يقول: "إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به".
وقس على ذلك التوبة، والحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً.
هذا الكلام يقوله الإمام
ابن القيم لأجل الرد على ما يفعله شيوخ الطرق في عصره، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً، فقد كان في عهده من يستغيثون بالشيخ، بل قد كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا
المهدي الذي ظهر في
السودان يدعي أنه
المهدي، و
عبد الله التعايشي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم ذلك الشرك، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه -وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر- ليس بشيخ!
فيجعلون لشيخهم ما هو من خصائص الله تعالى الله عما يصفون!
فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر عندهم هو الشيخ!! وأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ.! انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية.. نسأل الله العافية.
والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.
قال: "فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه". ولهذا جاء في الحديث الصحيح: {
يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم}.
سبحان الله! الجزاء من جنس العمل...!
يحشر الناس يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرين الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من الواجب لهم على الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم... هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً لما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي لذلك الكبر.. مالاً.. منصباً.. اعتقادات باطلة.. كشيوخ
الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يقبلوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: {
العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته}
ثم يضرب
ابن القيم رحمه الله مثالاً فيقول: "وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {
أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهون بخلق الله}".
ليست العلة أن الشخص صور فقط، بل يجب أن تطَّرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه.
فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، إذ يحاول أحدهم أن يخلق ويصنع كهيئة خلق الله.. هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهو جريمة عظمى، كان المصور بسببها من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟
ليس هناك رسم ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: {
لا أحد أحب إليه المدح من الله} فالذي يجب أن يحمد ويعظم هو الله.
ثم قال: "والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعته، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟" وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلهيته.
فيقول رحمه الله: "وكذلك من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه..
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {
إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بشاهان شاه -أي: ملك الملوك- ولا ملك إلا الله}، وفي لفظ: {
أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك}".
كان هذا الرجل أبغض الناس عند الله بمجرد أنه تسمى بهذا الاسم، وقد لا يكون دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته، كما دعا فرعون قومه : ((
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38].. بل كل ما عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فبإطلاق هذا الاسم عليه استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون صاحبه أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو وحده حاكم الحكام، وهو وحده الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره.
وهكذا يفتح لك
ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً.. فهو لا يكتب لك كلاماً قليل الفائدة، بل يكتب علماً مؤصلاً مرتباً مبنياً على الأدلة وفق نظرة شاملة.
وهذه الخاصية التي للإمامين
ابن تيمية و
ابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، وهي ميزة للمدرسة السلفية تظهر لنا أنها مدرسة قوية.
هذا المنهج الذي اختطه شيخ الإسلام
ابن تيمية وتلميذه
ابن القيم رحمة الله تبارك وتعالى عليهما، ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه القرون الثلاثة المفضلة، ولم يأت بشيء من عنده قط.