المادة    
سبق أن تحدثنا عن الإسراء والمعراج وعن والأقوال في ذلك، وتقدم الكلام عن متى كَانَ الإسراء والمعراج في موضوع الرؤية، عندما تحدثنا عن مسألة هل رأى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه ليلة الإسراء أو لم يره؟ ونحتاج إِلَى أن نعرف ما يقع اليوم في واقعنا الإسلامي، وفي أكثر الدول من احتفال بليلة السابع والعشرين من رجب، والقول بأنها ليلة الإسراء والمعراج، أو عيد الإسراء والمعراج، فهل هذا حق؟ وهل هذا صحيح؟ فعندنا مسألتان: أولاً: ثبوت التاريخ. ثانياً: حكم ذلك.
  1. هل ثبت تحديد تاريخ الإسراء والمعراج وهل لمعرفته فائدة ؟

    أما ثبوت تعيين تاريخ الإسراء والمعراج فلم يثبت عَلَى الإطلاق أي دليل صحيح صريح في تحديد وقت الإسراء والمعراج، وكل ما نعرفه من خلال السيرة هو أن الإسراء والمعراج كَانَ قبل الهجرة، هذا هو القول الراجح، والمشهور والمستفيض أن الإسراء والمعراج كَانَ بعد موت أبي طالب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت خديجة، وبعد أن ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطائف ورده أهلها، وهو العام الذي يسمى عام الحزن، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي فيه الأذى الشديد والألم والتعب، فمنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بهذه الآيات العظيمة، وهذه المشاهد وهذا المقام الرفيع الذي لم يصل إليه بشر، تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت آيات عظيمة قال الله تعالى: ((لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى))[النجم:18] فأراه الله عَزَّ وَجَلَّ آياتٍ عظيمة ففُرج عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمَّ وسُرِّي عنه، وعاد وقد استيقن بربه وبلقائه، وأن ما يوحى إليه هو الحق أكثر من ذي قبل، وعاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شد العزم عَلَى أن يبلغ دعوة ربه، وأن لا يبالي بالنَّاس مهما صدوه، بعدما رأى ما رأى من الأَنْبِيَاء ومن الكرامة التي نالها،حتى قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الجزء السابع من فتح الباري (ص:203) : والأقوال في ذلك أكثر من عشرة أقوال، حتى أن منها: أن ذلك قبل البعثة، ومنها: بعد الهجرة، وقيل: قبلها بخمس، وقيل: قبلها بست، وقيل: قبلها بسنة وشهرين كما قال ابن عبد البر .
    هذه خلافات كثيرة، ولا يوجد أي حكم شرعي يترتب عَلَى المعرفة الدقيقة لتاريخ الإسراء والمعراج.
    إذاً -الْحَمْدُ لِلَّهِ- لا يهمنا من معرفة التاريخ شيء، وما دام أنه لم يثبت منها شيء فنحن لا نثبت أي شيء منها، إلا أننا نقول: أنه كما يترجح ويظهر من عموم الأدلة أنه كَانَ قبل الهجرة، وأنه كَانَ بعد أو في عام الحزن.
  2. حكم الإحتفال بليلة الإسراء والمعراج

    مع أنها لم تثبت ولم يثبت لها تاريخ معين، بل قال بعض المتأخرين كما ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض يقول: قال بعض العلماء المتأخرين: "وأما ما هو منتشر اليوم في بعض الديار المصرية من الاحتفال بليلة سبع وعشرين، ودعوى أنها ليلة الإسراء والمعراج، فذلك بدعة] وهذا متأخر، يعني: أن هذه البدعة مع أنها بدعة؛ لكنها أيضاً بدعة متأخرة وينكرها النَّاس الذين لديهم اطلاع وفهم للسيرة والتاريخ، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه احتفل بيوم إسرائه ومعراجه؟! وهل احتفل بذلك الصحابة أو التابعون؟! لا يثبت في ذلك شيء عَلَى الإطلاق، ونتحدى أن يأتي أحدٌ بشيءٍ في ذلك، ثُمَّ مع هذا يأتي المتأخرون فيحتفلون، بل ويجعلونه سُنة أو عيداً كما يسميه البعض: عيد رجب، ولم يكتفوا بذلك بل حددوا ليلة معينة في ذلك، وجزموا بأنه وقع فيها، وفي تلك الليلة يجتمعون في المساجد، فيأتي القارئ ويفتتح ويقرأ ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)) [الإسراء:1] حتى أن الإذاعات والتلفزيون ذلك اليوم تستفتح بها كذلك! نَحْنُ نقول: سورة الإسراء من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وتقرأ، لكن لماذا تخصص في ذلك اليوم حتى تعطى النَّاس إيحاءً وإشعاراً بأن هذه هي ليلة الإسراء والمعراج، وكل هذا من البدع ما دام أنه لم يثبت {ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
  3. هل الإسراء والمعراج كان بالروح أم بالجسد؟

