المادة كاملة    
ما زال الحديث في هذا الدرس عن مسألة خلق القرآن، ففيه دحض لحجج بشر المريسي وأمثاله، كما أن هناك وقفة لتوضيح كلمة (كل)، ومروراً على معنى قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وفي أثناء هذا الحديثُ عن فساد استدلال أهل الضلال بكلمة (جعل) على خلق القرآن، وقد أعقب ذلك حديث طويل عن هذه الكلمة مع الرد على من قال: إن كلام الله خلقه في غيره.
  1. دحض حجج المريسي في القول بخلق القرآن

     المرفق    
    قال المصنف -رحمه الله-:
    [ وبمثلِ ذلك ألزَم الإمامُ عبد العزيز المكي بِشْرَاً المريسي بينَ يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة فقال بشر: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
    قال عبد العزيز تسألني أم أسألك؟
    فقال بشر: اسأل أنت وطمع فيَّ.
    فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها:
    إما أن تقول: إن الله خلق القرآن -وهو عندي أنا كلامه- في نفسه أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟
    قال: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها وحاد عن الجواب.
    فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع.
    فقال عبد العزيز: إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً.
    وإن قال خلقه في غيره، فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله.
    وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله.
    هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة.] إهـ.

    الشرح:
    حدثت مناظرة بشر المريسي مع عبد العزيز الكناني في عهد المأمون بعد أن ظهرت بدعة القول بخلق القرآن وأراد المأمون ومن تبعه من الجهمية والمعتزلة أن يرغموا الأمة به.
    والأمر -كما سبق- بدأ بالتدرج حتى اقتنع المأمون في الأخير باستخدام القوة وتعذيب من لم يعترف بأن القرآن مخلوق، ومن ذلك ما جرى للإمام أحمد رحمه الله، ومع أن الإمام أحمد لم يدرك المأمون ولم يناظره لأن الإمام أحمد حمل إلى المأمون وتوفي المأمون والإمام أحمد في طريقه إليه، وكانت المناظرة قبل أن يأخذ المأمون الأمة بالعزيمة والقوة ويرغمها إرغاماً.
    ولهذا كان الكناني حُراً في مناظرته، بشكل لم يتوفر للإمام أحمد مثل ما جرى للكناني، فالإمام عبد العزيز بن يحي الكناني المكي المتوفي سنة 240هـ مشهور بتلمذته على يد الإمام الشافعي وتتلمذ على سفيان بن عيينة ومن كان متتلمذاً على يد الشافعي وسفيان-وهما من خيار السلف ومن أئمة أهل السنة والجماعة- فلا غرابة أن تظهر فيه هذه القوة في المناظرة وفي الحجة والبرهان.
    وأما مُنْاظره فهو المبتدع الضال بشر بن غياث المريسي وقد سُئِلَ عنه الإمام أحمد فقال: كان أبوه يهودياً .
    فماذا يتوقع من رجل كان أبوه يهودياً صباغاً في بغداد ثم ولد له بشر فدخل بشر في علوم الجدل وعلوم المنطق والفلسفة حتى برع في مناظرتها ومجادلتها، ولكنه كان متستراً مخادعاً، وكان يجالس العلماء والقضاة والفقهاء، وقد كفره كثيرٌ من علماء السلف منهم الإمام أحمد وقتيبة بن سعيد وغيرهما من الأئمة الذين حكموا بكفره وحرم الإمام أحمد الصلاة خلف بشر وما ذلك إلا لأنه كافر.
    ومن أسباب كفره أنه يقول: إن القرآن مخلوق،
    وقد رد عليه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رداً مفحماً في كتابه المشهور، والعبرة التي نأخذها من رد الإمام عثمان على بشرٍ مهمة جداً؛ لأننا عندما نجد الشبهات التي رد عليها الإمام الدرامي ونقضها ونقدها في موضوع صفات الله تعالى نجد أن هذه الشبهات وهذه الأقوال هي التي تبناها الأشاعرة ووسعوها وعمموها.
    ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من تأمل في كلام الدارمي وما رد به على بشر المريسي يعلم أن تأويلات الأشاعرة هي تأويلات بشر، وإذا عرفنا أصل هذا المذهب، وأنه يعود إلى بشر، فلا غرابة بعد ذلك أن نعلم مخالفته لـأهل السنة والجماعة، ونعلم أن وراء التأويل في صفات الله تعالى والإلحاد فيها المؤامرة، والحقد والزندقة والنفاق، وليس هناك من حجة أو برهان علمي أو عقلي.
    وقد ذكر الإمام الذهبي أن بشر المريسي لم يدرك الجهم بن صفوان وإنما أدرك تلاميذ جهم فتلاميذ جهم نقلوا التجهم إلى بشر فتلقفه بشر وكان الجهم بن صفوان مرذولاً مخذولاً وقتل بسبب مذهبه.
    وأما بشر فإنه مُكنَّ له في أيام المأمون فتمكن، فتعود أصول وجذور البدع مثل بدعة التأويل وبدعة نفي الصفات، وبدعة الإرجاء في مسألة الإيمان إلى بشر ومن بشر تعود إلى جهم.
    فالحاصل أن الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي لما بلغته مقالة القول بخلق القرآن قرر وعزم عزيمة العالم الذي يرى أنه لا بد أن يبرِّأ ذمته وأن يقيم الحجة وأنه لا يجوز له أن يكتم العلم: أن يرحل إلى بغداد ويناظر الخليفة ويقنعه ويقنع من في مجلسه، فذهب إلى بغداد وكانت المناظرة بين يدي المأمون وكان مما دار فيها مما يتعلق بالقرآن، هذه المسألة التي ذكرها الشيخ هنا، وهي أن بشراً وكذلك ضرار بن عمرو شيخ الضرارية وزميله يسمى برغوث من كبار المعتزلة المبتدعة ناظروا الإمام أحمد، وكان هؤلاء هم بطانة المأمون وحاشيته، وكأن هؤلاء كانوا يناظرون ويناقشون بالعقل والرأي والجدل وإلا فهل يعقل أن برغوثاً أوضراراً أو بشراً وغيرهم من النكرات يكون كالإمام أحمد في العلم أو في السنة، إن الذي يتميز به ضرار أو برغوث أو بشر أو أمثالهم بالحجة العقلية في نظرهم وأنهم قرؤوا كتب الأوائل ومنطقهم وفلسفتهم فيستطيعون بذلك أن يفحموا الإمام أحمد أو الكناني أو أي إنسان.
    فلما تناظر عبد العزيز الكناني مع بشر بالقرآن وبالسنة أفحمه بطبيعة الحال لأن أولئك خلو من هذه الأمور جميعاً فعندئذ اقترح بشر وقال للمأمون: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل، لا يناظرني بالقرآن ولا بالسنة، ويناظرني بغيره، يعني: بالجدل العقلي، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
    فكان بشر واثقاً من نفسه ثقة قوية أنه في باب المناظرة بالعقل لن يستطيع الكناني ولا غيره أن يمشي معه ويجاريه، أما بالقرآن والسنة فنعم! لكن نريد أن نناظره بغير التنزيل فوافق الإمام الكناني
    وقال: لا يمكن أن أُقِرَّ له أو أُظهرَ أنني لا أُحسن أيضاً المناظرة العقلية.
    فقال له: نعم أوافق.
    فقال: تسألني أم أسألك؟
    فقال بشر: اسأل أنت وطمع فيَّ؛ لأنه قال ما الذي يمكن أن يسألني فيه؟
    فقال له الإمام الكناني: يلزمك واحدة من ثلاث، أي: لا بد لك أن تقر بواحدة من ثلاثة أمور قال ما هي؟
    قال: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في نفسه، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن في غيره، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن مستقلاً بنفسه، أي: أنه مخلوق آخر.
    فقال بشر: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها.
    فهو يعلم أنه إذا التزم واحدة منها، فإن الجواب سيكون ضده، فحاد عن الجواب ولم يواجه، ولهذا سمى الإمام عبد العزيز الكناني كتابه كتاب الحيدة؛ لأنه كل مرة يمسك بشراً ممسكاً قويا فيحيد بشر عن الجواب ويمتنع وينقطع فيضطر المأمون إلى أن يتدخل ويقول: أجب أنت يا عبد العزيز فإن بشراً قد انقطع وأفحم وحاد عن الجواب.

