المادة    
إذا قال المؤمن السني الذي يتبع السلف الصالح: إن الله تَعَالَى فوق المخلوقات، أو قال في السماء، كما جَاءَ في القُرْآن والسنة، فسيأتيه المجادلون من أهل البدع، فيقولون له: يلزمك من هذا أن الله له مكان، أو أن الله له جهة، ونتيجة لذلك يقولون: نَحْنُ ننفي الجهة عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  1. المعنى الحق والمعنى الباطل لكلمة جهة

    كلمة الجهة محتملة وفيها لبس، ولابد من التفصيل فيها لنعرف المعنى الصحيح والمعنى الباطل أو الخطأ لهذه الكلمة فإذا قال أحد: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له جهة، قلنا له: ماذا تريد بقولك: إن الله له جهة، فإن قَالَ: أريد العلو، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عال عَلَى المخلوقات.
    وهذه الكلمة وردت في بعض كلام الأئمة من السلف فإنهم يقولون: نعم لله جهة، ويقصدون بها (جهة العلو)، أي: أنه فوق المخلوقات؛ فنقول لمن يقول ذلك إثباتك للعلو حق وصواب، لكن كلمة الجهة تحتمل معنى آخر يلزمك به أهل البدع فلا تستخدم هذه الكلمة وقل: هو فوق المخلوقات كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وإن جَاءَ أحد: وقَالَ: ليس لله جهة قلنا: ماذا تريد بذلك؟ فإن قَالَ: أريد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحصره شيء وأنه فوق كل شيء، وأعظم من كل شيء، ومحيط بكل شيء ، قلنا: هذا المعنى حق لكن هذه الكلمة (ليس له جهة) يستخدمها نفاة العلو، فيقولون: ليس له جهة أي: أنه ليس فوق المخلوقات، فلا تستخدم هذه الكلمة التي قد تلتبس عَلَى بعض الناس، واستخدم الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها ولا لبس.

    ونقول: هو فوق المخلوقات كما قال تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام:18] ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم)) [النحل:50] أو هو في السماء، كما قال تعالى: ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك:16] أو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية: {أين الله؟ قالت: في السماء} والأمثلة كثيرة، وموضوع العلو والاستواء سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
    يقول المُصنِّف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق] والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي أوجد كل موجود فالموجودات خَلْقُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما العدم فهذا لا وجود له [فإذا أُريد بالجهة أمر موجود غير الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تَعَالَى الله عن ذلك] أي: إذا أردنا بالجهة شيئاً موجوداً غير الله كَانَ هذا المكان أو الحيز مخلوقاً، فإذا قلنا: الله في جهة، ونقصد به الجزء الأعلى من الكون، أي: داخله، فيكون بهذا قد حصرنا الله سبحانه وجعلناه في شيء من مخلوقاته معين.
  2. كيف يحد الله وهو أعظم من كل شيء؟

    لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يصح في الأذهان أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يحصره شيء أو يحده شيء من مخلوقاته، كيف وهذه المخلوقات جميعاً ما هي في قبضته - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا كالخردلة في يد الإِنسَان، فعلى أي اعتبار نظرنا فهو فوقها وهو أعظم منها.
    و إذا أردت إيضاح ذلك فتأمل معي هذا العالم الذي نعيش فيه الآن عَلَى هذه الأرض وفوقنا السماء الدنيا، وهي أقرب سماء إلينا، أو هي التي نراها ونرى العالم الذي داخلها، هذه السماء الدنيا وسائر السماوات السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكبر وأعظم من كل شيء، فكيف يكون حالنا في هذا الكوكب ونحن في هذه الأرض التي لا تكاد تكون بالنسبة إِلَى عالم السماء الدنيا إِلَى الكون المنظور إلا هباءة أو ذرة؟!
    فلو نظرنا إِلَى ما يقول علماء الجغرافيا، الذين لا يؤمنون بأن السماوات سبعاً، ولا يؤمنون بوجود الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يؤمنون أصلاً بأن هناك شيئاً اسمه السماء الدنيا، لأن النظرة عندهم نظرةٌ مادية فقط، فبالمنظار المقرب والمكبر الذي يمتد عبر المراصد إِلَى آفاق الكون ينظرون به إِلَى آفاق السماء ويتخيلون أن السماء فراغ، وليس هناك جرم محسوس مخلوق يُقال له: السماء!
    هكذا أكثرهم، حتى بعض الْمُسْلِمِينَ مع الأسف -ممن كتب في هذا الموضوع- تجد من كلامه أن هذا الكون فضاء وفراغ يتمدد، وليس هناك جرم يسمى سماء.
  3. السماء جرم حقيقي بدلالة الكتاب والسنة

