المادة    
هذا باب جديد من أبواب العقائد، وهو باب الغيبيات التي يسميها أهل الكلام السمعيات، والمقصود عندهم بالسمعيات ما ثبت بالخبر أي: بالدليل السمعي -كما يسمونه- أي ما ورد في القرآن أو في السنة، والعقل لا يثبته ولا ينفيه، بخلاف الكلام والرؤية وأمثالها مما سبق بحثه فإنهم يقولون: إن تلك يثبتها العقل ويدركها أي: يدرك إثباتها ويقر بها ويحكم بأن الله سبحانه وتعالى يوصف بها.
وهناك صفات خبرية وأخبار مجردة كأحوال يوم القيامة، من الصراط والحوض والميزان، وكما هنا في الإسراء والمعراج، وأمثال ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون به ويقرون به على الشرط الذي سنذكره وسموه بالسمعيات، فأبواب العقيدة عندهم على نوعين:
الأول: العقليات عموماً، وهي مباحث الإلهيات والصفات وما أشبه ذلك، وهذه تدخل جميعاً ضمن العقليات أي: التي يبحثها العقل ويثبتها ويدركها، وأما مباحث السمعيات فهي التي جاء بها النص وجاء بها الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والعقل عندهم لا ينفيها.

فنحن سنتحدث إن شاء الله عنها ونبين أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات هذه الغيبيات.
ومذهب المتكلمين في ذلك ثم نتحدث عن الإسراء والمعراج إن شاء الله.
قال الطحاوي رحمه الله:
[ والمعراج حق وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يُعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته .
وقوله: [ وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ] اختلف الناس في الإسراء فقيل كان الإسراء بروحه، ولم يُفْقَد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه؛ لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يُفْقَد جَسدُه، وفرق ما بين الأمرين، إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد، ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.
وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بـمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين ذكره ابن عبد البر، قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، وكيف ساغ لهم أن يظنوا أن في كل مرة تٌفرض عليهم الصلواتُ خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: { أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي } ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟!
وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: " فقدم وآخر وزاد ونقص " ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله، انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله] إهـ.

الشرح:
نبدأ كما ذكرنا بالفقرة الأولى وهي ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان بالغيبيات، أو ما يسميه أهل الكلام بالسمعيات؟