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في شرح قول الطّّحاويّ: [والمعراج حق]
    المعراج: مِفْعال من العروج، أي: عَلَى وزن مِفْعال، ومِفعال من أسماء الآلة كمِفْعَل ومفعلة كما نقول: "مِسَبر ومِبَرد ومِنَجل، ومِطَرقة " ومعراج من أسماء الآلة، فَيَقُولُ: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد فيها، وهو بمنزلة السُّلم، وقد جَاءَ ذلك في بعض الروايات.
    وروايات حديث الإسراء والمعراج جمعها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في كتاب التفسير عند أول الآية من سورة الإسراء((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً))[الاسراء:1] حيث جمع الروايات في الإسراء والمعراج من المسند ومن الصحيحين ومن المسانيد الأخرى كـأبي يعلى وروايات البيهقي وعبد الله بن أحمد كما في زياداته عَلَى المسند وابن جرير وغير ذلك.
    وابن جرير رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر روايات كثيرة لكنها بسنده هو، والحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- ذكر روايات المسند والصحيحين ثُمَّ ما في السنن والمسانيد الأخرى، ومنها ما ورد في صفة هذا المعراج كأنه أمر محسوس، أي: شيء مشاهد يتبعه الإِنسَان ببصره إذا قبضت روحه؛ لأنه يعرج بها إِلَى السماء، ولكن لا يعلم كيف هو؟ لأنه غيب، وحكمه كحكم غيره من المغيبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته عَلَى القاعدة المتبعة في هذه الأمور.

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وقوله وقد أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرج بشخصه في اليقظة، اختلف النَّاس في الإسراء فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه] هنا قولان مشهوران وأحدهما هو الصحيح، وهو الأشهر والآخر لا يثبت عند التحقيق، بل قد يكون احتمال الخطأ من ابن إسحاق -رَحِمَهُ اللَّهُ- أكثر من كونه اجتهاد خطأ من الصحابة.
  4. الراجح أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وأدلة هذا الترجيح

    القول الأول الذي عليه جماهير الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً: أن الإسراء والمعراج كَانَ بروح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجسده معاً، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً))[الإسراء:1] فهو أسرى بعبده، يعني: بذات عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس فقط بالروح والأدلة عَلَى ذلك متظافرة ولو أنا قرأنا الأحاديث في ذلك وتأملنا معانيها لوجدنا أن هذا القول هو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه إِلَى غيره، ونذكر بعض الأدلة عَلَى ذلك.
    الدليل الأول: أن هذا هو الأصل في الكلام عند الإطلاق، وقوله تعالى:((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء:1]، الأصل إذا قرأنا هذه الآية أو سمعناها أن نفهم أنه أسرى بعبده، أي: بروحه وجسده، فلا يصح أن نقول: بروح عبده هذا خلاف الأصل، وإذا جئنا بشيء في الكلام عَلَى خلاف الأصل، فإننا نحتاج إِلَى دليل، وليس هناك دليل يدل عَلَى ذلك، بل الأصل عند الإطلاق الخالي من كل قيد: أن ذلك عَلَى الحقيقة أي: عَلَى ذات الإِنسَان روحه وجسده معاً.
    الدليل الثاني: وهو دليل واضح في هذا: أن قريشاً أنكرت واستغربت وشهَّرت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتن بذلك بعض من كَانَ قد آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الاستنكار لا يكون عَلَى رؤيا حلم في المنام، فلو أن أحداً قال مثلاً: لقد رأيت أن القيامة قد قامت، فرأيت الجنة والنار، فهل يستنكر هذا أحد؟ كلا؛ لكن لو أنه ادعي أنه رأى الجنة والنَّار يقظة لاستنكر عليه، ولما وافقه أحد، فقريش لما أنكرت عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنكر عليه رؤيا منام، وإنما أنكرت عليه؛ لأنه أخبرها أنه ذهب حقيقةً إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ من هناك عرج به إِلَى السماء.
    ولذلك جَاءَ قائلهم وقَالَ: يا مُحَمَّد إن كنت قد ذهبت إِلَى بيت المقدس فصفه لي فأنا أخبر النَّاس به، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأول مرة يذهب، وفي الليل وبسرعة خاطفة، فلو قال:لم أتفحص ولم أدقق تماماً، لما كَانَ عليه لوم وكلامه صحيح؛ لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يقيم عليهم الحجة وأن يكذب قريشاً، فجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهر أمامه بيت المقدس كأنه دون بيت بني عقيل.
    ثُمَّ أخذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف بيت المقدس كما يراه أمامه، وذلك الرجل ومن معه ممن رأوا بيت المقدس يقولون: نعم صدقت هو كذلك، المقصود أن هذا الكلام -لما قالوا له: نذهب مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر إياباً ويزعم مُحَمَّد أنه ذهب في ليلة- لا يكون إلا إذا كَانَ الذهاب حقيقة، لكن لو قال لهم: أنا ذهبت في المنام إلى بيت المقدس لما أنكرت عليه قريش، لأنهم قد يذهبون هم في المنام إِلَى أبعد من ذلك، ولا غرابة في ذلك.
    وأيضاً لما قالوا: ائتنا بعلامة -وقد ورد ذلك أيضاً في بعض الروايات- فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رأى لهم بعيراً عليه مزادتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، وأن البعير جفل من البراق فوقع فانكسر، وفي بعض الروايات أيضاً في السيرة أنه قَالَ: سيأتونكم في يوم كذا يقدمهم البعير الذي عليه كذا وكذا، فذهبت قريش تترقب، فجاء الوصف كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً هذه أمور وقعت حقيقة، وليست مجرد رؤيا أو أمر منامي أو بالروح