    نصوص الكتاب والسنة قطعية وواضحة في إثبات أن السماء جرم حقيقي موجود، وإلا فما معنى قوله تعالى: ((سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً))[الملك:3]، وما معنى ما جَاءَ في حديث الإسراء والمعراج، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصعد إِلَى السماء الدنيا ويستأذن ملائكتها هو وجبريل، ثُمَّ يصعدان إِلَى السماء التي تليها ثُمَّ إِلَى التي تليها...، بل هذا كله يدل عَلَى أن السماء أجرام حقيقية.
    وفي القُرْآن ما يدل عَلَى هذا دلالة واضحة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (((يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ))[المعارج:8] والمهل: هو الرصاص المذاب أو هو الزيت السائل المعروف عند العرب، فكونها تتحول إِلَى حالة سائلة فيه دلالة بينه عَلَى أنها جرم حقيقي، وأنها في حالة صلبة، وأن هذه السماء جسم، أو شيء موجود حقيقة وليس مجرد فراغ أو هواء ننظر إليه ونظن أنه لا نهاية له، وبهذا نعلم خطأ من يقول: هذا الكون اللانهائي، وهذه العبارة غير صحيحة، فالسماء الدنيا لها نهاية بل الكون كله له نهاية، وكل المخلوقات لها نهاية، فكيف بهذه الدنيا التي هي محوية بالسماء التي فوقها؟!
    وأعظم من هذه السماء الكرسي، وأعظم من الكرسي العرش.
  4. لا يلزم من إثبات علو الله انحصاره في مكان

    الذين خاضوا في مسألة نفي علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بحجة أنه يلزم من ذلك أن الجهة تحصره، أو أن مكاناً يحويه من هذه الدنيا، هَؤُلاءِ قاصري النظر والإدراك بالنظرة إِلَى العلم الحديث، فما بالك بالنظرة إِلَى الكتاب والسنة؟!
  5. ما أوسع هذا الكون!

    يقول أصحاب العلم الحديث: هذا الكون فيه سعة وفيه امتداد لا يستطيع العقل أن يتخيله ولا يدري أين جهاته ولا يدري أين نهايته، وكما هو معلوم أن الأرض هي مثل الهباءة بالنسبة إِلَى هذا الكون الكبير جداً، فمن أي جهة من الأرض انطلقت المركبة الفضائية -مثلاً- فإنها تحتاج إِلَى أن تقطع في أعماق هذا الكون المسافات العظيمة، وما يزال الفضاء أوسع وأبعد مما يُتخيل، ونتيجةً للضخامة وكبر هذا الكون الهائل العظيم، فهم يعلنون أن هذا الكون أعظم من أن يكون نجماً أو كوكباً بل هو مجرة ومجرات ومجرات.
    والمجرة تحوي ملايين من النجوم، والشمس -مثلاً- من أصغر النجوم في الكون، والشمس تتبعها المجموعة الشمسية، فإذا كانوا يكتشفون بعد الحين والحين مجرة، والمجرة فيها ملايين النجوم، والنجم أكبر من الشمس بأضعاف، والنجم له كواكب وتوابع كثيرة قد تبلغ أحياناً عشرات أو أكثر! فكيف سيكون حجم هذا الكون؟!
    وإن مثل علماء الفلك، كما قال بعضهم: مثل أناس كانوا محصورين في سور معين فأخذوا يعالجون الباب حتى فتحوه، ولما فتحوا الباب وإذا بسور آخر وفيه باب، وَقَالُوا: متى فتحنا هذا الباب وصلنا إِلَى النهاية، فكلما فتحوا باباً يكتشفون باباً آخر وهكذا، كلما تقدم العلم يفتحون باباً جديداً ويكتشفون أنهم ضاعوا، وفي النهاية أصبحوا عاجزين، فوضعوا مراصيد ضخمة جداً لكنها تكل تماماً، وترجع إليهم وهي حاسرة كسيرة لا تعرف هذه السماء الدنيا ولا تدري أين نهايتها، فسُبْحانَ اللَّه! إذا كَانَ عجزهم هذا عن سماء الدنيا، وعجزوا عن تصورها وهم بهذا العلم وبهذه المراصيد.