فالجواب هو: أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما ثبت آمنوا به وسلموا، والشرط الوحيد عندهم هو أن يصح ذلك فقط، وأن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت شيء من الأمور الغيبية في الكتاب أو السنة آمن به أهل السنة والجماعة، كما كان يؤمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من القرون المفضلة، قبل ظهور أهل البدع والضلال، إذاً لا يوجد عندهم أي شرط في أي شيء إلا أن يثبت ذلك ويصح بالشروط المعروفة، أي: أن يصح السند إذا كان حديثاً ولا يكون فيه شذوذ ولا نكارة، وغيرها من شروط الحديث الصحيح التي يذكرها الأئمة المعروفون في ذلك، فإذا أثبتوا أمراً من الأمور فإن كان ذلك الخبر عن أحوال يوم القيامة، أو الجنة أو النار، أو من صفات الله عز وجل، فكل ما جاء وصح نؤمن به.
ولا نعرضه على عقل ولا على رأي، ولا نقول هذا يخالف العقول، أو يخالف البراهين أو القواطع العقلية، ولا نقول: لا نؤمن به حتى تثبت سلامته من المعارضة العقلية أو نحو ذلك، ولا نقول أيضاً كما يقول الطرف الآخر، فالطرف الأول هم الذين يعارضون بالعقل وهم المتكلمون، والطرف الآخر هم الصوفية وأمثالهم الذين يقولون: ثبت بطريق الكشف، أو ثبت بطريق الذوق أن هذا لا ينبغي، أو أن هذا لا يجوز، وأن ذلك لا يصح أو ما أشبه ذلك، كما تقول الصوفية مثلاً في الحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما في الجنة، ويردون الأحاديث الصحيحة في ذلك، ويقولون: هذا لا يليق وقد ثبت عن أرباب المعرفة وأرباب الكشف والذوق أنهم في الجنة، هذا كلام لا يقبل عند أهل السنة والجماعة لأن العبرة عندهم هي: أن يصح الدليل هذا هو الشرط في أي حكم وفي أي أمر من الأمور، ولهذا أهل السنة والجماعة لا يفصِّلون في الأبواب، ولا يفّرقون فيجعلون أبواباً عقلية، وأبواباً سمعية، فكل ذلك عندهم شيء واحد، كله إذا ثبت به الدليل وصح به النقل آمنوا به وسلمت له عقولهم، وأيقنوا به في قلوبهم دون أي معارضة ولا أي تردد.
هذا بإيجاز مذهب أهل السنة والجماعة
وأما غيرهم فإنهم في مثل هذا الباب -في باب السمعيات- إما أن يردوا ذلك مطلقاً، ويقولون: إن العقل يعارضها، كما نقل عن المعتزلة ومن اتبعهم من الروافض: أنهم ينكرون عذاب القبر أو ينكرون الميزان أو ينكرون الصراط، وسيأتي تفصيل الكلام في الصراط والميزان إن شاء الله.
ومنهم أيضاً من أنكر الإسراء والمعراج الذي هو موضوعنا وأخذوا يقولون: لا يعقل ذلك، وقال بعض المعتزلة نؤمن بالإسراء ولا نؤمن بالمعراج، أي يقولون: الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم العودة هذا ممكن أن يقع عقلاً؛ لكن الصعود والعروج إلى السموات السبع، هذا يحيله العقل فلا يؤمنون به.
  1. إنكار الفلاسفة والزنادقة وبعض الفرق الضالة للمغيبات

