المادة    
  1. هل الإمام أبو جعفر على مذهب الماتريدية؟

    قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
    وقول الشيخ رحمه الله تعالى: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]
    [هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لما يأتي في كلامه: أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه، فإذا جمع بين كلاميه، وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" عُلم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء، كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء، العالي عَلَى كل شيء.
    لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال- كَانَ تركه أولى، وإلا تُسِلَطَ عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية، ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
    الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي!! وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي، فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره، كالسموات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات، كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل، كما تقدم، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه: " السؤر " وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، إذ " السائر " عَلَى الغالب أدل منه عَلَى الجميع، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي -كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء- تَعَالَى الله عن ذلك.
    ولا يُظن بالشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين، كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تَعَالَى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إِلَى شيء منها، العرش أو غيره] اهـ.

    الشرح :
    من منهج أهل البدع أنهم يأتون إِلَى المتشابه من الكلام ويؤولونه، فأولوا كلام الله، وأولوا كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما بالكم بكلام البشرفبعض الماتريدية الحنفية المتأخرين في شروحاتهم عَلَى هذه العقيدة أو في كتبهم الأخرى يقولون: إن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى العقيدة الماتريدية أي: عَلَى القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ويستدلون عَلَى ذلك بأنه قَالَ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، يقولون: والمعنى واحد.
    وعليه: فالإمام أبو جعفر عَلَى مذهبنا، وهذا الكلام الذي نقوله هو مذهب الإمام أبى جعفر الطّّحاويّ، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ كما سيذكر المصنف، والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو اللبس والإجمال في العبارة ولهذا ينتقد المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هذه العبارة لأنها تؤدي إِلَى هذا اللبس فأخذ في إبطال ذلك فقَالَ: [إن قول الشيخ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لما يأتي في كلامه أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه].
    وهذا الكلام مشابه لقوله في موضع آخر: [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه].
    فتركوا هذا الكلام الصريح المحكم وأخذوا بقوله المتشابه: "لا تحويه الجهات الست" وبناءً عليه قالوا: لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا فوقه وتحته!
  2. توجيه كلام الإمام الطحاوي

    يقول المصنف: [فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" علم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء العالي عَلَى كل شيء، ولا يظن -نحن ولا كل منصف- بالشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه ممن يقول: إن الله تَعَالَى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين] لأن هذا الإطلاق نَفْيٌ للنقيضين، ويقول علماء المنطق، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً، فلا يمكن أن نقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يكون داخل العالم وخارجه في نفس الوقت فالنقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً.
    ثُمَّ يقول المُصنِّف مستدركاً: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال -كان تركه أولى. وإلا تسلط عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
    الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" - يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي] لأنه يقول: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وما زال الإشكال قائماً في العبارات وبهذا نعلم أنه ينبغي للإنسان أن يزن كلماته وعباراته فلا يأتي بعبارات خاطئة أو محتملة، فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أراد أن يؤكد أن الله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات (أي: المخلوقات).

    ثُمَّ بيَّن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أنه إذا كَانَ قصد الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ بالجهات الست أشياء وجودية وأمكنة حقيقية، وإن المخلوقات تحويها أشياء مخلوقه وكل مخلوق يحويه مخلوق إِلَى ما لا نهاية، وهذا لا يصح أن يكون فلذلك يقول: [وفي هذا نظر! فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم]، وإذا كَانَ قصده المعنى العدمي لأن الجهة -كما قلنا- لها معنيان: معنى وجودي، ومعنى اعتباري أو عدمي- فنقول: ليس كل موجود في العالم هو في العدم، فمثلاً هذا المسجد في المدينة، والمدينة في الأرض، والأرض في السماء الدنيا وهكذا.
    فبعض الموجودات هي داخل موجود آخر، إلا الكون فلا يحويه موجود آخر، وإنما ينتهي بذلك إِلَى نهاية الكون أو سطح العالم، فيكون بعد ذلك العرش، وبعد العرش يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي استوى عَلَى العرش، وهو محيط به وبجميع المخلوقات عَلَى كيفية لا نعلمها يقول المصنف: [بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي] فإنها في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة- [ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم].

    ومما يمكن أن يكون جواباً للإشكال الحاصل في قوله: "كسائر المبتدعات"، بأن كلمة "سائر" بمعنى: البقية، أو بمعنى الغالب، وهذا الأصح في لغة العرب، أن تكون بمعنى البقية لا بمعنى الكل، ونحن نستخدمها في معنى الكل، ونقول: أنا مثل سائر النَّاس أي: مثل كل النَّاس.
    فمن الناحية اللغوية كلمة "سائر" لا تطلق إلا عَلَى الباقي، لكن النَّاس استخدموها في معنى الكل، مثلاً في حديث الغسل من الجنابة "ثُمَّ أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: بعد أن غسل رأسه أو بعد أن توضأ "أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: عَلَى بقية جسده، وكان ذلك بعد وضوئه كما هو ثابت في الصحيحين.
    وهذا هو التعبير الصحيح في اللغة العربية؛ فيقول المصنف: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه "السؤر" وهو ما يبقيه الشارب في الإناء] فسؤر القطة ما بقي في الإناء بعد أن تشرب منه [فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي] وأكثر المخلوقات محوية بمخلوق آخر إِلَى نهاية العالم.

