والذين يثبتون الغيبيات ولكن عَلَى غير منهج السلف الصالح هم أغلب
الأشعرية، أو من يسمون أنفسهم مُتكلمي
أهل السنة ؛
لأنهم يقولون: نَحْنُ أهل الكلام من أهل السنة، فيجعلون المعتزلة أهل كلام بدعي، وأنفسهم أهل كلام سني، وقد سبق أن رددنا عَلَى هذه الشبهة.
وقد ذم الأئمة أهل الكلام وعابوهم كالإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافِعِيّ وغيرهم، فهَؤُلاءِ أئمة أهل السنة، وغيرهم كثير قد أطلقوا الذم عَلَى علم الكلام، ولا يوجد علم كلام سني وعلم كلام بدعي و
الباقلاني -وهو الذي أشهر وأظهر مذهب
الأشعرية في بلاد المشرق- يقول: نؤمن بالحوض والصراط والميزان كما صح بذلك الحديث؛ لأن ذلك غير مستحيل في العقل، هذا كلامه في رسالة له اسمها رسالة
الإنصاف.
فيعلل ذلك القبول والإيمان بأن ذلك غير مستحيل في العقل، إذاً هذا قيد، ثُمَّ جَاءَ من بعده
أبو المعالي الجويني وله كتاب
الإرشاد فأخذ يذكر هذه الأبواب باباً بابا، ويقول في آخر كل باب نؤمن به لأن النص قد ثبت به، ولأنه غير مستحيل في العقل، وبهذا نعرف مذهب
أهل الكلام في الغيبيات التي يسمونها بالسمعيات وهو الإيمان بها بشرطين :
الأول: أن يصح بها النقل.
والثاني: عدم الاستحالة عقلاً، أي: يعللون الإيمان بها؛ لأنها غير مستحيلة في العقل، أما
أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذا قيل لهم: لماذا آمنتم بها؟ فإنهم يقولون: لأنه قد صح بها النقل وثبت بها الحديث، إذاً هناك فرق بين المذهبين، فالمسألة ليست مجرد أن يثبت الإِنسَان شيئاً وإن كَانَ إثباته حقاً، لكن يجب عليك أن تثبته عَلَى منهج أهل الإثبات، وهو أن تثبته لأن ذلك هو الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما أن تثبته وتقربه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به والعقل لا ينفيه فقد زدت قيداً من عندك.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في الرد عَلَى هذا المذهب في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو أيضاً في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول (ص:177)، وهذا ملخص بسيط لما ذكره، وإلا فكل الكتاب رد عليهم، لكنه ذكر ملخصاً بسيطاً في هذا، وقاعدة عظيمة يقول فيها: أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.
وقبل فترة نشر في إحدى الجرائد أن رجلاً قَالَ: إن في صحيح البُخَارِيّ أحاديث موضوعة، ودليله أنها موضوعة: أن العقل لا يقبلها، وذكر أمثلة، منها: حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البُخَارِيّ ولا كلام في سنده؟!
ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل؟ كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في شرح الأصفهانية، ما الحاجة إِلَى أن يبعث الأَنْبِيَاء ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
إذاً: كانت الرحمة بالنَّاس أن لا تبعث الرسل؛ لأن النَّاس عندهم العقول يقيسون بها، وعندهم البراهين العقلية التي يتناقلونها عن اليونان ويتبعونها، ولا يتبعون أنفسهم في رد ما ثبت عن الأَنْبِيَاء وفي تأويله وفي إقرار بعضه ونفي بعضه.
وممن أنكر الإسراء والمعراج مُحَمَّد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، وهذا الرجل يفسر سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيراً عصرياً كما يقولون! وليس هو وحده، لكن هو أشهر من كتب في ذلك، والسبب أن كثيراً من الكتاب اتبعوا بعض المستشرقين.