    فقال له عبد العزيز: إن التزم أن الله خلق القرآن في نفسه فهذا محال لأنه قد جعل الله محلاً للمخلوقات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فهم ينكرون صفات الله عز وجل بدعوى أن الله لا يكون محلاً للحوادث بزعمهم، فهم ينفون عن الله تعالى صفة الغضب والرضا والنزول والاستواء، ويقولون: إننا إذا أثبتناها فقد جعلنا الله محلاً للحوادث، فينفون هذه الأمور عن الله! فكيف يقولون: خلق القرآن في نفسه إذاً: قد جعلوه محلاً للحوادث فقال: هذا محال.
    الثانية: فإن قال خلقه في غيره، فيلزمه أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله؛ لأن الله خلق كلام زيد في زيد وخلق كلام عمرو في عمرو وخلق كلام بكر في بكر، وكل إنسان يتكلم فإن الله هو الذي خلق كلامه فيه فإذا كان كلام الله هو ما خلقه في غيره فكل متكلم إنما يتكلم بكلام الله ولا فرق حينئذ بين القرآن وبين هذيان من الهذيان، وهذا الذي أشرنا إليه في الشبهة الماضية عندما قلنا: إنه لو صح أن يكون المتكلم متكلماً بكلام يكون في غيره لكان كل كلام في الدنيا هو كلام الله، كما لو كان يتكلم عمرو وننسب الكلام إلى زيد ونقول: هذا الكلام كلام زيد لكنه قام بعمرو، وهذا اللازم الذي فرت منه المعتزلة والأشعرية التزمه ورضي به الاتحادية كما قال كبيرهم ابن عربي:
    وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه            سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
    وقال أيضاً: لمّا أن قال فرعون: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعـات:24] قال: هذا كلام الله، والمعتزلة وغيرهم لم يكونوا ممن يقرِّ بكلام الاتحادية ولا يوافق عليه، فإذاً لا يستطيعوا أن يقولوا: إن الله خلق كلامه في نفسه، ولا أنه خلق الكلام في غيره، وإلا لزمهم أن يكون كل كلام هو كلامه تعالى.
    وأما الثالثة فلو قالوا: إن الله خلق القرآن قائماً بنفسه منفصلاً فهذا محال، أي: أن كلامه هو كلامه، ومع هذا خلقه خلقاً منفصلاً كما خلق السموات والأرض والجبال وفلان وفلان من الناس خلقاً منفصلاً قائماً بذاته، فيكون القرآن منفصلاً قائما بذاته فيكون هذا محال؛ لأن الكلام لا يكون إلا من متكلم، والإرادة لا تكون إلا من مريد، والعلم لا يكون إلا من عالم، وأي صفة من هذه الصفات لا بد أنها متعلقة بذات، ولا يمكن أن تكون هذه الصفة ذاتاً مستقلة.
    فمثلاً نقول: إن علم عبد الله، هل يمكن أن يكون علمه شيئاً مستقلاً بذاته وعبد الله شيئاً مستقلاً بذاته ويكون علمه في الخارج لا يمكن ما دام أنه منسوباً إليه موصوفاً به، فإن الصفة لا تكون مستقلاً منفصلاً عن ذاته
    ولو أن المعتزلة تأملوا حقيقة في هذه الحجة لوجدوا أنها ملزمة وأنه ليس لهم وراءها أي شبهة، لكن القضية ليست قضية إقناع ولا حجة، هذه هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ومشكلة الدعاة مع المدعوين، ومشكلة أهل السنة مع المبتدعة دائما في كل زمان ومكان.
    فالمسألة مسألة عناد واستكبار وتمرد
    ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)) [النمل:14] فمهما جاءتهم من الآيات ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا))[الأنعام:25] ومهما نوظروا به من الحجج فإنهم لن يهتدوا ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14، 15] فمهما يعطون: إن فتحت لهم في الأرض أنفاقاً فمشوا فيها، وإن عرج بهم في السماء، ولو رأوا الجنة والنار؛ لقالوا سحر محمد أعيننا فرأينا أشياء ثم لما ذهب عنا السحر ذهب ما كنَّا نرى، ليس هناك مجال لأن يقتنع من لم يرد أن يهتدي.
    فمن لم يوطن نفسه على الاقتناع، وعلى قبول الحق فإنه لن يقتنع، ومن طمس الله بصيرته، وأعماها عن الحق، فإنه لن يقبل،
    ولهذا لم يقبل بشر، ولم يقبل المأمون نفسه بعد أن سمع هذه الحجة وبعد أن رأى كيف انقطع بشر واستيقن من كلام الإمام الكناني فاستمر في الأمر وأمر أتباعه بأن يأخذوا الناس بقوة الحديد والنار، وأن يعذبوا ويمتحنوا العلماء واحداً واحداً؛ لكي يقولوا راغمين صاغرين: إن القرآن مخلوق وإلا فالويل والعذاب الشديد لمن لم يقر بذلك .
  2. الرد على شبه القائلين بدخول القرآن في عموم ((الله خالق كل شيء))