    فالزنادقة والفلاسفة عموماً ينكرون الغيبيات إنكاراً باتاً، وتبعهم بعض المعتزلة والروافض وبعض المرجئة وبعض الأشعرية والخوارج والكرامية ومن ضل من هذه الفرق، ينكرون بعض الغيبيات تبعاً للفلاسفة والمعتزلة، ويقولون: العقل لا يثبت ذلك فكيف نثبت عذاب القبر ونحن نرى أناساً يغرقون في البحر، وأناساً تأكلهم الدواب، وأناساً كذا وكذا؟ فينكرون ما صح في ذلك من الأحاديث.
    ويقولون: لا نثبت الميزان. كيف توزن الحسنات، وكيف توزن الصلاة وقراءة القرآن، وهي ليست أشياء مادية محسوسة؟
    إذاً الميزان لا حقيقة له، وهكذا المعراج فإنهم يقولون: كيف يستطيع بشر أن يرقى إِلَى السموات العلى، وأن يدخلها سماءً بعد سماءٍ؟ فبأمثال هذه التراهات ينكرون السمعيات.
  2. مذهب الأشاعرة في الغيبيات

    والذين يثبتون الغيبيات ولكن عَلَى غير منهج السلف الصالح هم أغلب الأشعرية، أو من يسمون أنفسهم مُتكلمي أهل السنة ؛ لأنهم يقولون: نَحْنُ أهل الكلام من أهل السنة، فيجعلون المعتزلة أهل كلام بدعي، وأنفسهم أهل كلام سني، وقد سبق أن رددنا عَلَى هذه الشبهة.
    وقد ذم الأئمة أهل الكلام وعابوهم كالإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافِعِيّ وغيرهم، فهَؤُلاءِ أئمة أهل السنة، وغيرهم كثير قد أطلقوا الذم عَلَى علم الكلام، ولا يوجد علم كلام سني وعلم كلام بدعي
    والباقلاني -وهو الذي أشهر وأظهر مذهب الأشعرية في بلاد المشرق- يقول: نؤمن بالحوض والصراط والميزان كما صح بذلك الحديث؛ لأن ذلك غير مستحيل في العقل، هذا كلامه في رسالة له اسمها رسالة الإنصاف.
    فيعلل ذلك القبول والإيمان بأن ذلك غير مستحيل في العقل، إذاً هذا قيد، ثُمَّ جَاءَ من بعده أبو المعالي الجويني وله كتاب الإرشاد فأخذ يذكر هذه الأبواب باباً بابا، ويقول في آخر كل باب نؤمن به لأن النص قد ثبت به، ولأنه غير مستحيل في العقل، وبهذا نعرف مذهب أهل الكلام في الغيبيات التي يسمونها بالسمعيات وهو الإيمان بها بشرطين :
    الأول: أن يصح بها النقل.
    والثاني: عدم الاستحالة عقلاً، أي: يعللون الإيمان بها؛ لأنها غير مستحيلة في العقل، أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذا قيل لهم: لماذا آمنتم بها؟ فإنهم يقولون: لأنه قد صح بها النقل وثبت بها الحديث، إذاً هناك فرق بين المذهبين، فالمسألة ليست مجرد أن يثبت الإِنسَان شيئاً وإن كَانَ إثباته حقاً، لكن يجب عليك أن تثبته عَلَى منهج أهل الإثبات، وهو أن تثبته لأن ذلك هو الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما أن تثبته وتقربه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به والعقل لا ينفيه فقد زدت قيداً من عندك.
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في الرد عَلَى هذا المذهب في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو أيضاً في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول (ص:177)، وهذا ملخص بسيط لما ذكره، وإلا فكل الكتاب رد عليهم، لكنه ذكر ملخصاً بسيطاً في هذا، وقاعدة عظيمة يقول فيها: أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.
    وقبل فترة نشر في إحدى الجرائد أن رجلاً قَالَ: إن في صحيح البُخَارِيّ أحاديث موضوعة، ودليله أنها موضوعة: أن العقل لا يقبلها، وذكر أمثلة، منها: حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البُخَارِيّ ولا كلام في سنده؟!
    ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل؟ كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في شرح الأصفهانية، ما الحاجة إِلَى أن يبعث الأَنْبِيَاء ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
    إذاً: كانت الرحمة بالنَّاس أن لا تبعث الرسل؛ لأن النَّاس عندهم العقول يقيسون بها، وعندهم البراهين العقلية التي يتناقلونها عن اليونان ويتبعونها، ولا يتبعون أنفسهم في رد ما ثبت عن الأَنْبِيَاء وفي تأويله وفي إقرار بعضه ونفي بعضه.

    وممن أنكر الإسراء والمعراج مُحَمَّد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، وهذا الرجل يفسر سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيراً عصرياً كما يقولون! وليس هو وحده، لكن هو أشهر من كتب في ذلك، والسبب أن كثيراً من الكتاب اتبعوا بعض المستشرقين.
  3. من خطط المستشرقين تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من وصف النبوة

