ولننظر إلى هؤلاء الدعاة ماذا يريدون منا وماذا يطلبون: أطلبوا منا مالاً؟
أطلبوا منا دنيا؟
أطلبوا منا جاهاً؟
لا والله، بل من الناس ومن الجهال من ينهش في أعراضهم، ويعتدي عليهم بأنواع من الأذى والسب، وهناك من لا يطيق رؤيتهم، ومن يبغضهم ويكرههم، ومع ذلك لو اهتدى أعدى عدو للدعوة واستقام، وعرف الله وصلَّى وصام وحج البيت الحرام وعف عما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الدعاة يحبونه أشد الحب، وينسون كل ما قد أسلف فيهم من الأذى ومن الشر ومن الزور ومن البهتان، مع أنه لم يسترضهم كما يرضي أهل الدنيا بعضهم بعضاً بالمال، أو بما تحكم به القبيلة أو أي أحد، فهم لا يطمعون إلا في أن يهتدي، وهدايته وطاعته لنفسه، وخير ذلك واستقامته له في ذاته.
فهم لا يريدون منه شيئاً ولكن يريدون الأجر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يريدون أن يعرف طريق الله، ولا يريدون لمسلم أن يعصي الله، كما قال بعض
السلف: ''وددت لو أن جسمي قد قرض بالمقاريض وأن أحداً لم يعص الله عز وجل''.
يحبون الله ويحبون أن يطاع الله، يحبون أن يسير الخلق في طريق الجنة ولا يسلكون طريق النار، يحبون ألا يدخل النار ولا يسلك طريق أهلها من هذه الأمة أحد، وخاصة من كان من أهلهم، أو عشيرتهم أو ذويهم، لا يحبون لهم إلا الخير، ومع ذلك يصبرون على أذاهم ويقولون كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} ويتحملون ذلك الأذى ثم لا يطمعون من الناس في شيء، بل هم يستبشرون بوعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم وبما أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
فهم يستبشرون بما بشر الله به عباده الصالحين، وأثنى به عليهم، كما في قوله: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))[فصلت:33] يقول
الحسن البصري رحمه الله: [[
هذا ولي الله، هذا حبيب الله، هذا صفي الله]].
والناس كلهم يقولون ويتكلمون ويتجمهرون ويتجمعون، ويقيمون الحفلات، ويحضرون جموعاً غفيرة، ولكن شتان بين جمع وجمع، شتان بين من يجتمعون على ذكر الله فينفضون وقد غفر لهم حتى لو كان شقياً كما في الحديث، تقول الملائكة: {
يا رب! إن فيهم فلان ليس منهم ولكن جاء فدخل فيهم، فيقول الله تبارك وتعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، قد غفرت له معهم}.
فشتان بين هؤلاء وبين من يجتمعون على الإثم والخطيئة، ويتفرقون تفرقاً غير معصوم عن الإثم والخطيئة، وعن ذكر نهش الأعراض، وعن ذكر ما يثير الغرائز أو الفواحش أو النعرات أو الشحناء أو البغضاء بين المسلمين أو بين قبائلهم أو بين قراهم أو بين أفرادهم وكل ذلك مما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فكل الناس يتكلمون وميزة الناس هي هذا اللسان الذي علَّمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به البيان وجعلنا ننطق به، لكن: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))[فصلت:33] يدعو إلى من؟
يدعو إلى الله، نحن لا ندعو إلى بشر كائناً من كان، وهل هناك بشر أفضل وأعظم وأعلى قدراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لا والله، ومع ذلك فنحن لا نقول: إننا دعاة إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن نقول: ندعو إلى الله؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان يدعو إلى الله، فنحن لا ندعو إلى إنسان كائناً من كان، فالدعاة جميعاً لا يدعون إلى أنفسهم، ولا يريدون من الناس أن يقتدوا بهم، ولكن يريدون أن يعرف الناس ربهم وأن يقتدوا برسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأي قوم أحق وأولى بأن نفرح بهم من الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
وأي عمل أجدر وأولى بأن نسر ونفرح ونسعد به من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
وهي بهذه المنزلة، وأهلها بهذه المثابة عند الله عز وجل.