     المرفق    
    ثم قال المصنف رحمه الله:
    [ وعموم (كل) في كل موضع بحسبه ويعرف ذلك بالقرائن ألا ترى إلى قوله تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادةً، وما يستحق التدمير، وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس ((وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام، إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ولهذا نظائر كثيرة ] إهـ.
    الشرح:
    إن مما يحتج به أهل البدع على أن القرآن مخلوق قولهم: إن القرآن شيء وقد قال تعالى ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62] إذاً: فالقرآن مخلوق وكلمة "كل" للعموم يدخل فيها كل شيء.
    فنرد عليهم من القرآن نفسه لنبين لهم أن كلمة "كل" في كل موضع بحسبه، فلا يعني ذلك أنه إذا جاءت كلمة "كل" أنها تعني العموم والشمول المطلق الذي لا قيد فيه ولا استثناء على الإطلاق، وإنما بحسب القرائن فكل كلام يُقالُ عادة فإنما يقال ضمن قرائن في موضع معين، فالقرائن تدل على ما يريده المتكلم فمثلاً: كل الطلاب يتمتعون بالعطلة يفهم من ذلك أنهم الطلاب الذي يدرسون على نظام وزارة التعليم العالي أو نظام وزارة المعارف؛ لكن لو كان هناك طلاب في شركات يتدربون أو في أعمال أخرى لا يشملهم هذا، وبطبيعة الحال لا نحتاج إلى أن تستثنيهم لأن المقام ليس مقام الحديث عن كل طالب في الدنيا، وإنما الكلام عن الشيء المعروف والمشاهد
    ، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ما فسدت عقول الناس إلا لما تركوا منطق العرب ومالوا إلى منطق أرسطو .
    فالعرب لهم منطق فطري يستدلون ويتكلمون بكلام معروف بقرائنه ولا يحتاج إلى أن يأتي أحد؛ فيقول: لا، هذا يكون عام أنت قصدت كل شيء، فأي إنسان من قريش ومن غيرهم نزل عليه القرآن ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) لا يمكن أن يرد في ذهنه أنه خالق صفاته؛ لأن صفاته شيء .
    فهذه تأتي على منطق اليونان (منطق أرسطو) الذي هو منطق فاسد الفطرة، فمجرد الاحتمالات العقلية تتوارد على الذهن أمور كثيرة لكن المنطق الفطري السليم لا ترد عليه أمثال هذه الإشكالات.
    ولذلك نستدل عليهم بالقرآن فنقول: إن الله تعالى قال في أصحاب الأحقاف: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ))[الأحقاف: 25] فالله تعالى لما سلط عليهم الريح العقيم ورأوا السحاب عارضاً ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))[الأحقاف:24] كانوا يظنون أنه مطر وهذا من الاستهانة بعقوبات الله عز وجل، ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرى سحاباً عارضاً يتغير لونه صلى الله عليه وسلم ويخاف ويقول: إن أمة قد ظنت أنه عارض ممطرها وكان عذاباً}.
    فالمؤمن دائماً في قلبه وفي ذهنه الإحساس الدائم بأن هذا الكون بتدبير الله -عز وجل- وأن عقوبة الله قريب ممن يعصيه، فجاء العذاب ودمرهم ولم يبق إلا المساكن والآثار والديار الباقية بعد أن أصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية
    فعندئذ يقول الله ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) فأخبر عن الريح أنها تدمر كل شيء بأمر ربها فلم تدمر المساكن بل بقيت ولم تدمر السماء ولا البحر ولا الصحراء وكل ما كان حولهم كلها باقية.
    إذاً: قوله ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))لا بد أن لها مفهوماً محدداً تحدده القرينة والواقع فيكون المعنى تدمر كل شيء كانت مأمورة بأن تدمره وأن تعاقبهم به، أو أي تفسير آخر يخرجها ولا يدخل فيها العموم والكلية المطلقة كالقول بأنها تدمر ما يقبل ويستحق التدمير.
    وكذلك قوله تعالى حكايةً عن بلقيس ((وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ))[النمل:23] فالهدهد لما أخبر نبي الله سليمان عليه السلام فقال: ((إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ))[النمل: 23] بلقيس امرأة كانت تملك تلك البلاد التي لم يكن سليمان يعلم بها ووصفها الهدهد بقوله: ((وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ))[النمل:23] فأوتيت كل شيء يلزم الملك أو يهيء لهم أو يستحقون به أن يكونوا ملوكاً فيريد أن يستثير سليمان عليه السلام إلى هذا الموضوع، فقال:((أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)) كأنه جاء بأمر جديد وغريب وأنها امرأة وأنها أوتيت من كل شيء ومع ذلك يعبدون شيئاً غير الله ((وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [النمل: 24].
    ولذلك وصفها بهذه الصفة التي جعلت سليمان عليه السلام يهتم بالموضوع ويبذل كل الوسائل لكي يعرف ما هي حقيقة هذه المرأة التي جاء الهدهد بنبئها وخبرها، فالمراد إذاً: أنها ملكة أوتيت من أمور الملك ولوازمه ما يحتاجه الملوك عادة غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها.