    رأى المستشرقون أن الصواب في الحط من قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو بإنكار نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغمط ما أظهره الله تَعَالَى عَلَى يده من الحق، وجحد ذلك، والطعن في شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباباً وشتماً كما كانت تفعل الكنيسة ورجال الدين الغربيون في القرون الوسطى منذ الحروب الصليبية وقبلها وبعدها، فلقد كَانَ همُّ كل منهم أن يخطب فيشتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسبه سباً فاحشاً وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يقولون.
    ومن قولهم: إنه كذاب ودجال وليس بنبي فعل وفعل وهكذا، حتى أوجدوا في العقلية الغربية الأوروبية مناعة غريبة جداً، فلا تريد أن تسمع عن هذا النبي أي شيء، كما هو حالهم إِلَى اليوم، ولا يريدون أن يقروا بأي فضل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    هذا المنهج وجده بعض النَّاس -من المفكرين الغربيين- أنه أولاً: غير علمي، لأنه مجرد شتم.
    وثانياً: أن مردوده عند الْمُسْلِمِينَ عكسي، فالمسلم إذا قرأ ما كتب سوماس لامنس وأمثاله من المجرمين من شتم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه ينفر من الغربيين، ومن النَّصَارَى نفوراً شديداً، ويشتمهم وتتوثب نفسه ولو لقتلهم أو قتالهم؛ لأن هذا لا يقر به أي مسلم مهما كَانَ ضعيفاً أو جاهلاً أو ساذجاً، فرأوا أن هناك طريقة أفضل من هذه وأجدى، لأن المستشرقين يخططون ويغيرون الخطط: وهي أن يمدحوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن يجردونه من صفة النبوة، فيقولون: هذا رجل عظيم فتح جزيرة العرب، ووحد العالم، وأسس ديناً لم تعرف البشرية مثله، وأوجد شريعة لا يوجد في الأرض مثلها، جَاءَ بكذا...، ويصفونه بكل شيء إلا أنه لا يكون نبياً.
    فيجعلونه مجرد رجل عظيم كسائر العظماء، وعلى هذا كتب المؤرخ والكاتب الإنجليزي المشهور توماس كارل كتاب الأبطال، وجعل من جملة الأبطال محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو كتاب قديم في آخر القرن التاسع عشر فهلل واستبشر له أكثر المغفلين من الْمُسْلِمِينَ؛ لأنهم في ذلك اليوم كانوا في فترة ضعف وذل وهوان، وما صدقوا أن رجلاً غربياً يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلاً من الأبطال مثله مثل نابليون والقائد الإنجليزي الذي هزم نابليون، وعدة أبطال من إنجليز وفرنسيين وألمان، ومن جملة الأبطال الشرقيين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  4. تأثر العصرانيين والعقلانيين بمنهج المستشرقين

    وعلى هذا المنهج سار بعض الناس، وهم الذين ينتهجون المنهج العقلي أو المنهج العصري من الْمُسْلِمِينَ، وهم من تلاميذ أو من أتباع مدرسة الشيخ مُحَمَّد عبده العقلية، ومنهم مُحَمَّد حسين هيكل هذا، ومنهم أيضاً عبد الرحمن عزام وغيرهم.
    فكتب أحدهم بطل الأبطال، والآخر كتب الرسالة الخالدة، وآخر كتب حياة محمد، وآخر كتب محمد هكذا فقط، وطه حسين كتب على هامش السيرة، كل هذا الكلام يكتبونه عَلَى أساس أن هذا رجل مفكر، داهية، سياسي، عسكري، عبقري، إِلَى آخر ذلك، إلا أنه لا يعمل بأمر من الله أو بوحي من الله، فهذا وإن كانوا لا يصرحون بإنكاره لكنهم لا يكادون يأتون عليه ولا يذكرونه.
    وكذلك أيضاً كتب العقاد العبقريات، فهي من هذا القَبِيْل، عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية علي وعبقرية عمر إِلَى آخره، فكل هَؤُلاءِ المذكورون ومن شاكلهم متأثرون بمنهج المستشرقين من قريب أو من بعيد.

    يقول: مُحَمَّد حسين هيكل: إن الإسراء والمعراج، هو استجماعة نفسية وروحية، حصلت ولا تحصل إلا لمن بلغ درجة عالية من الروحانية، فكأنه استجمع في نفسه الوجود منذ أول الوجود إِلَى آخره، وإذا جئت تنظر في معاني ألفاظ هذه الكلمات لا تجد تحتها أي معنى، ولا تجد لها أي قيمة، إلا أن المقصود هو أن يجرد الإسراء والمعراج عن كونه آية جعلها الله لهذا النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد رد عليه الشيخ مُحَمَّد الغزالي، وأنكر عليه ذلك، لكن الشيخ نفسه فيه نوع من التأثر بالمنهج العصري، فلهذا جَاءَ في كلامه أيضاً ما يلمح بأن من الممكن أن يفسر الإسراء والمعراج تفسيراً مادياً أو شبه مادي، لأنه يقول: إن كلمة البراق مشتقة من البرق.
    يقول: فكأن الحديث يشير إِلَى أن سرعة البراق مشتقة من البرق؛ لأنه كما جَاءَ في الحديث -يضع حافره عند منتهى طرفه من سرعته- وكأنه يسير بسرعة الضوء وفي ذلك دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتطى القوة الكهربائية في عروجه إِلَى السماء، وهذا نفس الشيء: مع أنه رد عَلَى أولئك، لكنه قريب مما قالوا.

