المادة    
ابتدء شَيْخ الإِسْلامِ كتابه بذكر هَؤُلاءِ المؤولين الذين يقولون بهذا القانون الكلي؛ " قانون التعارض "، ثُمَّ أخذ في بسط الكلام في هذه المسائل بما يشفي ويكفي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإذا نَحْنُ نقول: هذه التأويلات المبنية عَلَى هذا الزعم باطلة تردها النصوص الصريحة وتردها أيضاً العقول الصريحة
  1. تأويلات المبتدعة وتلبيساتهم في اليد

    قولهم في اليد: ليس لله يد، وما ورد من إطلاق اليد فإنما المراد به القدرة، وقولهم مركب من جملتين قالوا أولاً: ليس لله يد، ثُمَّ قالوا: ما ورد في اليد فإنا نفسره بالقدرة.
    وإنما قلنا من جملتين لأننا قد نجد أنه منسوب إِلَى بعض السلف أنهم فسروا اليد بالقدرة.
    لكن لا يمكن أبداً أن ينقل عن أحد من السلف نفي اليد، ولا نفي صفة العين عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لكن قد تجد من قال في تفسير قوله تعالى: ((بِأَعْيُنِنَا))[هود:37] من قَالَ: بحفظنا أو برعايتنا أو بعنايتنا إِلَى آخر ذلك، وهنا قضية مهمة جداً يجب أن نعلمها أن أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: إننا أهل بدعة، وأهل ضلال وخارجون عن السنة وعن الطريق القويم؛ لأننا ننفي صفة اليد أو نؤولها.
    فانظروا إِلَى ما قاله مجاهد -مثلاً- وهو تلميذ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين - في قوله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)) [الملك:1] قال قدرتهفقالوا: إما أن تقولوا: إن مجاهداً ضال وخارج عن السنة والجماعة إِلَى آخره.
    وإما أن نكون نَحْنُ مثله، ونفي اليد وتفسيرها بالقدرة صحيح ولا منازعة فيه، وهكذا في صفة العين والوجه وغيرها من الصفات، فلذلك قلنا يجب أن نفهم هذه القضية.
  2. الفرق بين هؤلاء المؤولة وبين ما ورد عن السلف في تفسير بعض الآيات

    المبتدعة ينفون اليد ثُمَّ يفسرون اليد الواردة في النصوص بالقدرة والنعمة والقوة والنصر، كما في قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ))[الفتح:10] نصره وتأييده إِلَى آخره، أما مجاهد أو سفيان أو ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأمثالهم ممن ورد عنهم أمثال هذا الكلام الذين وردت عنهم ألفاظ قليلة في تفسير بعض الآيات، فإنهم لم ينفوا أي صفة من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ -فـمجاهد لم يقل ليس لله يد، وأن المراد باليد: النعمة والقدرة، إنما فسر قوله سبحانه: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] بالملك في قدرته، وهل أخطأ مجاهد في المعنى؟!
    لو تأملنا كلامه لوجدنا أنه لم يخطئ ولم يؤول؛ لأن إثبات اليد قضية مفروغ منها، لكن معنى:((بِيَدِهِ الْمُلْكُ))[الملك:1] أن السماوات السبع تحت قدرته لا تخرج عن أمره، وأي معنى من هذه المعاني صحيح ولا غبار عليه، وقوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ))[الفتح:10] معناها ينصرهم ويؤيدهم، ويجعل الغلبة لهم.
    فالمعنى صحيح وحق وهذا هو المراد بهذه الآية، وهذا المعنى الذي يريد أن يقوله الله عَزَّ وَجَلَّ للكفار، وهذا هو الذي فهمه الصحابة من هذه الآيات، ولا يعني هذا نفي صفة اليد عن الله تعالى، فالمعنى الإجمالي للعبارة وللاستعمال شيء، ونفي الصفة التي تدل عليها لفظة من الألفاظ في هذه العبارة شيء آخر، فإذا قلنا مثلاً: المملكة بيد الملك أو الجامعة بيد المدير، المقصود بذلك أنها تحت أمره وتحت قدرته، فنقول: نعم كلامكم هذا صحيح يفهمه أي عربي أن المقصود بـ"المملكة بيد الملك": أن المملكة في ملكه وفي قدرته وتحت أمره، لكن من فهم من هذه العبارة -من قولك: إن المملكة بيده أو الجامعة بيده- أنه أقطع ليس له يدان، نقول: هذا فهم خاطئ جداً، فهم المجانين لأن هذا لا يمكن أن يُفهم من هذه العبارة.
    وهم يقولون: ليس لله يدان، لأن معنى:((بِيَدِهِ الْمُلْكُ)) [الملك:1] وما أشبهها مثل قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) [الفتح:10] معناها القدرة أو النصرة أو الحفظ فهذا خطأ، فمع أن للملك يده، وللمدير يده، لكن أيضاً الجامعة بيده والمملكة بيده، بمعنى: أنها تحت أمره وتحت حكمه وتحت قدرته هذا معنى واضح ولا تختلف العقول فيه؛ فكذلك نفهم هذا عَلَى ضوء لغة العرب.