    وقال: [ولهذا نظائر كثيرة]، أي: أنه يوجد في القرآن وفي السنة وفي لغة العرب أن الكلمة العامة مثل "كل" وغيرها من ألفاظ العموم يكون عمومها بحسب الموضوع وبحسب القرينة.
  3. معنى قول الله تعالى : ( خالق كل شيء )

     المرفق    
    ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [والمراد من قوله: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))[الرعد:16] أي كل شيءٍ مخلوق وكل موجود سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إِلَى هذا المعنى عند قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذا كَانَ قوله تعالى:((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً] إهـ.
    الشرح:
    بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ معنى العموم في قوله تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) حيث يقول إن الله تَعَالَى خالق كل شيء مخلوق كل ما سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فالله خالق كل شيء سواه، فلا يدخل في ذلك صفاته تعالى، ويُقَالَ: إنها مخلوقة؛ لأن صفاته تَعَالَى ليست ذواتاً منفصلة مستقلة، وإنما هي صفات لذاته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيقول إنه لا يدخل في العموم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن يدخل فيه أفعال العبادونص عَلَى هذا الكلام في هذا الموضع لأن المعتزلة يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وهم الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق فيجمعون بين قولهم: إن القُرْآن مخلوق وبين قولهم: إن العبد خالق لأنه يخلق فعل نفسه.
    فَيَقُولُ: إذا كانت الآية عَلَى عمومها: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) إذاً: فهو خالق أفعال العباد لأن أفعال العباد تدخل ضمن كل. فهذا مما يلزمكم ويفحمكم.

    أما صفات الله عَزَّ وَجَلَّ ومنها كلامه، فإنها لا تدخل في عموم كل، لأن صفاته تَعَالَى لا يتصور انفصالها عنه، بل هو الموصوف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع صفات الكمال، كما تقدم في قوله [مازال بصفاته قديما قبل خلقه].
    ثُمَّ قَالَ: [بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم] أي أنه دليل عليهم فإن قوله تَعَالَى في الآية نفسها ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) إذا كانت مخلوقة لا تصح أن تكون دليلاً.

    وكما قلنا: إنه يلزم من ذلك التسلسل إِلَى ما لا نهاية؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ))[الأعراف: 54] والخلق يكون بالأمر ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يـس:82] فالله يأمر فيكون الخلق؛ فله الخلق وله الأمر، فإذا قلنا: إن كلامه وأمره مخلوق، فالأمر كله داخل ضمن الخلق فيحتاج إِلَى أمر آخر فكل أمر يتخيله فهو مخلوق، وإذاً جعلنا كلمة "كن" مخلوق.
    فالله تَعَالَى إذا أراد: أن يقول للجبال: كوني أيتها الجبال فالجبال مخلوقة و"كن" مخلوقة فبأي شيء خلق "كن"؟ يحتاج إِلَى شيء آخر، وهكذا إِلَى ما لا نهاية. فلا بد: أن نقر بأن كلامه وأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مخلوق وإنما بها يكون الخلق.

    ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى الشبه الأخرى وهي: استدلالهم بكلمة (جعل) عَلَى أن القُرْآن مخلوق.
  4. فساد استدلال من يقول بخلق القرآن

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وأما استدلالهم بقوله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:3]، فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كَانَ بمعنى خلق يتعدى إِلَى مفعول واحد كقوله تعالى: ((وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ))[الأنعام:1] وقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ))[الأنبياء:30، 31].
    وإذا تعدى إِلَى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: ((وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً))[النحل:91] وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً))[البقرة:224] وقال تعالى:((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ))[الحجر:91] وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)) [الإسراء:29] وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] وقال تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً))[الزخرف:19] ونظائره كثيرة فكذا قوله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:30] إهـ.

