة.
وهذه سنة ربانية ما تزال قائمة، قال تعالى: ((
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))[محمد:38]، وقال في الآية الأخرى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))[المائدة:54]، فإذا أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يختار أمة، أو أن يصطفيها، أو يعليها، أو يرفعها، فمهما كانت فيها من الفرقة والجهالة والفقر والعوز والخوف فإنه يمنُّ عليها بالدعوة، فإذا قامت بالدعوة , ورفعت لواء التوحيد، والعدل والخير؛ نصرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الدنيا والآخرة.