    فهل يصح بهذا ما يقوله علماء اليونان من أنه سبحانه: لا داخل العالم ولا خارجه؟! بحجة أنَّا لو قلنا: إنه فوق للزم أنه في جهة، وأخذ بهذا القول علماء الكلام ومنكرو العلو، فكانوا يعتقدون أن السماء هذه مشابهة للأرض؛ أو قريبة للأرض في حجمها، وأن النجوم والكواكب هي مثل القناديل المعلقة في هذا المسجد أو في أي مكان، هكذا كَانَ تصور الذين نفوا علو الله ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
    والآن أصبح العلم الحديث يعجز ويحار في فقه ذلك ولا يستطيع أن ينفي أي شيء؛ لأنه لم يفقه هذه الحياة الدنيا، ولا هذه السماء الدنيا، فأصبحوا لا يستطيعون أن يوجدوا لغة يفهمونها للأطوال والأبعاد الكونية، ولذلك تجدون الأبعاد الفلكية تختلف جداً عن الأبعاد المعروفة لنا في الأرض، نَحْنُ نقيس المسافات -مثلاً- بالميل وبالكيلو، لكن علماء الفلك يقيسون المسافات بالسنة الضوئية، فالقمر -مثلاً- يستغرق نوره حتى يصل إِلَى الأرض ثانية واحدة تقريباً، لأن القمر يبعد ثلاثمائة ألف كيلو متر، فالقمر في ثانية واحد يصل نوره إِلَى الأرض، لكن الشمس يصل نورها إِلَى الأرض بعد ثمان دقائق، لأنها تبعد "93" مليون ميل من الأرض تقريباً، فإذا كَانَ نور الشمس يصل إلينا وهي عَلَى بعد "93" مليون ميل من أميالنا المعروفة في الأرض في ثمان دقائق.
    فإذا قسناها بالسنة الضوئية فكم ستكون ملايين؟ لا نستطيع أن نُعبر عنها إلا عن طريق الأس أو القوة، يقول إنشتاين: إن حجم الكون تقريباً 10 أُس 82، يعني: عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة، وليس هناك اصطلاح رياضي نعبر عنه، وإنما بلغة الأرقام فقط نعبر عنها، عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة من السنين الضوئية، ومع هذا فما يزال هذا الكون في تمدد واتساعٍ ولا يعنون بذلك -أي: أهل العلم الحديث- إلا ما كَانَ دون السماء الدنيا، أي: الفراغ بين هذه الأرض التي نعيش عليها وبين السماء الدنيا هو فقط الذي لا يتمدد، ولذلك أوجدوا وحدات جديدة للقياس.
  6. أهل الكلام لم يعرفوا حقيقة هذا الكون

    إن عقولنا تعجز عن تصور عظمة الكون، ومع ذلك تجد من يخوض في عظمة الله ويقول يلزم أن يكون في جهة وأن تخلو منه باقي الجهات، سُبْحانَ اللَّه العظيم! ما أجهل الإِنسَان! إذا أنت لم تعرف هذا المخلوق ولم تقدره، فكيف تتكلم في الخالق وتقول: يلزم ويلزم؟! وهذا الكلام لو قاله إنسان في حق المجموعة الشمسية، أو في غيرها لسخر منه الناس، فضلاً عن الكون، فضلاً عن خالق الأكوان جميعاً.
    فعلى المخلوق أن يعرف قدره، ويعرف عجزه وضعفه.
    هذه النجوم يقدر أعمارها كما يقال بملايين من السنين، ومع ذلك ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا النجم الذي يبقى ملايين ثُمَّ ينطفئ أو يتناثر في الفضاء، عبرة للإنسان المسكين لينظر كم سيعيش في هذه الدنيا؟ ستين سنة تقريباً، وستين سنة لا تساوي بالنسبة إِلَى هذه الأبعاد الكونية أي شيء حتى يُقال إن بعض النجوم كالشعرى مثلاً المذكور في قوله تعالى: ((وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى)) [النجم:49] يُقدر بُعده عنا بنسبة ستة ملايين سنة ضوئية، أي لو أن الشعرى انطفأت في هذه اللحظة فإننا نفقد نورها بعد ستة ملايين من السنين، لأن النور يستمر في المجيء ستة ملايين سنة ضوئية!
    ثُمَّ نجد بعد هذا من يتكبر عَلَى الله تعالى، ويتطاول عَلَى أوامر الله وعلى نواهيه، ويتجرأ عَلَى حدوده، ويتكلم في ذات الله وفي صفاته، ينفي ما يريد ويثبت ما يريد، ومع الأسف فإن بعض العلماء كتب كتاباً اسمه هموم داعية يقول: ما دام أن الكون بهذه الأبعاد، والنَّاس اكتشفوا علو الفلك فلا داعي من أن نخوض ونتكلم في العلو ولا في الفوقية ولا في الاستواء! وينتقص مذهب السلف بناءً عَلَى أن الفلكيين توصلوا إِلَى آفاق جديدة في علم الفلك، فيا سُبْحانَ اللَّه! أليس ما وصلوا إليه هو دليل لمذهب السلف أم أنه دليل عليه؟
  7. ولا تقف ما ليس لك به علم

    وترى من علماء الفلك وغيرهم من يقول: ثُمَّ ماذا وراء ذلك؟!
    نقول لهم: نَحْنُ نعلم ما وراء ذلك، فإن كنتم لا تعلمون ما وراء ذلك فقفوا عند حدود ما تعلمون، ولا تتطاولوا عَلَى ما بعد ذلك، سواء في ذلك من غلط من فلاسفة اليونان ومن اتبعهم، أو من تكلم في هذا من فلاسفة العصر الحديث -الجغرافيين المتفلسفين- ومن يتبعهم في قولهم ممن خاض في هذه المسألة، كل أُولَئِكَ خالفوا قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))[الاسراء:36] فأولئك قفوا ما ليس لهم به علم فوقعوا في الضلال ووقعوا في التخبط.