    الشرح:
    إن من يستدل عَلَى أن القُرْآن مخلوق بقوله: إن جعل تأتي بمعنى خلق، شبهته باطلة فاسدة؛ لأنهم يقولون: أليس جعل تأتي بمعنى خلق في لغة العرب؟
    فيقول اللغويون لهم: نعم.
    فيقولون: إن الله تَعَالَى يقول: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً))أي خلقناه قرآناً عربياً إذاً فالقرآن مخلوق.
    يريدون أن يفحموا، ويلزموا بهذه الشبهة الواهية لمن تأملها وتدبرها، ويجاب عليهم بأن الفعل الماضي (جعل) يأتي في لغة العرب ناصباً لمفعولين، فإن أتى ناصباً لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق أو قريباً من معناها مثل قوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور))[الأنعام:1] جعل بمعنى خلق الظلمات والنور فـ"جعل" فعل ماضي والفاعل ضمير مستتر يعود إِلَى لفظ الجلالة، و"الظلمات" مفعول به وكذا قوله ((َجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) [الأنبياء: 30] نفس الأولى "جعل" فعل ماضي و"نا" ضمير فاعل و"كل" مفعول به.
    ((وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي))[الأنبياء:31] رواسي مفعول به، ((وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً))[الانبياء:31] أيضاً مفعول واحد.
    فمثل هذه المواضع تكون "جعل" بمعنى خلق؛
    لكن هناك آيات تكون "جعل" فيها متعدية إِلَى مفعولين ولا يقول أحد إنها في هذه المواضع بمعنى خلق.
    ولذلك نأتي بآيات قوية في الدلالة عَلَى هذا الشيء، لا يمكن للمعتزلي مهما مارى أن يقول إنها بمعنى خلق فقَالَ: إن قوله تعالى: ((وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)) [النحل:91] هل يمكن أن تقول: قد خلقتم الله عليكم كفيلاً، لا يمكن لأي معتزلي أن يقرأ جعلتم في الآية هذه بمعنى خلقتم أبداً، فلفظ الجلالة مفعول أول وكفيلا مفعول ثاني فـ"جعل" هنا بمعنى: صير، فتنصب المفعولين، وتكون بهذا المعنى وقوله تعالى: ((وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ))[البقرة: 224] لا يمكن لأحد أن يقول: ولا تخلقوا الله، إنما معناه لا تجعلوه، ولا تتخذوه، ولا تصيروه، فلفظ الجلالة مفعول أول، وعرضة هو مفعول ثاني.
    وكذلك قوله تعالى: ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر:91] عضين أي أجزاء، فعضة أو عضو بمعنى جزء، فهَؤُلاءِ جعلوا القُرْآن أجزاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض أو قسموه فيما بينهم فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن. فنحن وأنتم نتناظر في مسألة القُرْآن نفسه هل هو مخلوق أو غير مخلوق، فإذا كَانَ قوله "الذين" تعود إِلَى الكفار كما في آخر سورة الحجر ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) فالكفار هم الذين خلقوا القُرْآن وأنتم لا تقولون بهذا أبداً إذاً فـ"جعل" ليس بمعنى خلق إنما بمعنى: اتخذوه عضين، أو صيروه عضين، أي: جعلوه أجزاءً.
    وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ))[الإسراء:29] فقوله: ((وَلا تَجْعَلْ)) ليس معناها ولا تخلق يدك، إنما معناها ولا تصير أو لا تتخذ يدك هذا هو المعنى القريب منها إذا كانت متعدية لمفعولين، وإذا كانت متعدية لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق كقوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ))[الأنعام:1]
    والآية فيها عبرة ودقة، فلا يمكن أن يكون هذا من كلام البشر؛ لأنه خلق السموات والأرض والسموات والأرض، كما ترون جانب الخلق الحسي المشاهد عند الإِنسَان واضح فيها؛ لكن الظلمات والنور ليست أشياء يمكن للعقل أن يتصورها كمخلوقات محسوسة ملموسة أشبه ما تكون بالمعاني عَلَى الأقل في الذهن البشري.
    في حسنا نَحْنُ البشر أن الظلمات والنور أشبه بالمعاني التي لا تنسب، ولا نستطيع أن نجعلها بنفس المستوى الذي هو للسموات والأرض، فهنا أتى بكلمة خلق، وهنا بكلمة جعل، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وهكذا قد نظن وقد نتلمس الحكمة، ولكنَّ القُرْآن علمه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن قال فيه برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
    وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً))[الإسراء:39] معناها أي لا تتخذ مع الله إلها آخر وكذلك قوله تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرحمن إناثاً)) [الزخرف:19] ليس معناها أنهم خلقوا الملائكة ولكن صيروهم واتخذوهم أو اعتبروهم، فالملائكة مفعول أول وإناثاً مفعول ثاني: ونظائره كثيرة.
    فخلاصة ما سبق أن "جعل" في لغة العرب تأتي متعدية ناصبة لمفعول واحد، وتكون بمعنى "خلق"، وتأتي متعدية وناصبة لمفعولين، وتكون بمعنى اتخذ أو صير، ولم يأتِ ذكر في القُرْآن بأن "جعل" تتعدى إِلَى مفعولين إلا بالمعنى الثاني الذي هو بمعنى اتخذ وصير لا بمعنى خلق وإذا خرج ذلك فإنه تبطل الشبهة ويبطل الاستدلال الذي يستدل به المعتزلة ومن حذا حذوهم في هذا الباب.

