المادة    
نحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ جميعاً سلفاً وخلفاً، نؤمن بكل ما ثبت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآيات الباهرات، والأخبار البينات، وما جَاءَ منها في الكتاب أو السنة، وذلك كافٍ لأن نؤمن ونصدق، سواء كَانَ ذلك مما ألفته عقولنا أم هو مما لم تألفه ولم تعهده، هذا هو القول الصحيح الذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
  1. علو منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعُروجه إلى السماء السابعة

    وهذه الآية الكبرى جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى آيةً خارقة خاصة لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن نبي الله موسى -وهو كليم الرحمن وأحد أولي العزم، وهو من قص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا سيرته ودعوته وجهاده وصبره- بكى عندما رأى علو منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    حينما ارتفع إِلَى ما لم ولن يبلغه بشر قط إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن جبريل الرَّسُول الأمين تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومن القرب والدنو من حضرة جلاله جل شأنه، ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ تلك الدرجة فبكى نبي الله موسى، قيل: وما يبكيك قَالَ: أبكي لأن غلاماً بعثه الله من بعدي وقد بلغ ما لم أبلغه، فهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يختص به من يشاء.
    ويجدر بنا أن نتعلم ونتذكر سيرة هذا النبي العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنقرأ مثل هذه الآيات البينات، ونجعل سيرته وسنته قدوة لنا في أعمالنا جميعاً، وأن نعلم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذ شَّرفه بهذه المنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة، فإن من اتبع دينه واقتدى به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إِلَى مثل ما دعا إليه خالصاً لوجه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الله سوف يرفعه ويكتب له من المنزلة والمكانة بقدر ما يجتهد في ذلك، ومن أعرض عن سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضرب صفحاً عنها، ولم يبالِ بأمره ولا بمحبته، فإنه مكتوب عليه الذل والصغار؛ لأنه حقر تلك الآيات البينات، ونكص عَلَى عقبيه، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.
    فهذه الميزة العظيمة لو استعرضنا أحداث السيرة لوجدنا أنها وقعت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عام الحزن بعد أن توفيت زوجته خديجة التي كانت نعم الزوج ونعم البار والمعين عَلَى الدعوة، وبعد أن توفي عمه أبو طالب الذي جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى رغم شركه درعاً للدعوة وناصراً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الله قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كَانَ مشركاً أم مسلماً فاجراً.
    وبعد أن رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف ولاقى ما لا قى من الأذى، سلاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعوضه عن هذه العوالم السفلية، وعما لقيه فيها من عدم التقدير وعدم معرفة منزلته ومكانته؛ بأن بلغ به تلك الدرجات العلى.
  2. عظيم منزلة الصلاة

    ومما يجب أن نعتبر به وأن نجعله نصب أعيننا عظم شأن الصلاة، هذه الفريضة التي لم يشرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض ولو شاء لفعل ذلك، ولكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة في أن تشرع في الملأ الأعلى، ويستدعى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك، ولا يكون ذلك إلا في أعظم المهمات، وأفضل الطاعات.
    فمثلاً: ولله المثل الأعلى، لو أن ملكاً أوسلطاناً أهمه أمر يحب أن يبلغه من يقوم في شأن من الشؤون، فإنه إذا كَانَ الأمر عظيماً فإنه سيستدعيه ليبلغ إياه، وبهذه العبرة العظيمة نعرف قدر الصلاة وشأنها، ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يدور في خلده، ولا يخطر بباله أن أمته سوف تضيع الصلاة، ولهذا سأل جبريل عَلَيْهِ السَّلام، أتترك أمتي الصلاة؟ وهي آخر ما يفقد من الدين كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبث النَّاس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم بما أنزل الله وآخرهن الصلاة}.
    وفي الحديث الآخر: {أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة} هذه آخر ما يفقد من الدين وقد فقدت إلا من رحم الله، وقد ظهر التهاون في شأنها وعدم المبالاة بها.
    ومما يجب أن نستشعره ونستحضره ونحن نقرأ هذه الآيات البينات، ما جرى في الإسراء والمعراج من بيان عظمة الصلاة، وعظمة الدعوة إليها، وشأن الصابرين عليها، وضرورة أن يكون في هذه الأمة من يدعو إِلَى الصلاة ومن ينصح بإقامتها كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ))[الحج:41] فلو أقيمت الصلاة حق إقامتها وصليت حق صلاتها لتغيرت حياة النَّاس اليوم، ولكن ضيعت الصلاة.
    ثُمَّ إن كثيراً من الدعاة لا يبالي بتضييع الصلاة فلا يجعل الصلاة أكبر همه بعد التوحيد، وهذا مخالف لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، فإنه لما بعث معاذاً إلى اليمن، أخبره {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله}، وفي رواية {توحيد الله} وفي رواية {عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ} وكلها صحيحة؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بتوحيد الله وكلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد فالمعنى كله واحد.
    {فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} هذه درجة ثانية ندعو إليها بعد التوحيد.
    {فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم} فدعوتنا إِلَى أن يعبد الله وحده فلا يُدعى ولا يُخاف ولا يُخشى ولا يُرجى إلا هو وحده لا شريك له، ولا ينذر ولا يذبح إلا له سبحانه، وتكون له الطاعة، ولا كلام لأحد بين يدي كلام الله، ولا بين يدي كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل توحيد مطلق، ثُمَّ بعد ذلك ندعو إِلَى الصلاة، فإنها من شعائر التوحيد، ومما يمكِّن التوحيد في القلوب.