    وأيضا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر المصنف، وإن كَانَ قد ذكر من آية في الاستدلال بها بعض الخطأ، وهي قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:11] فاستدلال المُصنِّف هنا ليس بظاهر، لأن الآية التي نستدل بها عَلَى الإسراء والمعراج هي ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] ولتوضيح أن آية ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) أدل من آية ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))نقول: لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآيات العظيمة فقَالَ: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) فهذا هل يكون بالروح أم برؤية حقيقية؟ لا شك أنها برؤية حقيقية، لأن البصر إنما يكون إذا عرج بالجسد ومنه هذا البصر، فيقول تعالى: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى))[النجم:17، 18].
    إذاً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى سدرة المنتهى ورأى الأَنْبِيَاء والملائكة، لما رأى تلك العوالم العجيبة كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها بعيني رأسه حقيقة
    ، وأيضاً لو تأملنا نفس القصة "حمل عَلَى البراق" فهل تحتاج الروح أو يحتاج الإِنسَان في المنام أن يحمل عَلَى شيء؟
    إن النائم يمكن أن يذهب بدون أي شيء، لكن كونه يُحمل؛ بل أُخرج من بيته -حتى نجمع بين الروايات- ثُمَّ ذُهب به إِلَى الحرم، ثُمَّ شُق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغسل بماء زمزم في طست، ثُمَّ جيء بتور، أي: بإناء كبير محشو بالحكمة فحشي صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه كلها تهيئة لهذا العالم العجيب الذي لا تطيقه النفوس التي لم تصل -ولن تصل أي نفس- إِلَى ذلك، ثُمَّ جيء بالبراق، ثُمَّ ركب عليه، ثُمَّ ذهب، ثُمَّ صلى بالأنبياء، هذا الكلام كله يدل عَلَى أن الأمر حقيقي وليس بالروح فقط ولا في المنام.

    والأدلة عَلَى صحة هذا القول كثيرة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية -إن شاء الله- عَلَى أن الأمر كَانَ عَلَى الحقيقة وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
  5. الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط

    القول المخالف للقول الصحيح، نقله ابن إسحاق في السيرة في أول الجزء الثاني من سيرة ابن هشام، نذكر كلام المُصنِّف أولاً، ثُمَّ نبين اللبس الذي حصل فيه، يقول: [فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقله ابن إسحاق عن عَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].
    وقد نقل كلام ابن إسحاق الإمام أبو جعفر مُحَمَّد بن جرير الطبري في تفسير آية ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)) [الإسراء:1] ونقده ونقضه، ونقله أيضاً الحافظ ابن كثير ونقده، ورجحوا مذهب جمهور السلف.
    ونعود إِلَى التفصيل فنقول: من قرأ كلام ابن إسحاق لا يجد فيه جزماً بأن الإسراء والمعراج كَانَ بالروح أو بالجسد، في اليقظة أو في المنام؛ بل قال والله أعلم أي ذلك كان، والله قادر عَلَى أن يسري بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليقظة أو في المنام، فالحقيقة أن ابن إسحاق نفسه متردد ولم يجزم.
    وثانياً: أنه لما نقل كلام من قال من السلف إنه كَانَ بالروح، نقل كلام معاوية وعَائِِِشَةَ والحسن، فأما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: رُوي عنه أنه قَالَ: كانت رؤيا من الله صادقة، والجواب عَلَى ذلك من وجهين:
    الأول: أن هذا لم يثبت عن معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
    ثانياً: لو فرضنا ثبوته فإنه لا ينفي أن تكون الرؤيا هذه هي إسراء ومعراج بالحقيقة بالروح والجسد، لأن عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القُرْآن قد قال كما روى الإمام البُخَارِيّ عنه في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] قَالَ: "رؤيا عين أُريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يعني: ليست رؤيا منام، وإنما هي رؤيا عي.
    والرؤيا في كلام العرب تطلق عَلَى رؤيا العين وإن كانت أكثر ما تطلق عَلَى رؤيا المنام، أما "الرؤية": فإنها هي التي بالعين فابن عباس فسر ذلك بأنها رؤيا صادقة، وبأنها رؤيا عين، فلا يشترط في قول معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ :"هي رؤيا صادقة" أنها مجرد منام.
    وأما قول عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها فقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول ذلك، يعني: أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول: كَانَ الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وابن إسحاق يقول: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ كانت تقول.
    إذاً: في السند مجهول لا ندري من هو الذي حدثه، أثقة أم غير ثقة، فلا يصح عنها ذلك، وكذلك البيهقي رواه من طريق أخرى بنفس السند، قال حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ، فلا ندري من هو هذا البعض.
    إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها قالت ذلك، انتهينا من كلام معاوية وعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
    وأما الحسن البصري فاستدل ابن إسحاق بكلامه في آية (((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))[الإسراء:60] ولم يأت أنه أنكر أن يكون الإسراء والمعراج حقيقة، وإنما قال الحسن في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ))"بأنها رؤيا فتن النَّاس بها".
    إذاً: هذا الذي ذكره ابن إسحاق تفسير لكلام الحسن أن هذه رؤيا أي في المنام، والحسن لم يقل ذلك، لأنه يمكن أن يُحمل كلام الحسن عَلَى كلام ابن عباس فتكون الرؤيا حق ورؤيا عين، كما قال ابن عباس رضي الله تَعَالَى عن الجميع، فالحقيقة أنه لا يثبت لدينا قول نعتمد عليه عن السلف في أن الإسراء والمعراج لم يكن بروحه وجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاً.
  6. الفرق بين أن يقال الإسراء كان مناماً أو كان بالروح والجسد

    ثُمَّ يذكر المُصنِّف قضيةً مهمةً جداً ينبغي أن تُعلم، وهي: أنه ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كَانَ الإسراء مناماً، وبين أن يُقَالَ: كَانَ بروحه دون جسده، حتى القائلين بأن الإسراء لم يكن بالروح والجسد معاً قالوا: لا بد أن نفرق بين قول من يقول: إنه منام -كما فهم ذلك بعض المتأخرين- وبين قول الصحابة مثلاً: إنه لم يُفقد جسده، يقول: وبينهما فرق عظيم، فـعَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لم يقولا كَانَ مناماً، هذا عَلَى فرض ثبوت القول وإلا فهو لم يثبت، وإنما قالا أُسري بروحه ولم يُفقد جسده، وهذا في الحقيقة إنما هو الرواية المروية المنقولة عن عَائِِِشَةَ وحدها.
    أما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهو: كانت رؤيا من الله صادقة، ولم يقل لم يُفقد جسدُه وفرق ما بين الأمرين.
    فإنه إذا كَانَ الإِنسَان نائماً، فإنه قد يرى ما يراه أي النائم، وقد يكون ذلك أمثالاً خيالية مضروبة للمعلوم المحسوس، فتضرب له الأمثال من غير الواقع في صورة محسوسة واقعية مشاهدة، فيرى مثلاً كأنه قد عُرج به إِلَى السماء، وذُهب به إلى بيت المقدس، ثُمَّ رُجع به إِلَى مكة يرى ذلك، وفي الحقيقة أن روحه لم تصعد ولم تذهب ولم تغادر، وإنما هذا مجرد تصوير أو تخييل حصل له في أثناء النوم، ولم تذهب روحه ولم تفارق الجسد لتذهب وتطوف في تلك الأماكن، وإنما هذا أمر تخيلته النفس والإِنسَان نائم في مكانه.
    يقول: وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال، فما أراد أن الإسراء كَانَ مناماً، وإنما أراد أن ملك الرؤيا ضرب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمثال، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم بجسده وروحه، لكن هذا القول عَلَى فرض أن ملك الرؤيا ضرب له الأمثال
    .