    والشبهة الثانية وهي قولهم: إن الله خلق الكلام في غيره. أي هو كلامه لكنه خلقه في غيره، وفي ذلك كلام المُصنِّفُ الآتي.
    1. شبهة من يقول : إن الله خلق الكلام في غيره والرد عليهم

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: ((نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ))[القصص:30] عَلَى أن الكلام خلقه الله تَعَالَى في الشجرة، فسمعه موسى منها وعموا عما قبل هذه الكلمة، وما بعدها فإن الله تَعَالَى قَالَ: ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن))[القصص: 30] والنداء: هو الكلام من بعد: فسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام النداء من حافة الوادي ثُمَّ قَالَ: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] أي: أن النداء كَانَ في البقعة المباركة من عند الشجرة.
      كما يقول سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كَانَ الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة ((يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[القصص:30] وهل قَالَ: ((إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) غير رب العالمين؟
      ولو كَانَ هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى))[النازعات:24] صدقاً إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله وقد فرقوا بين الكلامين عَلَى أصلهم: أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله وسيأتي الكلام عَلَى مسألة أفعال العباد إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.

      الشرح:
      إن شبهة من يقول: إن كلامه هو ما يخلقه في غيره بينة البطلان وقولهم: إن خطاب الله لموسى عَلَيْهِ السَّلام هو أن الله خلق الكلام في الشجرة والشجرة هي التي خاطبت موسى عَلَيْهِ السَّلام ويستدلون بقوله تعالى: ((نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ))[القصص:30] وقد نبه المُصنِّف رحمه الله تعالى إِلَى أنه يجب عليهم أن يتأملوا السياق من أوله ثُمَّ ما بعدها ليعلموا من هو المتكلم حقيقة، لأن أول الآية ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ)) [القصص:30] والنداء هو الكلام عن بعد، فنودي موسى عَلَيْهِ السَّلام من شاطئ الوادِ الأيمن، فسمع موسى النداء من الشاطئ من عند البقعة المباركة من عند الشجرة فأنت عندما تقول: ناديت فلان من البيت. هل معنى ذلك أن البيت هو الذي ناداه؟
      فالله تَعَالَى نادى نبيه موسى عَلَيْهِ السَّلام من تلك البقعة من الشجرة -أي من عند الشجرة- فـ"من" هنا تسمى ابتداء الغاية أي منها ابتداء أو سماع النداء إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام.
      فالشجرة إذاً ليست متكلمة لا بكلام تكلمت به، ولا بكلام خلقه الله تَعَالَى فيها، وإنما هي الموضع الذي سمع منه الكلام، وهذا واضح فيقول المُصنِّف إِلَى قوله: ((نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ أنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[القصص: 30] فهل يمكن أن نقول الشجرة هذه العبارة؟
      لا يمكن أبداً.
      ولو قالت ذلك لكان قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وكلامها سواء‍!! بل كلام الإِنسَان الحي الناطق أولى بالقبول وأولى بأن يكون هو كلام الله أو أن يكون هو الحق والصدق من كلام الشجرة؛ لأن الإِنسَان يتكلم كما هو معلوم فـفرعون أو غيره إنسان أعطاه الله الكلام فقوله: (أنا ربكم الأعلى) وقول الشجرة: ((إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[القصص:30]
      إذاً: كلاهما كلام الله!!
      لكن ما الذي فعلته المعتزلة عكست الموضوع! فقالوا كلام فرعون خلقه فرعون في نفسه، وكلام الله خلقه الله في الشجرة، سُبْحانَ اللَّه! انحرفت العقول وضلت حتى أصبحت تثبت أن الإِنسَان هو خالق فعل نفسه، فكلمة فرعون (أنا ربكم الأعلى) هو الذي خلقها في نفسه، فلماذا لا يكون كلام الله هو الذي تكلم به عَلَى الحقيقة؟