    وليس من العبر الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، إذ لو كَانَ مشروعاً لما فات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فعله، ثُمَّ يأتي خوالف في القرن التاسع أو العاشر فيقولون لا بد أن نحتفل.
  3. الكلام على رواية شريك بن عبد الله المدني

    وأما بالنسبة لرواية شريك فإن فيها ألفاظ غريبة وشاذة، وشريك نفسه اختلف في توثيقه وتضعيفه.
    وسبق أن ذكرنا رد الإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/34) عَلَى من قَالَ: إن الإسراء والمعراج، وكلام المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أكثره ملخص منه.
    وبمناسبة الكلام عَلَى رواية شريك هذا، فقد وجدت عبارة الحافظ ابن حجر في الجزء (13/486) في شرح كتاب التوحيد من الفتح يقول: إن ابن القيم في الهدي النبوي ذكر بأن في رواية شريك عشرة أوهام. لكنه يجعل مخالفته في مواضع الأَنْبِيَاء من السماء واحدة من أربع، ويبقى أنه زاد ثلاثة.
    ولم أجد في الزاد ذكراً بالتفصيل لمخالفات شريك بن عبد الله، وإنما وجدت نفس العبارات التي هنا وهي قوله: [وقد غلَّظ الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثُمَّ قَالَ: وقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد رَحِمَهُ اللَّهُ انتهى كلام الشيخ شمس الدين رَحِمَهُ اللَّهُ] نعم، انتهى كلام ابن القيم عند ذلك، ولم يذكر تلك المخالفات العشر، فالله أعلم هل هي في نسخة لم نطلع عليها، أم أن الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قد وهم في ذلك ويكون قد قرأها من كتاب آخر.
    وشريك بن عبد الله هذا ليس هو القاضي؛ لأنهما اثنان وكلاهما إمامان تابعيان:
    أحدهما: شريك بن عبد الله النخعي من النخع قبيلة يمنية معروفة، منها إبراهيم النخعي وكان قاضي الكوفة، وليس هو هذا.
    فإن هذا هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني، وهو الذي روى هذا الحديث عن أنس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
    وقد سبق أن قلنا: إن الروايات الصحيحة أثبتها متناً وأصحها سنداً وأتمها سياقاً روايتان:
    الأولى: رواية قتادة عن أنس؛ فإن الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحه لكتاب التوحيد من فتح الباري يميل إِلَى تقديمها، وقد رواها الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم.
    والثانية: رواية ثابت عن أنس رواها الإمام أَحْمَد ومسلم، إلا أنَّ رواية قتادة الأولى الوافية رواها قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وأنس إنما روى الحديث عن مالك، لأنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صغيراً في المدينة، وهو من الأنصار وربما لم يدرك الواقعة، وربما أنها وقعت قبل ولادته كما يبدو من تاريخ حياته، فهو قطعاً رواها عن أحد الصحابة، لكن مرسل الصحابي مرفوع متصل لا شك في ذلك.
    وهذه هي أتم الروايات وأصحها سنداً وأتمها ألفاظاً، وليس فيها مخالفات، وكذلك رواية ثابت عن أنس وإن كَانَ بينهما اختلاف، فالاختلاف وقع بين الروايات، ويمكن أن يجمع بينها، إلا أن الرواية التي فيها الاختلاط والاضطراب هي رواية شريك بن عبد الله المدني وهي أكثر ما عول عليها الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الزاد وإن كَانَ لم يأخذ ببعض ألفاظها، والمصنف نقل تقريباً كلام ابن القيم بنصه، فلم يأتنا برواية كاملة منفصلة.
    وإنما ذكر من عنده رواية مدرجة، ذكر فيها من هنا وهناك، وإن كَانَ أكثر التعويل فيها في الحقيقة هي عَلَى رواية شريك، ويبدو أن فيها نوعاً من التفصيل، وهي الرواية التي علق عليها الحافظ في الجزء (13) في آخر الصحيح في كتاب التوحيد ونحن الآن نذكر إن شاء الله تَعَالَى ما ذكره المُصنِّف مما هو ملخص أو منقول حرفياً تقريباً من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [وكان من حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسري بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، راكباً عَلَى البراق، صحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
    ثُمَّ عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إِلَى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عَلَيْهِ السَّلام وأقر بنبوته.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما فسلم عليهما فردا عَلَيْهِ السَّلام، ورحبا به وأقرا بنبوته.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به، وأقر بنبوته.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
    ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
    ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى.
    ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
    ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر عَلَى موسى فقَالَ: بم أُمِرتَ؟
    قَالَ: بخمسين صلاة.
    فقَالَ: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إِلَى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت، فعلى به جبريل حتى أتى به إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في صحيحه.
    وفي بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثُمَّ نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقَالَ: ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف.
    فقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي] اهـ.

    الشرح :
    هنا إضافة بعد قوله: [وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق]، وهي في الحقيقة من طريق شريك بن عبد الله المنتقدة التي فيها ألفاظ شاذة مخالفة [فوضع عنه عشراً] هذه تكملة للكلام الأول وهو مجموع من عدة الطرق.
    لكن عَلَى القراءة من النسخة التي بتعليق الشيخ الألباني كأن هذا هو لفظ البُخَارِيّ في صحيحه وكأن ما بعده "في بعض الطرق" خارج البُخَارِيّ مثلاً، وهذا بالعكس، والطريقة السليمة أن يقول: هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق، أما الطرق الأخرى عند البُخَارِيّ وغيره فليس فيها وهو مكانه، وسيأتي إيضاح هذا
    .