    فلا ينبغي لنا أن نخوض في هذه الأمور بمجرد الآراء، إنما يجب علينا أن نسلم ونؤمن بما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ والبراق هي دابة كما جاءت صفتها في الحديث وكما سنذكره -إن شاء الله تعالى-، فنؤمن بها كما جاءت، وعليها ركب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صعد إِلَى السماء بكيفية لا تدركها عقولنا، وليس من شأننا أن نفكر لماذا لا تدركها عقولنا؟ أو هل تدركها أو لا؟ نَحْنُ عبيد مأمورون بأن نصدق، وأن نسلم بما جاء.
  5. من لم يصدق بالإسراء والمعراج فليس مؤمناً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم

    إذا استنكرت عقولنا أن يقع الإسراء والمعراج، فما الفرق بيننا وبين كفار قريش الذين سخروا وضحكوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونادى بعضهم بعضاً حتى أن أبي جهل استوثق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: أتحدث القوم بما أخبرتني به؟
    قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم، فلم يشأ أن ينفره حتى أخذ منه وعداً بأن يحدث القوم حتى يجمع قريشاً، فإذا حدثهم يكون التكذيب والسخرية والضحك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعياً، فانطلق في قريش يقول: يا معشر قريش قد جاءكم مُحَمَّد بالداهية الدهياء، فجاءوا واجتمعوا وَقَالُوا: ماذا لديك يا محمد؟
    فقَالَ: إنه قد أسري بي إِلَى بيت المقدس، وعرج بي إِلَى السماء.
    فسخروا وضحكوا وأنكروا وَقَالُوا: إن الراكب منا ليضرب في الأرض مسيرة شهر ليذهب إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ مسيرة شهر ليعود، وتزعم يا مُحَمَّد أنك تذهب إليه في ليلة.
    وجاءوا إِلَى الصديق أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلم يستطيعوا أن يزعزعوا إيمانه، أما بعض من آمن فإنهم فتنوا -عافانا الله وإياكم- وقد ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك في القُرْآن فقَالَ: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)) [الإسراء:60] ففتن بعض من آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدق برسالته، لما رأى أن هذا خبراً غريباً، وقصة عجيبة ومذهلة، ويحار العقل فيها، وكفار قريش، يضحكون ويسخرون، فكان ضعيف الإيمان من هَؤُلاءِ لا يستطع أن يثبت -عافانا الله وإياكم- من الزلل فكفروا وارتدوا، ومنهم من قتل مع أبي جهل بـبدر نسأل الله الثبات والسلامة والعافية.
    فإذاً لو قال أحد كهَؤُلاءِ- إما هيكل وإما أمثاله من المستشرقين وليس بعد الكفر ذنب-: كيف نؤمن بالإسراء والمعراج؟ كيف نصدق؟! فهذا بلا شك مشابه لموقف كفار قريش، فالذي يناقش في ذلك أو يماري أو لا يؤمن، فهو في الحقيقة لم يؤمن إِلَى الآن بالإسلام ولم يؤمن برسالة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو آمن أنه نبي مرسل من عند الله، وأن هذا القُرْآن من عند الله حقاً، لما كَانَ لديه أي شك ولا أي ريب، عافانا الله وإياكم من الزيغ والشك والريب والضلال.

    وبهذا نكون قد عرفنا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الغيبيات، ومذاهب الذين خالفوهم في ذلك، وقلنا: إنهم عَلَى فرقتين: من أنكره بالكلية، أو من أنكر بعضاً وأثبت بعضاً، أو من أثبته بشروط.