      فعلى قولهم هذا الكلام كلام الشجرة والله خلقه فيها فهو منها وهو كلام الله، وليس لله كلام إلا ما نطقت به الشجرة، فجعلوا الحق في موضع الباطل، والباطل في موضع الحق، عافانا الله من الضلالة، ولايكون هذا التفريق إلا إذا كَانَ مرجع الإِنسَان إِلَى الهوى والتحكم الذي لا دليل عليه، وهذا لا يمكن أن يضبط، وتجده يُجحف دائماً فيما كَانَ لغيره، ولكن ما كَانَ له فإنه يراه هو الحق وهو الصواب، ويعمي بصره عن قبول ما سواه.
      وهَؤُلاءِ النَّاس لم يستمدوا الحق من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأثبتوا أنفرعونإلهاً وأن كل إنسان هو خالق، والخالق هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة.
      ومن جهة أخرى: نفوا عن الخالق صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابه ومنها صفة الكلام التي وقع فيها الجدال.
      حتى قيل إن من أسباب تسمية العلم بعلم الكلام لما وقع فيه من الكلام والجدل
      ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
      هذه هي حصيلة ما جمعوه.
    2. دعوة الفلاسفة والمفكرين إلى التفكير فيما ينفع

      إن الذي يضع رجله في الماء لكي لا ينام، ليفكر ويستنبط، وهذا أمثاله لو صرفت عقولهم إِلَى التفكير لا نقول في القُرْآن أو في التفسير أو في الحديث فقد كفى الله الأمة بهذه العلوم، ولكن لو أنها صرفت في التفكير الدنيوي مثل الرياضيات والحساب، أو في الفيزياء أو في الصناعة أو في الهندسة وفي غيرها من العلوم التي تنفع الأمة الإسلامية لكان للمسلمين في ذلك خير كثير، ولكن العقول الجبارة الضخمة اشتغلت بالشبهات والمناظرات والمناقشات في ذات الله، التي نهينا أن نفكر ونشغل عقولنا فيها، والكفار لما بدأ عندهم ما يسمى بعصر النهضة، شغلوا أنفسهم بالتجارب فقالوا دعونا من القياسات والاستنتاجات التي كَانَ يقول بها اليونانيون.
      يقول أرسطو: إذا سقطت كرتان من مسافة برج عالي فإن الكبرى منهما تصل الأرض قبل الصغرى هذا استنتاج عقلي.
      يقول العقل: الكبير يكون أثقل.
      ويقول جاليليو: نجرب هذه قد لا تكون صحيحة فذهب ورمى كرتين فوقعتا عَلَى الأرض متساويتين فَقَالَ إن كلام أرسطو كلام غير صحيح.

      اعتبر الغربيون هذه الحادثة أول بداية النهضة وفي نظر كثير من الباحثين أن جاليلو اعتمد عَلَى التجربة الحسية وترك الاستنتاج العقلي المجرد، وهكذا لما عملت العقول، واستعملت فيما أذن الله أن تعمل فيه، وفيما شرع أن تشغل به وصلت إِلَى ماترون من التقنية لكن هَؤُلاءِ شغلوا عقولهم وعلومهم وأذهانهم بالشيء الذي أمرهم الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكفوا عنه، وأمرهم أن يسلموا فيه لله تَعَالَى وأن يقولوا كما قال السلف الصالح كما ذكر الله عن الراسخين في العلم ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا))[آل عمران:7] آمنا بمحكمه وبمتشابهه بما علمنا وأدركنا وبما لم نعلم ولم ندرك بعقولنا.
      فعقولنا أدركت بسهولة: أن الله هو الخالق الذي خلق الكون وآمنت به، فإذا جَاءَ العقل يوسوس كيف ينزل وكيف استوى.
      نقول: كل من عند الله الذي قال هذه هو الذي قال هذه، وهكذا فالإِنسَان يؤمن بما جَاءَ من عند الله، ويكفيك أن هذا الكلام جَاءَ من عند الله، وبلّغه عنه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل به الروح الأمين من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ نقله أصحاب مُحَمَّد إلينا، ثُمَّ من بعدهم من الثقات الأثبات، فيكفينا أن ينقلوا ذلك، وإذا كَانَ الإِنسَان لا يؤمن بشيء إلا إذا عرضه عَلَى عقله أو نظر هل يقبله العقل أولا يقبله؟
      فما أكثر الضلال حينئذ، فأي عقول هذه التي نتحاكم إليها؟ عقلي أم عقلك!.