    وهذا الكلام الذي ذكره المُصنِّف لعله منقول بالنص من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ الذي في التدمرية صـ 45، أو في منهاج السنة (1/250)، وهذا يبين أن شارح العقيدة الطّّحاويّة يعتمد اعتماداً شبه كلي عَلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم، وكذا الحافظ ابن كثير والذهبي، ولكن اعتماده الأكثر عَلَى كلام ابْن تَيْمِيَّةَ، وابن القيم رحم الله الجميع.
    وكان يترك التصريح بالأسماء خشية أن ينسب إليهم ثُمَّ يرد الحق الذي معه.
  3. ماذا قال أبو حنيفة في علو الله تعالى؟

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به.
    وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى سماء الدنيا، كما أخبر الصادق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
    فقوله مخالف لإجماع السلف، مخالف للكتاب والسنة، وقال شَيْخ الإِسْلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ بعد روايته حديث النزول يقول: سُئل أبو حنيفة؟ فقَالَ: ينزل بلا كيف. انتهى.
    وإنما توقف من توقف في نفي ذلك، لِضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلووالاستواء عَلَى العرش.
    ويقول بعضهم: بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
    وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تَعَالَى زيادة بيان، عند الكلام عَلَى قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ: "محيط بكل شيء وفوقه" إن شاء الله تعالى] اهـ.

    الشرح :
    قول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعو عليه بأشياء أهون منه؛ فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به] في هذا نقدٌ لمن ينسب إِلَى الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ قوله بنفي الجهات، سواء كَانَ التعبير بنفي الجهات كما قال الطّّحاويّ: [لا تحويه الجهات الست] أو أنه قَالَ: لا داخل العالم ولا خارجه، فيقول -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن ذلك لا يصح عنه وفي نسبة ذلك إليه نظر.
    لأن أضداد الإمام أبي حنيفة شنعوا عليه بأشياء أهون من هذا، ولو سمعوا عنه أو بلغهم عنه هذا لشنعوا عليه به؛ لأنه أشنع وأعظم وأخطر، فنجد مثلاً في كتاب السنة، للإمام عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل -رحم الله الجميع ورضي عنهم-كلاماً طويلاً عن الإمام أبي حنيفة، وأقوالاً كثيرةً جداً، منها الثابت، ومنها غير الثابت، ومنها ما أخذ عليه شيء في عقيدته.
    وذكر ذلك أيضاً ابن حبان في كتاب المجروحين وغيرها من الكتب التي تعرضت له وجمعت ما له وما عليه، كما جمع الخطيب في تاريخ بغداد أشياء له وعليه، فلو بدر عن الإمام أبي حنيفة نفي العلو عَلَى أي تعبير جاء، لكان ذلك من أشنع ما ينسب إليه، كيف وقد نسب بعضهم إليه ما لم يقل؟
    فلا يمكن ولا يصح أن الإمام أبا حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أو أحداً من السلف أنكر العلو،
    بل أورد الشيخ وأورد غيره ما يدل عَلَى أن الإمام أبا حنيفة يثبت العلو فذكر من ذلك: [وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى-] في كتاب الفقه الأكبر.
    فكان مما قَالَ: "من أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر"، هكذا قال الإمام أبو حنيفة، من نفى أو من أنكر أن الله تَعَالَى فوق العرش فقد كفر، لأن الله يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5]
    .
    ثُمَّ بيَّن المُصنِّف أن العبارات المجملة الأولى أن لا تطلق، ويكتفى بما ورد عن الله ورسوله كالاستواء والنزول ونحو ذلك.
    ثُمَّ استطرد يقول: [ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى السماء الدنيا] كما ورد بذلك الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه جمع من الأئمة، ومن أكثر من أطال في نقل رواياته الإمام ابن عبد البر في كتاب التمهيد، وكذلك شرحه شرحاً مستفيضاً طويلاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه شرح حديث النزول، فمن ظن أنه عندما ينزل في الثلث الأخير من الليل، ويكون العرش فوقه، أو يكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
    فإن مثل هذه التصورات الجاهلية السخيفة الساذجة، أساسها سذاجة العقل وضيق الأفق، والإِنسَان مسكين لا يستطيع أن يتخيل شيئاً إلا عَلَى الكيفيات التي يعرفها، كما يُقَالَ: "لو أنّ رجلاً ولد في السجن أو عاش في السجن وهو صغير ولا يرى إلا الصراصير، وأكبر حيوان يراه في السجن هو الفأر، وما خرج إِلَى الدنيا ولا رآها، ويسمع أباه والسجناء يقولون: الفيل، الثور، البقرة، فإنه سيسأل أباه: يا أبي! الفيل أكبر من الفأر أم مثل الصراصير؟!! " وهكذا الفكر والعقل البشري محصور مسجون، فإذا جاءنا نصٌ فيه {ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا} قيل: معناها أنه بين سمائين!! ثُمَّ يتبادر سؤالٌ هل خلا منه العرش أم لا؟!
    وهذه تفكيرات ساذجة سطحية تدل عَلَى ضعف إدراك الإِنسَان.