    ويقولون: إن القُرْآن نزل بلسان عربي مبين، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ، نقول: نعم، ونحن لا نتهم لغة العرب، ولا نخطئها، بل نتهم أفهامكم أنتم، فلغة العرب لا تقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن أنتم فهمتم منها ما يقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، وهكذا حتى في باب الكناية إذا قالوا -مثلاً-: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5] يقولون: هذا كناية عن القهر والغلبة والتمكن إِلَى آخره، فنقول لهم: الكناية لا تنفي الحقيقة في لغة العرب، والبيت الذي يأتون به في البلاغة دائماً في الدلالة عَلَى الكناية بيت الخنساء، وهي ترثي أخاها صخراً تقول:
    كثير الرماد رفيع العماد طويل النجـاد             فتى ساد في قومه أمردا
    رفيع العماد، طويل النجاد، كثير الرماد، وما أشبه هذه الاصطلاحات كناية عن كرمه وعن شجاعته وعن قوته هذا الذي تريد أن تقوله عن أخيها، لكن لا يعني هذا أنه ليس عنده نجاد، أو بنية طويلة أو رمح طويل أو ليس كثير الرماد، فلا تنفي المعنى، فكثير الرماد تقصد أنه كريم، ولا ينفي أنه كثير الرماد فعلاً أنه يطبخ كثيراً ونتيجة الطبخ يكون الرماد، فالكناية لا تمنع الحقيقة.
    إذاً هم يخطئون في فهم الأساليب العربية ويحملونها مالا تحتمل من أجل نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
  3. الرد على نفاة صفة اليد

    يقول المصنف: [ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[صّ:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي] والمصدر في لغة العرب لا يثنى فمثلاً كلمة الضرب تطلق عَلَى أي ضرب في أي زمان وفي أي مكان من أي إنسان صدر، فهي كلمة تستغرق كل الحدث الذي تدل عليه هذه الكلمة، والقدرة مثلاً: تستغرق كل ما يدل عَلَى ذلك المعنى؛ ولا يصح في لغة العرب بأي حال من الأحوال أن يثنى المصدر، وهذا شيء معلوم في لغة العرب.
    ولو قال قائل: وكلمة " بيع " مصدر، فلماذا يقولون في كتب الفقه كتاب البيوع، وهذا جمع للمصدر فيجاب عنه: بأن هذا الاصطلاح حادث في اللغة العربية، فالأصل أن تقول: كتاب البيع، ثُمَّ تقول: والبيع أنواع، ولو كانت ألف نوع أو أكثر، فكلها تدخل تحت كلمة البيع، لأن البيع يشملها، وأيضاً فهذا الجمع باعتبار الأنواع، مثلاً -بيع النقد بالنقد هذا بيع، والبيع المحرم والجائز، وبيع الغرر، فيقول المصنفون:كتاب البيوع، كأنه يقول لك: هذا الباب أو هذا الكتاب يشمل بيع كذا وبيع كذا، فهذه ألفاظ اصطلاحية وهي ليست مما يحتج به في لغة العرب، وقيلت للدلالة عَلَى غرض معين وهو التنوع والتعدد، لأن كل بيع منها مصدر، ويستغرق كل ما يقع تحته لفظ ذلك المصدر.
    فالمقصود: أنه لا يصح بأي حال من الأحوال أن تفسر قول الله: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[صّ:75] بأنها لما خلقت بقدرتيّ لأنه إن كَانَ المقصود الحصر فهل ليس له إلا قدرتان، فلماذا لا تكون ثلاث أو أربع، أو أكثر؟
    وإن أردنا أنها واحدة فلا يصح أن نقول: قدرَتَي بالتثنية وهي قدرة واحدة، ولو صح ذلك، وسلمنا جدلاً أنها قدرة، وأن المعنى ما منعك يا إبليس أن تسجد لما خلقت بقدرتي، لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، وكل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله، فإذاً ينتفي الاختصاص.
    ولا يصح لغة ولا يصح معنىً وتفسيراً أن يُقَالَ: إن اليد بمعنى القدرة؛ لأن القدرة صفة أخرى من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وهو عَلَى كل شيء قدير ومن أسمائه القدير، وكذلك فإن اليد من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تفسر هذه بهذه ولا نلغي تلك أبداً.