    والمقصود أنه إذا أريد بالجهة أمر وجودي، أو جهة من الجهات الموجودة، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم من كل هذه الموجودات، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، وإن أُريدَ بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عالٍ عليهم.
    فلم نقصد بكلمة الجهة حيزاً معيناً، وإنما أردنا شيئاً اعتبارياً أي: بالنسبة للكون فإنه توجد جهة ينتهي إليها فنقول ما فوق الكون، فلو قلنا: الكرسي فوق السماوات السبع، وفوقه العرش والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش، إذاً الجهة هنا ليست شيئاً وجودياً وإنما شيئاً اعتبارياً، وقد قلنا -ونعيد-: إن الجهة يمكن أن تكون أشياء اعتبارية فقط، فنحن -مثلاً- نقول للسقف: إنه عالٍ علينا وما ذلك إلا باعتبارنا نَحْنُ لأننا تحته.
    ولو أن هنالك بيتاً للنمل في سقف، والنمل يمشي فيه، فبالنسبة للنملة يكون العلو ما نَحْنُ عليه ونعده أسفل، فالقصد أن هذا شيئاً اعتبارياً.
    فباعتبار الكون وأنه كله ضئيل وحقير بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هل هناك جهة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ نعم، جهة الفوقية، أي: أن الله فوق هذا الكون، ولكن نفاة لفظ الجهة نفوا الاحتمال الصحيح ويريدون بذلك نفي العلو.
  8. اللازم الباطل

    يذكر نفاة العلو من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة -وهذا في جميع كتب الأشعرية والمعتزلة- فكيف نثبت له جهة وهو موجود قبل الجهات؟ وهو الذي خلق الجهات؟ ولو قلنا: إنه في جهة للزم أن يكون شيء من العالم محيطاً به!!
    وهَؤُلاءِ يتكلمون عن الجهة باعتبارها حيزاً معيناً في طرف من أطراف الكون، وهذا من ضعف الخيال الإِنسَاني ومن قصور العقل البشري، نعم الجهات كلها مخلوقة إذا قُصِدَ بالجهات الحيز، وأما إذا كنا نريد بها شيئاً اعتبارياً فليس بلازمٍ أن يكون في حيز، وإنما الجهة التي يمكن -على كلامهم- أن تمنع هي أن تكون من هذا الكون نفسه، بحيث لا يكون في جهة أخرى.
    ثُمَّ يقولون: ومن قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أي قدم الجهة التي هو فيها أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها! فبين الشيخ: أن هذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، فهم يريدون أن يقولوا: إن الله ليس حالاً في شيء من المخلوقات ولا يحويه شيء من المخلوقات -تعالى الله عن أن يكون حالاً أو محصوراً في شيء من مخلوقاته- وكل خلقه بالنسبة له كالخردلة في يد الإِنسَان، ولله المثل الأعلى.
    وبناءً عَلَى قولهم السابق قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه وهذه عقيدة فلاسفة اليونان، أو بعضهم وهي التي عليها الأشاعرة كما في كتاب المواقف وغيره:

    ثُمَّ يقول المصنف: [ما لا يوجد فيما لا نهاية له ليس بموجود]، فإذا قلنا: إن الجهة لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فهو معدوم، وبمعنى أوضح: نفي التعيين كَانَ نقول: هذا الشيء لا داخل ولا خارج، هو نفي للماهية، أي: نفي للوجود.
    وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "لو قال أحد: ما هو العدم لقال لك: العدم هو الشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته"، وهذا تعريف صحيح باعتبار التعريفات السلبية، فالذين يصفون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعدم هروباً من إثبات العلو ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ما فهموا معنى إثبات العلو، وما فهموا من إثبات الجهة -كما يسمونها- إلا حيزاً محصوراً موجوداً مخلوقاً.

    ثُمَّ يأتي الحديث عن النزول والاستواء لما بينها من العلاقة، فإذا تكلموا في النزول قالوا: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ نقول لهم: أثبتوا أولاً أنه عَلَى العرش، ثُمَّ اسألوا هذا السؤال، وهذا دليل التناقض الفكري الذي لا بد أن يقع فيه كل من أعرض عن الكتاب والسنة. وما مذهب أهل البدع إلا مجموعة أمور متناقضة.