    ولهذا أول ما وصف الله به المؤمنين، وهو أعظم وصف لهم في جميع أبواب العقيدة قوله تَعَالَى: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)) [البقرة:3] فنؤمن بالغيب، ونؤمن بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صادق فيما أخبر وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن عقولنا عاجزة وكليلة عن إدراك أمور الغيب، وعلى هذه العقول أن تؤمن سواء فهمت حقيقة ذلك وكيفيته أو لم تفهمه، فإذا جادلت وما طلت وكيفت وحُرِفت، فإنها لا تكون مؤمنة بالغيب.
    ثُمَّ ينقل المُصنِّف كلام شَيْخ الإِسْلامِ أبي عثمان الصابوني، وله كتاب في إثبات الصفات حققه الشيخ علي ناصر فقيهي وفيه يقول: "سئل أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن حديث النزول، فقَالَ: ينزل بلا كيف"، فـأبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ يثبت علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويثبت نزوله، كما ورد في الأحاديث، وينفي الكيفية، كما يقول ذلك سائر السلف.
    ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإنما توقف من توقف في نفي ذلك -أي: من الشراح الذين توقفوا في نفي مثل هذه العبارات- لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش!] ينكر علو الله عَلَى عرشه! [بل يقول: لا مباين ولا محايث لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا]ثُمَّ أشار المُصنِّف إِلَى أنه سيأتي تفصيل ذلك.
  4. إحالة إلى ما قاله الشنقيطي في العلو والاستواء

    وبخصوص هذه القضية هناك مرجع سهل وميسر ومبسط جداً في مسألة العلو والاستواء، وهو كلام شيخنا الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في كتاب أضواء البيان، عند قوله تَعَالَى في سورة الأعراف: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)) [الأعراف:54] فقد تكلم بكلام رائع وعظيم ومفهوم وواضح.
  5. البدعة بريد الكفر

    تقدم ذكر مذاهب النَّاس في مسألة العلو، لكن ينبغي أن نعرف خطر البدع وتسلسل بعضها من بعض، فإن أول ما يبدأ به الشخص أنه ينكر علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويقول: لا داخل ولا خارج...، فإذا أقر بهذا ودرسه وفهمه واستوعبه، أتاه الحلولي فقَالَ: ما دام أنك قلت: لا داخل ولا خارج...، فليس هو إلا هذا الكون فينتهي به الأمر إِلَى أن يقول: إن الله هو هذا الكون، أو إن الله حالٌ في هذا الكون، أي: إما اتحادي يقول اتحد في هذا الكون، أو يقول بوحدة الوجود، وأن ما في الوجود إلا هو، كما يقول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] يقول: عَلَى أي شيء استوى، وما في الوجود إلا هو؟! فهو المستوي وهو المستوى عليه، عياذاً بالله.
    ونحن نقول ويقول معنا الأشعرية والمعتزلة وأمثالهم: إن من قال إن الله تَعَالَى هو عين الموجودات كافر خارج عن الملة.
    لكن من الذي يمهد لهذا الإِنسَان هذه الطريق ليصل به إِلَى الكفر؟ إنه من يقول من أهل البدع: إن الله في كل مكان، أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه
    ، أما المؤمن الذي يقرأ كتاب الله ويقرأ سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تجده يعرف ربه حق المعرفة؛ لأنه يقرأ سبعة مواضع في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ في إثبات الاستواء، فما بالك بالعلو الذي أدلته لا تحصى؟!
    وكما سبق أن قلنا: إن العلو ثابت بالآيات والأحاديث، والعقل والفطرة والإجماع، لكن الاستواء بالذات ثابت بالنص أي بالآيات والأحاديث
    ونعلم أنه عال عَلَى المخلوقات حتى من غير النص ومن قبل أن يرد النص، يقول عنترة الشاعر المشهور:
    يا عبل أين من المنية مهـرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
    فهو يثبت العلو ويثبت القدر، والذين ينفون العلو وينفون القدر خالفوا حتى المعاني الجاهلية،
    فالعلو ثابت بالعقول والفطر، والاستواء ثابت بالنص، وكل منهما يؤيد الآخر.